إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة
الحقوق الدستورية في أصول القرآن الكريم (٣-٣)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


نواصل ما جاء في كتاب (تطوير شريعة الأحوال الشخصية للأستاذ محمود محمد طه) حول قضية حقوق المرأة:
الوصــاية:
بينا أن الشريعة الإسلامية، حيث قامت على آيات الفروع، فقد قامت على عهد الوصاية.. وهو عهد لا بد أن يكون مرحلياً فإنه، إلا يكن كذلك، تكن آيات الأصول، وهي قمة ديننا منسوخة، وإلى الأبد بآيات الفروع، وهي دونها بما لا يقاس.. ومعنى هذا أن يقدم المفضول على الفاضل، وهذا ما لا يكون لأنه يتنافى مع الحكمة.. فلم يبق إلا أن نسخ الفاضل بالمفضول هو نسخ مؤقت.. والحكمة وراءه إنما هي نقل المجتمع المتخلف، في المراقي، ليستعد ليستأهل آيات الأصول.. وحيث كانت الأمة قاصرة، وكان النبي وصياً حتى على الرجال، فإن الرجال، بدورهم، وعلى قصورهم قد جعلوا أوصياء على النساء.. وذلك لمكان قصورهن الكبير، الذي ورثنه من العهد الجاهلي.. والآية التي تقوم عليها وصاية النبي على الرجال، هي آية الشورى وقد أوردناها من قبل ونصها: ((فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا، غليظ القلب، لانفضوا من حولك.. فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر.. فإذا عزمت فتوكل على الله.. إن الله يحب المتوكلين)).. قوله: ((فإذا عزمت فتوكل على الله)) هو الذي يحمل سر الوصاية.. فكأن الشورى مأمور بها، ولكن رأي المستشارين غير ملزم.. فلكأنه قال: شاورهم في الأمر، لتطيب خواطرهم، ولتصحح، عندهم، احترام بشريتهم، ولتجعل لهم مشاركة في أمورهم، ولتعدهم ليخرجوا من دور القصر إلى دور الراشدين.. فإذا كان رأيهم موافقاً لرأيك، أو لم يكن لك رأي عتيد فيما شاورتهم فيه، وعزمت على تنفيذ ما أشاروا به.. فتوكل على الله، ونفذ.. أما إذا كان ما أشاروا به لا يتفق مع ما ترى، وعزمت على تنفيذ ما تراه صواباً، فاطرح رأيهم.. فإنه غير ملزم لك، وتوكل على الله في تنفيذ ما ترى.. هذا شأن الأوصياء الراشدين، مع القصر الذين جعلوا تحت وصايتهم.. هذا الفهم لطبيعة الشورى لا يحتاج منا إلى طويل تفصيل، فإنه، في التجارب المعاشة عندنا الآن، صاحب الأمر غير ملزم باستشارة المستشار، هذا في المكان الأول، ثم هو، إن استشاره، فإنه، على التحقيق، غير ملزم بالأخذ بمشورته، وإنما هو يستشير ليستأنس برأي المستشار.. هذا إذا كان المستشار صاحب اختصاص، فما ظنك به إذا كان قاصرا؟؟ أليس من الغريب أن توهم هذه الآية أحدا بأنها آية ديمقراطية؟؟ والآية التي تقوم عليها وصاية الرجال على النساء، هي آية: (( الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات، حافظات للغيب، بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن.. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا.. إن الله كان عليا كبيرا)).. قوله: ((الرجال قوامون على النساء)).. يعني أوصياء عليهن، لهم عليهن حق الطاعة.. السبب؟؟ ((بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم..)).. والفضيلة، ههنا، هي، في المكان الأول، فضيلة جسدية.. هي قوة الساعد، وقوة الاحتمال، والمقدرة على الانتصار في مآزق الحروب، أو مضانك كسب العيش.. فإن الفضائل تختلف اختلافا كبيرا من مجتمع لآخر، فما هو فضيلة في مجتمع بعينه، قد لا يكون فضيلة في مجتمع آخر.. فإنك أنت اليوم في مدينة أم درمان، حيث حكومة القانون قائمة، وحيث رجال الأمن ساهرون، فليس من الفضيلة أن تسير في الشوارع وأنت تحمل سلاحا، سيفا كان، أو حربة، أو بندقية، ابتغاء أن تعتدي على من قد يعتدي عليك.. ولكن الفضيلة في أن تطمئن إلى القانون وأن تحترم القانون فلا تأخذه في يدك، وإنما تحرك دولابه ليقتص هو لك ممن اعتدى عليك.. ثم إن صنيعك هذا الذي اعتبر فضيلة في مدينة أم درمان لا يعتبر فضيلة في بادية الكبابيش، أو في جبال البحر الأحمر، أو في أحراش الجنوب، وإنما تكون الفضيلة في هذه المواطن أن تسير وأنت تحمل من السلاح ما تردع به من عسى تحدثه نفسه بالتعـرض لك بالمكروه، أو، على أيسر تقدير، ما ترهبه به.. هذا هو اختلاف الفضيلة بين مجتمع المدينة مثلا ومجتمع الغابة.. وعلى نحو من هذا الأساس تقاس الفضيلة في قوله: ((بما فضل الله بعضهم على بعض)).. وبسبيل من هذا تجيء المقدرة على كسب الأرزاق، وإحراز الأموال.. ومن ثم: ((وبما أنفقوا من أموالهم (( فكأن المرأة، لمكان ضعفها الجسدي، وضعفها الوظيفي، في معترك الفضيلة فيه، في أغلب الأحيان، لقوة الساعد، ولفرصة الخلو من الموانع التي تعوق الكدح، والسعي، قد أصبحت محتاجة إلى من يغذوها، ومن يحميها.. ومن ثم، فقد اضطرت، فدفعت قسطا كبيرا من حريتها ثمناً تحرز به حمايتها، وغذاءها.. لعمري!! ليس الأمر بهذه الغلظة، ولا هو بهذا الجفاف!! ولكن، لا ضير! فإن ما ذكر يعطي صورة، عن قاعدة التعـامل، في بداياتها، على وجه العموم..
يتضح من هذا الاستقراء اليسير، أن قانون الإنسان كلما أديل من قانون الغابة، تصبح المرأة مستغنية عن حماية الرجل.. فلا تكون مضطرة، من أجل الحماية، أن تنزل عن قسط كبير جدا من حريتها كثمن لها.. ذلك بأن الحماية - حماية الرجل، وحماية المرأة - ستحال على القانون، كما رأينا في المثل الذي ضربناه.. ويومئذ تنتقل الفضيلة، من قوة العضل، إلى قوة العقل، وقوة الخلق، ولن يكون حظ المرأة، في هذا الميدان، حظا منقوصا، وإنما هي فيه مؤهلـة لتبز كثيراً من الرجال.. وما يقال عن الحماية يقال عن النفقة التي هي سبب القوامة الثاني: ((وبما أنفقوا من أموالهم)).. فإنه، في المجتمع الذي تكون فيه الفضيلة لقوة العقل، وقـوة الخلق، تتيسر المكاسب للضعاف، كما تتيسر للأقوياءـ، أو تكاد.. وفي القرآن آيـة عتيدة، هي أس الرجاء لمستقبل المرأة: ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة.. والله عزيز حكيم((..
ولقد أسلفنا القول بأن المعروف هو ما تواضع عليه الناس، نتيـجة لتمرسهم بمشاكل الحياة، ونتيجة، تبعا لذلك، لتطورهم في مراقيها، بشرط واحد، هو ألا يكون هذا المعروف الذي تواضعوا عليه معوقا لغرض من أغراض الدين.. وجماع أغراض الدين كرامة الإنسان.. فنحن المسلمين، اليوم، بعد أن أنفقنا أربعة عشر قرنا من ممارسة الحياة، ومن التطور معها، أصبح عندنا من ((المعروف (( أن نعلم الفتاة في أساليب العلوم الغربية، وإلى أعلى المراحل، حتى لقـد أصبح عندنا الطبيبة، والقاضية، والمحامية، والمعلمة في أعلى المستويات، والمهندسة، والزراعية، والبيطرية، والإدارية.. ولقد أنجزت فتياتنا، في كل أولئك، إنجازات تشرح الصدر، وتقر العين.. ولا يمكن لعاقل، أو لغير عاقل، أن يزعم أن صنيعنا هذا بالفتاة من المنكر، وليس من المعروف، وبالطبع فإن نهوض الفتاة بهذا المستوى من الواجب يعطيها الفرصة في التمتع بحق مساو له.. هذا هو معنى قوله تعالى: ((لهن مثل الذي عليهن بالمعروف)).. حقوقهن لقاء واجباتهن((حذوك النعل بالنعل)) .. هذا هو الحق والعدل وأما قوله: ((وللرجال عليهن درجة)) فهو لا يعني في هذا المستوى، درجة التفضيل في المساواة أمام القانون، وإن وقع التفضيل بالدرجة في منطقة الأخلاق.. ومهما يكن من الأمر، فليس مطلق رجل أفضل من مطلق امرأة.. هذا ما لا ينبغي، ولا يكون، والواقع المعاش يرفضه..
والآن فإنا، بفضل الله، ثم بفضل هذا ((المعروف)) الذي تواضعنا عليه، والذي أملته علينا طبيعة الحياة المعاصرة، حيث أخذنا بتعليم الفتاة في أعلى المراحل، قد أصبحنا نعيش تناقضا واضحا مع شريعتنا السلفية.. لدينا اليوم، في الخرطوم، قاضية شرعية، تخرجت من كلية الحقوق، بجامعة الخرطوم.. وهذا يعني أنها تمارس، أو من حقها أن تمارس حقها في تطبيق الشريعة الإسلامية على المتحاكمين إليها، على قدم المساواة مع زميلها الذي تخرج معها.. ولكن هذه الشريعة تقول أن شهادة هذه القاضية إنما هي على النصف من شهادة زميلها هذا.. أكثر من هذا!! فإن شهادتها إنما هي على النصف من شهادة رجل الشارع!! فهل هذا قول سليم؟؟ لعمري!! إن الخلل ليس في الدين، ولكنه إنما هو في العقول التي لا يحركها مثل هذا التناقض لتدرك أن في الأمر سرا.. هذا السر هو ببساطة شديدة، أن شريعتنا السلفية مرحلية.. وأنها لا تستقيم مع قامة الحياة المعاصرة.. وأنها، لتستطيع استيعاب هذه الحياة، وتوجيه طاقتها الكبيرة، لا بد لها من أن تتفتق، وتتطور، وترتفع من فروع القرآن إلى أصوله.. هذا ما تعطيه بدائه العقول، بله حكمة الدين.. فإنه، إلا يكن هذا الأمر الذي نزعمه صحيحا، يكن الدين قد استنفد أغراضه، وأصبح عاجزا عن التصدي لتحديات الحياة المعاصرة.. وهذا ما لا يقول به رجل أوتي أبسط الإلمام بأصول الدين(.. ..انتهى..

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق
Maalthoraia3@gmail.com