إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة
الحقوق الدستورية في أصول القرآن الكريم (٢-٣)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


لقد أسسنا في الحلقة السابقة مفهوم الدستور والمساواة في الحقوق من أصول الدين، وقلنا إن مجتمع القرن السابع كان قاصرا مما استوجب نسخ الدستور وفرض الوصاية عبر ما عرف بالشريعة، فالدستور أصل والشريعة فرع أملتها الضرورة.. ولذلك فإن أي حقوق منقوصة فرضت في إطار الوصاية إنما تجد تبريرها في ملابسات تطور المجتمع والأفراد من القصور نحو المسئولية.. وقد جعلت تلك الشريعة حق المرأة في الشهادة على النصف من الرجل، وكذلك في الميراث، وفي الزواج على الربع منه!!
السؤال هو: هل كانت هناك ظروف موضوعية تقنعنا بأن تلك الحقوق المنقوصة كانت ضرورة لا يمكن تجاوزها في الشريعة المرحلية!!؟؟
إذن فلنستمع إلى الأستاذ محمود وهو يجيب على هذا السؤال من كتابه (تطوير شريعة الأحوال الشخصية):
المرأة:
تحدثنا عن الرق، وكيف أنه ثمرة الحروب، والمغارات، وكيف أن الرجال يسترقون، والنساء يسبين، فيضممن إلى الرقيق، أو يضممن إلى الحريم، فظهر، من ههنا، حظ المرأة المسبية.. فما هو حظ المرأة الحـرة؟؟ أهي رقيق أيضا؟؟ أم هل هي ملكـة؟؟
إن وضع المرأة في الأسر وضع غريب حقا.. إنها ليست رقيقا، بالمعنى المفهوم عن الـرق، ولكنها ليست حـرة.. فالرقيق يكاد يعامل من وجهة نظر واحـدة، هي الشعـور بأنه مال مملوك، ضمن المال.. ولكن المرأة تعامل من وجهة نظر تنبعث من خليط من المشاعر.. فهي مملوكة، وإن اختلف نوع ملكيتها عن ملكية الرقيق.. وهي محبـوبة، وحبها يبعث على استحواذ الرجل عليـها.. وهي ماعون الولـد، والحرص على إنقاء النسب يسوق إلى تشديد الرقابة عليها.. وهي ضعيفة، في مجتمع الفضيلة فيه للقوة.. وهي متهمة، ومظنة خطيئة، فلا ترى لها عفة مرعية إلا عفة يسهر عليها الرجل..
يقول شاعرهم في ذلك:
أسـكين، ما ماء الفــرات وطيبه مني على ظمأ وبعد شــراب
بألـذ منـك، وان نـأيت، وقلمـا ترعى النســاء أمانة الغيـاب!!
من هذه المواقف المختلطة، ومن مشاعر غيرها، تدخل في بابها، جاءت معاملة المرأة، وضرب عليها الحجاب، وعوملت معاملة القاصر، المتهم.. ونزع أمرها من يدها، وجعل إلى أبيها، أو أخيها، أو وليها من أقاربها الأدنين، أو قد يجعل لمطلق رجل من العشيرة، أو للحاكم، أو لزوجها.. ولا يكاد يختلف حظ المرأة في بلد، دون بلد، إلا اختلافا طفيفا.. وعندنا في الجزيرة العربية، عندما أشرقت عليها شمس الإسلام، كانت الأنثى تعامل شر معاملة.. وكان التخلص منها يعتبر مكرمة من المكارم، وكانت، من أجل ذلك، تدفن حية.. ولقد جاء الإسلام بتقريعهم على هذا الصنيع الشنيع.. قال تعالى: ((وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به.. أيمسكه على هون؟؟ أم يدسه في التراب؟؟ ألا ساء ما يحكمون!!)).. وقال تعالى، في موضع آخر: ((وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتـلت؟؟)) وهي إنما كانت توأد حية لأمر من أمرين، أو لكليهما معا: إما خوف المضايقة في الرزق الضيق، أو خوف العار.. فقد كان المجتمع الجاهلي، في الجزيرة العربية، يعيش في ضنك شديد، وفي جوع عضوض.. وكان مجتمعا لا يرعى تنظيمه قانون، فهو يمثل قانون الغابة، في أبشع صوره، حتى أنهم قالوا: ((من غلب سلب)).. وكانت الأنثى، في مجتمعهم هـذا، تكلفهم المشقة، والجهد الجهيد، في إعالتها، وفي حمايتها من غارات المغيرين، من أشقياء القبائل الأخرى.. ومع كل أولئك فقد كانت معاملتها كرقيق مملوك أظهر صيغ معاملاتها.. فكان الجاهليون يتزوجون العشر، والعشرين زوجة.. يستغلون النساء، يستولدونهن، ويستخدمونهن في بعض أعمالهم.. وهم عن طريق الزواج، يمارسون الرق.. ولا تزال صور بشعة، من هذا الاسترقاق عن طريق الزواج، تمارس في المجتمعات المتخلفة المعاصرة.. ونحـن، في بعض أجزاء بلادنا، نعرفها.. وعندي أن التسلط على المرأة، حين يكون معتدلا، ومستهدفا حماية عرضها، وصون عفتها بضرب الحجاب المعتدل عليها، يكون أمره مقبولا بمقتضى حكم الوقت.. ولكن هناك كثيرا من التسلط عليها، ممن لا يهتمون بصونها، ولا بعفـتها.. فيرجع الأمر إلى الملكية، والاسترقاق.. ومهما يكن من الأمر، فإن الاعتدال في معاملة النساء أمر نادر.. فالحجاب الذي يضربه المسلمون اليوم على نسائهم، في بعض البلاد الإسلامية، فيه شطط يمليه سوء الظن، والغيرة المتهمة، وحب تسلط القوي على الضعيف.. فقد جاءت الشريعة الإسلامية السلفية بضرب من الحجاب، فيه الاعتدال المطلوب، والقصد الحميد، ولكن الناس يتجاوزونه، بدوافع مما أسلفنا ذكره..
ثم إن الإسلام ورث هذه الأوضاع البشعة التي كانت تجري في مجتمع الجاهلية.. فحسم المشتط منها حسما.. ولكنه لم يكن ليتخلص من سائرها، فينهض بالمرأة إلى المستوى الذي يريده لها في أصوله، وما ينبغي له أن يتخلص، وما يستطيع.. ذلك بأن حكمة التشريع تقتضي التـدريج.. فإن الناس لا يعيشون في الفراغ.. والمجتمعات لا تقفز عبر الفضاء، وإنما هي تتطور تطورا وئيدا، وعلى مكث.. فوجب على التشريع إذن أن يأخذ في اعتباره طاقة المجتمع على التطور، وحاجته الراهنة فيجدد قديمه، ويـرسـم خط تطـوره، ويحفـزه على السير في المراقي.. وهذا ما فعله التشريع الإسلامي.. فإنه قد احتفظ بتعدد الزوجات، ولكنه حصره في أربـع، مراعيا، في ذلك، أمرين حكيمين. هما إعزاز المرأة، وحكم الوقت.. فأما حكم الوقت فإنه قد كانت المرأة تعيش في المستوى الذي أسلفنا ذكره، وما كانت إذن لتستطيع أن تمارس حقها في المساواة، بين عشية وضحاها.. وإنما كانت لا بد لها من فترة انتقال، تتهيأ خلالها لتنزل منزلة عزتها، وكرامتها، كاملة، غير منقوصة.. ومن حكم الوقت أيضا أن كان عدد النساء أكبر من عدد الرجال، وذلك لما تأكل الحروب منهم، فرأى الشارع الحكيم: أنه أن يكن للمرأة ربع رجل، يعفها، ويصونها، ويغذوها، خير من أن تكون متعنسة، بغير رجل.. وكذلك سمح بالتعدد إلى أربع.. فقال: ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء، مثنى، وثلاث، ورباع.. فإن خفتم ألا تعدلوا، فواحدة)) وقال، في موضع آخر: ((وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا، أو إعراضا، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا.. والصلح خير.. وأحضرت الأنفس الشح.. وإن تحسنوا، وتتقوا، فإن الله كان بما تعملون خبيرا .. ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم.. فلا تميلوا، كل الميل، فتذروها كالمعلقة.. وإن تصلحوا، وتتقوا، فإن الله كان غفورا رحيما..)) فهو ليصل إلى شريعته هذه المتمشية مع حكم الوقت، تنزل عن أصله، وتجاوز عن العدل التام، وسمح ببعض الميل، فقال: ((فلا تميلوا، كل الميل)) مع إنه، لولا حكم الوقت، لم يكن ليسمح إلا بالعدل التام.. وهو، في أصول الدين، لا يتجاوز عن بعض الميـل.. وفي أمر المال فإنه أشرك الأنثى في الميراث، ولكنه جعلها على النصف من الرجل، فقال،: ((للذكر مثل حظ الأنثيين)) وأدخلها في عدالة الشهادة، ولكنه جعلها على النصف من الرجل أيضا، فقال: ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم.. فإن لم يكونا رجلين، فرجل، وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)).. إن هذه الشريعة السلفية عادلة، وحكيمة، إذا اعتبر حكم الوقت.. ولكن، يجب أن يكون واضحا، فإنها ليست الكلمة الأخيرة للدين.. وإنما هي تنظيم للمرحلة، يتهيأ بها، وخلال وقتها، المجتمع، برجاله ونسائه، لدخول عهد شريعة الإنسان، ويتخلص من عقابيل شريعة الغابة، خلاصا يكاد يكون تاماً.. ويومئذ تعامل المرأة، في المجتمع، كإنسان.. لا كأنثى.. ذلك هو يوم عزها المدخر لها في أصول الدين..))..

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق
Maalthoraia3@gmail.com