إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١١ - الأخيرة)

خالد الحاج عبد المحمود


يناير ٢٠١٥

المادة والروح:


إن من أكبر، وأهم، المتغيرات، والتي سينبني عليها الكثير جدا، والهام جدا، التغيير الذي يتعلق بالنظرة المادية للكون، وللحياة.. فالحضارة الغربية حضارة مادية، في جوهرها، وقد ظل التفكير المادي، سائدا فيها، منذ عصر النهضة، والى اليوم.. وقد تأثر هذا التفكير، بتطور العلوم الطبيعية، تأثرا كبيرا، منذ نيوتن، وحتى نسبية اينشتاين.. وقد كانت النظرة العلمية السائدة للكون، قبل اينشتاين، هي النظرة الميكانيكية، التي تنظر إلى الكون كآلة كبيرة، تحكمها قوانينها الداخلية، المنتظمة، والحتمية.. وتحت سيادة هذه النظرة جاء رد لابلاس على نابليون، عندما سأله عن موضع الله، في تصورهم هذا للكون، فقد رد لابلاس بأن الله، فرضية، لا توجد حاجة إليها!! ولكن كل ذلك قد تغير بصورة جذرية، بعد نظرية النسبية، ونظرية الكم.. ولكن هذا التغيير الأساسي في مجال العلم، لم ينعكس حتى الآن، بصورة ايجابية، على مجال الفكر، ومجال الحياة.. وأهم ما يعنينا هنا، نظرية اينشتاين، عن التكافؤ بين المادة والطاقة، فهي قد أثبتت بصورة علمية، نهائية، أن المادة ليست أصل الكون.. ليس ذلك فقط، وإنما أكثر منه، أنها هي نفسها أساسا غير موجودة بصورتها المعروفة، إلا في الظاهر، الذي يقوم على وهم الحواس!! وهي مظهر لشئ وراءها، هو الطاقة.. والطاقة هي الروح بالنسبة للمادة يقول الأستاذ محمود، في هذا الصدد: "إن العلم التجريبي الحاضر قد خدم البشرية على هذا الكوكب خدمات لا تحصى، ولكن هناك خدمة لم نتفطن، إلى الآن، إلى حقيقة عظمتها، وتلك هي أنه بإطلاق الطاقة الذرية، بتفتيته للذرة، فقد لفت نظرنا إلى أن البيئة التي عاشت فيها الأحياء، قبلنا، ونعيش فيها نحن اليوم، ليست في حقيقتها مادية، وإنما هي روحية ذات مظهر مادي.. بل إن المادة، كما نعرفها، ونألفها، ليست هناك، وإنما هي وهم من أوهام الحواس، وعندما ردها العلم الحديث إلى أصولها الأولية انقلبت إلى طاقة تدفع وتجذب في الفضاء، والعلم الحديث قد عرف خصائص هذه الطاقة، ولكنه عجز عن معرفة كنهها، ووقف عند عتبة الكنه عاجزا لا يبدي، ولا يعيد، ولا يدعي، لأنه أحق من يفهم أن مقامه عند هذه العتبة، وأنه لا يستقيم مع كرامة نفسه عنده، أن يدعي لها ما لا يكون أبدا..
البيئة التي نعيش فيها الآن، إذن، قد برهن العلم المادي التجريبي الحديث نفسه على أنها ليست مادية وإنما المادة مظهر لشئ وراء المادة. وهذا الشئ الذي وراء المادة يعبر الإسلام، عن أدنى منازله من المادة، بالروح، أو إن شئت التعبير الحديث، قل بالفكر.. فالبيئة التي نعيش فيها فكرية، تجسدت فيها الأفكار، واتخذت مظهرا نسميه نحن المادة.. ومن ثم فالوحدة البشرية التي تطلب البيئة الجديدة إلى الإنسانية تحقيقها إنما سبيلها الفكر.. فالناس يختلفون في اللون، وفي الإقليم، وفي اللغة، وفي العنصر، وفي العقيدة، ولكنهم، كلهم، يلتقون في العقل. فإن الإنسان في أدنى مراتبه من منازل الحيوان، قد تميز عنه بالعقل، وهو لا يدخل حظيرة الإنسانية إلا به - فيما عدا الحالات الطارئة" كتاب مشكلة الشرق الأوسط أكتوبر 1967م -
إن الفهم الجديد للبيئة، يطلب منا أن نتواءم مع ظاهرها المادي، وباطنها الروحي، في آن معا، على أن نعلم أن الروح هي الأصل، والمادة فرع، وهذا الفهم وما ينبني عليه من توائم مع البيئة، هو ما لا يمكن أن توفره الحضارة الغربية، وذلك لأنها حضارة ذات بعد واحد، هو البعد المادي.. وهذا يشكل السبب الأساسي في فشلها، ويجعلها في أشد الحاجة، لنفخ الروح، في هيكلها المادي العملاق...

الإنسان أولا:


يقول الأستاذ محمود: "ويجمل بنا هنا أن نقرر حقيقة، كثيرا ما قررناها، ولكن تكرار تقريرها مرجو الفائدة دائما.. تلك الحقيقة هي: أن ليست هناك غاية في ذاتها إلا الإنسان.. وكل شئ في الوجود إنما هو وسيلته، بما في ذلك القرآن، والإسلام، والتشريع"..ويقول: "إن حكم الوقت يجعل آيات النفوس، أهم من آيات الآفاق". ويقول: "إننا نعيش في عصر العلم، والفكر - في عصر التكنلوجيا، وعصر الفضاء، وعصر دقائق العلم بخواص المادة، ونستقبل، كل يوم، مزيدا من دقائق العلم بكل أولئك - وليس هذا العلم هو حاجتنا بالأصالة، وإنما هو حاجتنا بالحوالة.. وما حاجتنا بالأصالة إلا للعلم بدقائق النفس البشرية.. نحن نبحث عن أنفسنا - نريد أن نجدها، وأن نعرفها، وأن نكون في سلام معها - هذا هو العلم الحقيقي الذي سيتوج العلم المادي الحاضر ويوجهه.."..إذا فالإنسان أولا، وقبل كل شئ، وبعد كل شئ.. ومعادلة التغيير، التي تقتضيها تحديات الواقع، لا تكون سليمة إلا إذا اتجهت إلى تغيير الإنسان نفسه، قبل كل شئ، وأي عمل لا يتجه إلى تغيير الإنسان، يكون عملا في معالجة أعراض المرض، دون المرض نفسه.. أو المحاولة لتقويم الظل، والعود أعوج!! يجب أن يكون هدفنا ومعيارنا الأساسي، في التغيير، هو العمل على تحقيق إنسانية الإنسان.. هذا هو واجب كل فرد، وواجب كل مجتمع.. وينبغي أن يكون هو المعيار الأساسي للتقدم.. إننا نتحدث كثيرا عن الحقوق، ولا نكاد نحقق شيئا مما نتطلع إليه منها، والعلة الأساسية في ذلك، هي أننا نهمل الواجب!! بل أن مجرد تصورنا النظري للواجب، قاصر أشد القصور..
هذا عرض عام، موجز، للأسس التي يقوم عليها تصور الإسلام للواقع، وللأساس الذي تقوم عليه قراءة الواقع، مع بعض النماذج الأساسية، لقراءة الواقع الحضاري السائد، وما يفرضه من تحديات أساسية.. والحديث على قصره، وتركيزه على القضايا الأساسية وحدها، إلا أنه، قي تقديري، كاف، لوضع الأساس، لنقد الواقع، وبيان ما هو متحول نحو الزوال، وما هو منتظر، أن تكون له السيادة، في الواقع الجديد المقبل، والذي يتشكل الآن في رحم الواقع الحاضر.. والتفاصيل ستتضح في الحلقات القادمة.. وما نحب أن نختم به هو، إن من لا يستطيع أن يقرأ الواقع قراءة صحيحة، يستحيل في حقه أن يستجيب لتحديات هذا الواقع، استجابة سليمة.. وهذا يصلح أن يكون أساسا، لنقد الأفكار، التي تطرح نفسها للتطبيق، في إطار الواقع القائم، أو التي هي مطبقة بالفعل..