إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه

جبريل محمد الحسن


١٨ يناير ٢٠١٥

(وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه .. وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق .. فأخذتهم، فكيف كان عقاب)
اليوم تمر علينا الذكرى الثلاثون .. وها هي قد امتدت الغيبة لثلاثين عاما .. فإنه لما تواصل اعتقال الأستاذ مع القياديين 1976-1977 وقارب الثلاثين يوما قال لهم الأستاذ: واعد الله موسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر فكان الميقات أربعين ليلة.. وأنتم ستكملون في الأيام المقبلة ثلاثين ليلة، فإن اجتهدتم في العبادة والتوجه لله فستخرجون عند إكمال الثلاثين وإلا ستمكثون حتى الأربعين ليلة. والشاهد أنهم خرجوا بعد إكمال الثلاثين ليلة بالتمام والكمال.
كان يقول استعجلوا الله بلسان حالكم ولا تستعجلوه بلسان مقالكم وذلك في تعليقه على الآية (أتى أمر الله فلا تستعجلوه..).. ويقول في حديث الغربة (إذا كان كل واحد عرف مسئوليتو، عرف خطورة القامة المطلوبة منو، والمقام المطلوب أن يملاهو، وعكف على نفسو، إفتكر المشوار قصير..) ولكن علمتنا الأيام ألا حول لنا ولا قوة إلا به.. ولا صلاح أو فلاح إلا بوجوده .. فقد انتهى عنده انهزامنا، وعظمت عيوبنا كثرة، ولكن يقيننا أن سترك أعظم، فأنت الكريم المنعم، وأنت الغفور الأرحم .. ولسان حالنا يدعو ويناجي (هذه نفسي فبدلها بنفس للمعاني في المعاني مستجيبة) وفي خارجنا، فقد كثر الظلم وتفشي المرض وعم الجهل ودمرت القيم (إن تعذبهم فإنهم عبادك .. وإن تغفر لهم فإنك انت العزيز الحكيم) ويتعالى في الأفق صوت المنادي للالتزام بالأدب الذي تدعو إليه الآية (ولوانهم صبروا حتى تخرج إليهم، لكان خيرا لهم .. والله غفور رحيم) .. إلا أن صبرنا قليل ورجاءنا كبير وشوقنا كثير..
ومتى نظرت في تاريخ المجتمع البشري منذ نشأته والى يوم الناس هذا، ظهر لك جليا أن بعض الأنبياء والصالحين والمفكرين كانوا فداية لمجتمعاتهم ببذل أرواحهم، طوعا وكراهية، لضمان مواصلة مسيرة القافلة البشرية.. ففي بداية النشأة قتل قابيل أخاه هابيل، بعد أن تقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل من قابيل (إنما يتقبل الله من المتقين).. مات هابيل شهيدا، وذهب الى ربه مرضيا، وترك خلفه ميراثا روحيا كبيرا للبشرية تجلى في تخلقه بدعوة التسامح ونبذ العنف ومخافة الله (لئن بسطت الي يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك .. إني أخاف الله رب العالمين) وبموته أنزل الله دستورا يصون به دم الفرد البشري ويجعل موته بغير حق كأنه قتل للبشرية جمعاء (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).. مات هابيل ليفسح الطريق أمام قابيل ليفوز بزواج أخته الجميلة، ويقود معها مسيرة تطور البشرية والى يومنا هذا، ويداه ملطختان بدماء أخيه هابيل، ذلك الرجل التقي الطاهر والمقبول عند الله.. فقد كان هابيل هو البداية، وفاتح الطريق لأبواب الفداية.. (وكذلك كان العرف الاجتماعي الأول، شديدا عنيفاُ، يفرض الموت عقوبة على أيسر المخالفات، بل إنه يفرض على الأفراد الصالحين أن يضعوا حياتهم دائما في خدمة مجتمعهم، فقد كانت الضحية البشرية معروفة تذبح على مذابح معابد الجماعة ..) (الصوفية سلفنا ونحن خلفهم.. كانوا بيفدوا الناس، الوباء يقع يأخذ الشيخ الكبير، الصوفى الكبير وينتهى الوباء.. دى صورة غيركم ما يعقلها، كثيرة هي..)
واستمرت مهرجانات الفداء في التضحية وبذل الأرواح لإسعاد المجتمعات، ورفع الضرر والبلاء عنهم، تتواتر عصر بعد عصر، وجيل بعد جيل يتقدمهم الأنبياء والأولياء، ثم المفكرين والمصلحين والعظماء، والجميلات من بنات الأسر العريقة والنبيلة.. فالبشرية تعشق قتل الأنبياء والمفكرين والمصلحين (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ..) أي يقتلوه .. (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون).. ونسوق نماذج في ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
في عام 399 قبل الميلاد تم تنفيذ حكم الإعدام في أثينا الديمقراطية بشيخ بلغ السبعين عاما وهو الفيلسوف سقراط بتجرع قدح سم الشوكران.. تم إتخاذ الحكم أمام هيئة محلفين مكونة من 501 عضوا بغالبية 36 صوتا وكانت التهمة إفساد عقول الشباب بالآراء التي ينشرها.
في الثالث من نوفمبر 1411م أعتقل المصلح الديني (جان هوس) التشيكي وأخضع لحفلة تحقيق جهنمية من أجل كتاباته، وأدين في 6 يوليو 1415م بسبب ثلاثين جملة إعتبرت هرطقة وحكم عليه بأن يحرق حيا..
وفي 27 أكتوبر 1553 أدين الطبيب الأسباني (ميشيل سرفيتوس) مكتشف الدورة الدموية الصغرى بسبب قوله بالتوحيد وتعميد البالغين، فأحرق حيا..
في 6 يوليو 1535 تم إعدام توماس مور عن طريق قطع الرأس في مدينة لندن بعد أن اتهم بالخيانة العظمى. فقد كان وزيراً للعدل، ولكنه استقال من منصبه لأنه لم يقبل طلاق الملك هنري الثامن من كاثرين، كما رفض قبول قانون السيادة - سيادة الملك على الكنيسة . وهو صاحب كتاب "اليوتوبيا" الشهير، أو المدينة الفاضلة، وكتب أخرى..
وفي عام 1556 كان المصلح الديني البريطاني توماس كرانمر يشغل منصب أسقف كانتربري أول مترجم للإنجيل الى اللغة الإنجليزية وقد أدين على آرائه في الإصلاح الفكري بسوقه الى المحرقة ليشوى على نار هادئة.
وفي 19 فبراير عام 1600م أحرق المصلح الديني جيوردانو برونو الإيطالي على ألسنة اللهب المتصاعدة حيا وكان عمره 52 سنة بسبب رأيه الكوسمولوجي عن كون دون حدود ومجرات لا نهائية تتزاحم في الملأ العلوي .
قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين – وهم من العشرة المبشرين بالجنة.. وقتل الإمام الحسين بن علي وقطع رأسه ومثل بجسده، وقتل من زعماء آل البيت: زيد بن الإمام علي زين العابدين وإبنه يحي، وقتل محمد النفس الزكية، وقتل الحسين بن علي بن الحسن.. وقتل الحلاج وقتل السهروردي .. والقائمة تطول وتطول..
قبل إصدار الحكم إرتجل الأستاذ كلمة أمام محكمتهم المهزلة، أذلت وإحتقرت أعز ما يملكون .. فقد كانوا يظنون أنهم بهذه المحاكم يخيفون كل الناس ويسترهبونهم.. فهي قد صنعت واستغلت لترى الجميع يطأطئ رأسه وينحني أمام جبروتها.. ولكنه بتلك الكلمات قد هد بنيانها وحطم أسوارها.. فقد كان، حقا، هو الذي يحاكمهم أمام التاريخ، وأمام الفكر المستنير .. وأكد لهم أنهم ليسوا سوى خيالات ظل تموج على صفحة الماء، وأوهام من صنع أنفسهم المريضة .. وكما قال عنها: زبد وينتهي.. وقد كانت كذلك (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).. وإنتصر لهذا الشعب الأبي ورفع صوته عاليا في الملأ، يعلن أمامها بأنه ليس بالشعب المستحق لهذا الإذلال وهذا التحقير.. (أنها وضعت واستغلت لإرهاب الشعب وسوقه الى الإستكانة عن طريق إذلاله) .. وإمعانا في إذلال هذه المحاكم وإنتصارا لهذا الشعب العملاق فقد داس الأستاذ على قدسيتها الزائفة وقذف بها في مستنقع الوحل بقوله لهم (ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب، وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين)..
فقد ذكر لي المرحوم القاضي المقيم محمد محمد خير أنه لا يوجد قاض في الدنيا، كلها، يقبل أن تقال مثل هذه الكلمات في حقه وفي حق المحكمة، ثم يسكت عليها ويواصل إجراءات المحاكمة، كأنها دفوعات مشروعة من المتهم.. فإنه بذلك يكون قد أساء الى القضاة والى القانون الذي يتحاكم به .. فإن القاضي إذا شعر بأن المتهم يشك في نزاهته، فإن الأمانة المهنية تقتضي بأن يحول القاضي القضية الى زميل آخر.. فالقاضي ليس خصما للمتهم ولا يجوز له أن يشعر المتهم بذلك.. ولكن الأستاذ يخاطب محكمتهم بقوله (إن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنيا وضعفوا أخلاقيا) .. والقاضي يواصل كتابة هذه العبارات بخط يده وكأنها عبارات إطراء له ولمحكمته.. فقد أصبحت تلك الكلمات المرتجلة نبراسا يضيء الظلام للصاعدين في طريق العزة والمجد، وكلمات يرددها الأحرار جيل بعد جيل.. وسجلها التاريخ دستورا للحرية وللنضال وللشموخ.. فأين تلك المحاكم اليوم ؟؟!! وأين الذين كانوا يتولون المحاكمة تحتها؟؟!! (هل تحس منهم من أحد.. أو تسمع لهم ركزا)
ثم جاء دورك يا صباح .. جئت لتختم الفداء، وترفع المعاناة، وتحقن الدماء.. جئت لترفع الدعوة المكتوبة على البشرية (قال اهبطا منها جميعا .. بعضكم لبعض عدو..).. كان تتويج الفداء، وعنفوان الشموخ والإباء.. (قف ساعة حتى أعلمك الفداء) .. فقد كان الفداء هو كتابه الأخير من السلسلة التي إفترعها تحت عنوان، تعلموا كيف .. . تقدم طائعا مختارا (فيا سودان إذ ما النفس هانت أقدم للفداء روحي بنفسي).. وودعهم بإبتسامة تقول: أنا السلام، ومني السلام، وإليكم السلام..
قبل التنفيذ بثلاثة أيام إجتمع بتلاميذة الأربعة الذين كانوا معه في الإعتقال ودار بينهم الحوار التالي:
(هل عندكم عهد من الله أن هذا الحكم لا ينفذ؟ أجابوا بلا..
فقال: مش إنتو قبض عليكم لأنكم عارضتم قوانين سبتمبر؟
قالوا: نعم ..
قال: مش قوانين سبتمبر ماهي من الدين؟
قالوا: نعم ..
قال: إنتو عارضتوا هذه القوانين من أجل الدفاع عن الدين؟
قالوا: نعم ..
قال: هل إنتو عملتوه بإعتباره واجب مباشر ؟؟
قالوا: نعم ..
قال: إذن ما تحددوا لي الله يكافئكم كيف على عملكم ده.. إن خلاكم بي هنا خير .. وإن وداكم بي هناك خير ..)
وكان يقول: لا تجربوا الله، خلو الله يجربكم ..
فقد كانت تلك العبارات عنده هي منهاج المواجهة المتخلق بأدب العبودية.. ولم تكن عباراته وعظ وقول وإنما هي معاني وسيرة يعيشها ويتخلق بها قبل أن يقولها لتلاميذه .. وكانت هي سمة سلوكه حتى لحظة التنفيذ .. وهذه السيرة العطرة، المحققة لأرفع معاني العبودية، والعلاقة السامية بالله يرويها لنا اللواء محمد سعيد مدير سجن كوبر وقتذاك، فيقول:
أنا طيلة عملي في السجون .. كنت ألاحظ أن المحكومين يخافون.. ولكني أمام هذه الحالة، رأيت عجباً .. لم يجزع الرجل، أو يخاف مطلقاً، كان داخل الزنزانة، يمارس حياته بشكل عادي، ويختلط بالمعتقلين الآخرين من الجمهوريين.
لقد أحضروه .. وقد رأيته وهو في طريقه للمشنقة، كان ثابتا بشكل غير عادي .. لم يرتجف.. ثابتا، كأنه ذاهب إلى نزهة !!.. لم أحسّ بأنه خائف ولا حتى متردد.. لقد صعد للمشنقة بثبات عبر المصطبة المعدة لذلك .. ! لقد كان ثابتا 100%.. .
أنه إنسان جاد جداً.. . ويحرص على النظام.. . إلا أن ملامح "ود البلد" بائنة في شخصيته وطريقته.. يبذل مجهوداً كبيراً ليتحدث معك بالحجة والمنطق.. . ولكنه مستمع جيد جداً.. . وما لفت نظري أنه "غير ثرثار".. . إذ يهتم بالتركيز في الكلام وقول القليل.. . هذا الرجل كان مختلفا..
مدرسة قائمة بذاتها.. . قائد فذ.. . ومتدين.. . يحيطه تهذيب غير عادي.. . تخرج منه بانطباع ممتاز جداً حول أنه شخصية تتمتع بكل صفات السوداني.. . لا تحس بأنه يكذب.. . بل على العكس، تحس بأنه صادق بالفطرة.. . بل ويتحرى الصدق في كل ما يقول.. . به ومنه تواضع حقيقي، دونما تمثيل أو تصنع.. باختصار، كان الرجل بلغة السودانيين "شيخ عرب" في كل شيء.. يجمع بين الصرامة والبساطة والتواضع.. . والعلم الغزير. وأبرز ما لفت نظري أنه صلب للغاية. وشديد التمسك بقناعاته ومعتقداته..

وكتب محمد الحسن محمد عثمان - قاضى سابق:
يطلب السجان من الاستاذ محمود ان يستدير يمينا .. ويستدير الاستاذ ويواجهنا تماما .. يتم كشف الغطاء عن وجه الاستاذ .. يبتسم الاستاذ، وهو يواجه القضاة الذين حكموا باعدامه، بابتسامه صافيه وعريضه وغير مصنوعه .. وجهه يشع طمأنينة لم أرها فى وجه من قبل …قسماته مسترخيه وكانه نائم …كان يشوبه هدوء غريب …غريب .. ليس فيه ذرة اضطراب وكأن الذى سوف يعدم بعد ثوانى ليس هو … والتفت الى الجالسين جواري لاري الاضطراب يسودهم جميعا .. فؤاد يتزحزح فى كرسيه وكاد يقع .. عوض الجيد يكتب حرف نون على قلبه عدة مرات .. والنيل يحتمى بمسبحته فى ربكه (النيل تعرض لاتهام بالرده فى عهد الانقاذ وتاب) كان الخوف والرعب قد لفهم جميعا والاستاذ مقيد لاحول له ولاقوه …ولكنه الظلم جعلهم يرتجفون وجعل المظلوم الذى سيعدم بعد لحظات يبتسم !!

وكتب دكتور الشفيع خضر:
ثم جاءوا بالشيخ مكبلا ومغطى الرأس حتى العنق.. .. كان يمشي بثبات وبطولة.. . لم، وأعتقد لن، أرى خطوة ثابتة وقوية مثل تلك الخطوات التي كانت تتجه، مدركة، إلى السكون الأبدي.. . كانت الخطوات تكتب على أرض ساحة الإعدام: نعم، أشهد أني أنقله من الشيخ القوي إلى الشيخ الشهيد.. .لكنه الشيخ الثابت على المبدأ.. . الشيخ المنتصر.. . الشيخ الملهم.. .. ..
تعالت صيحات الهيستريا والهوس المجنون.. .وتضاعفت.. .كانوا كثر.. .أتوا ليروا هزيمتهم.. .ولكن هل يروا؟ كان الجلاد حزينا وهو يلف حبل المشنقة حول عنق الشهيد.. .. بعد تلك اللحظة تخلى عن "مهنته" إلى الأبد!. وفجأة أمر القاضي بكشف الغطاء عن وجه الشهيد.. . وكشف عن وجه الشهيد.. .. يا للروعة ويا للعظمة.. .كان مبتسما وهادئا وساخرا.. . ما أجمل ذلك.. شجاعة وصمود وبسالة وإيمان.. .وإزدراء للموت.. .لم، وأعتقد لن، أرى مثل ذلك قط.. ! ومع كشف وجه الشيخ أخرست كل عواءات الهوس.. .وأطبق صمت رهيب.. رهيب إلا من أصوات إرتجافاتهم.. .والشيخ ينظر إليهم في إبتسامة خالدة.. .إبتسامة تجهيل ورثاء.. ! ما أقوى أن ترد الحقد بالرثاء حتى وهو يقتلك!!