إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هذا هو الدكتور خالد المبارك !!

د. عمر القراي


٢٠ ديسمبر ٢٠٠٢

(( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون )) صدق الله العظيم

فى ردي السابق على د. خالد المبارك ، لم أكن متحاملا ، ولم أفارق أدب الدين أو اسلوب الجمهوريين ، ما ينبغي لي ذلك وما أستطيع .. ولكنني نزلت عن التوجيه الإلهي في قوله تعالى (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) .. والقول البليغ هو الذي يبلغ موطن الداء من نفس المخاطب ، عله يحدث لأمره مراجعة ، فينتفع من ذلك .. فأنا لا أكره د. خالد المبارك ، ولا أحارب شخصه ، ولكن موضع بغضي وحربي ، هو ما تنطوي عليه شخصيته من سطحية في الفهم ، وجهل بالحقائق ، وزيف ، وغرور ، وتطاول لا يليق بالمثقفين الأحرار ..

جوهر القضية:


فما هو جوهر القضية ؟! جوهر القضية الذي تحاشى د. خالد المبارك التعقيب عليه سلبا أو إيجابا في مقاله الأخير ، هو أن الأستاذ محمود محمد طه لم يكن يؤيد الخفاض الفرعوني ، وإنما كان يقاوم الإستعمار .. وهو لملابسات شابت قانون تحريم الخفاض استغله كنموذج لتصعيد حركة النضال الوطني ، ولقد أُثبت هذا من مصادر منشورة وموجودة كلها في في صفحة الجمهوريين على "الانترنت" .. فلو كان د. خالد المبارك مثقف جاد ، يقدر العلمية والموضوعية لاعتذر عما كتب ، ولذكر صراحة أنه لم يكن يعلم ذلك .. أو لطعن في صحة ماذكرناه أو شكك فيه .. لكن أن يترك الموضوع جانبا ، وينشغل بالدفاع عن نفسه ، وكيف أنه لا يدافع عن الاستعمار ، فإن ذلك انما يؤكد معنى ماذكرت في المقال ، الذي ظن أنه أجحف في حقه .. فأى مثقف هذا الذي يشغل نفسه بموضوع مثل الخفاض الفرعوني ، فيخرج عنه فيلما ، ويهاجم بسببه شخصية عامة ، ثم هو بعد ذلك لا يقرأ ما كُتب عن هذا الموضوع الذي شغل به وقته ؟!

مقارنة جائرة:


يقول د. خالد المبارك "نذكر أن قادة السودان الشمالي قدموا مذكرة للإدارة الاستعمارية تعارض تحرير العبيد . وفي موقف موازر قاد الأستاذ محمود محمد طه انتفاضة احتجاج على تحريم الخفاض الفرعوني"!!

وما دام د. خالد المبارك يظن ان موقف الأستاذ محمود يشبه موقف هؤلاء القادة ، فلماذا لم يذكرهم بالاسم ، ويصفهم بالرجعية ، والتخلف ، كما وصف موقف الأستاذ محمود؟! ألأنهم هم الذين لا زالوا يملكون الصحف التي ينشر فيها د. خالد المبارك مفكرته السودانية البريطانية؟! أم لأنهم يملكون الأحزاب الكبيرة التي لا يود د. خالد المبارك أن يقطع فيها العشم؟!

ان المذكرة التي أشار اليها د. خالد المبارك ، رفعها السيد علي الميرغني ، والسيد عبد الرحمن المهدي ، والسيد الشريف الهندي ، رحمهم الله ، للحاكم العام البريطاني يطلبون منه اعادة النظر في قرار تحرير العبيد .. ولما كان زعماء الطائفية ، اصحاب اقطاعيات كبيرة ، فقد ذكروا في تلك المذكرة ، أن تحرير العبيد ، قد يؤدي الى فقدان العمال الزراعيين ، ونقص المواد الغذائية!! هؤلاء اقطاعيون يدافعون عن مصلحتهم الإقتصادية والسياسية ، وهم اصدقاء للإنجليز يتوددون اليهم بما يطيل بقاءهم ، ويعود عليهم بألقاب "الشرف" التي منحها لهم المستعمر .. فهل يمكن لرجل عاقل ، أمين ، أن يقارن هؤلاء برجل واجه المستعمر فسُجن ، ثم حين أطلق سراحه ، انتقد المستعمر مرة اخرى ، وقاد ثورة استهدفت كسر هيبة الاستعمار ، بمعارضة قوانينه ، وتوضيح أسباب مقاومتها ، وهو في ذلك يستهدف حد سلطان الاستعمار من ان يتدخل في اخلاق الشعب وعاداته ؟!

لقد نعى الأستاذ محمود محمد طه ، على هؤلاء الزعماء ، تقسيم البلاد باسم الطائفية ، وهاجمهم لتعاطفهم مع المستعمر ، فقد جاء في بيان أصدره الحزب الجمهوري في 18/2/1946م (ياجماعة الأشقاء وياجماعة الأمة – أيها القاسمون البلاد باسم الخدمة الوطنية – أيها القادحون قادحات الاحن بين أبناء الأمة – أيها المذكون ثائرات الشر والتفرقة والقطيعة ، أيها المرددون النغمة المشئومة – نغمة الطائفية البغيضة – انكم لتوقرون أمتكم وقرا يؤودها ..

ياهؤلاء ، وهؤلاء ، أنتم تلتمسون الحرية بالانتماء الى المصريين فتتمسكون بأسباب رمام ، وأنتم تلتمسون الملك بالبقاء تحت الانجليز فتتهيأون لدور الهر الذي يحكي بانتفاخه صولة الضرغام .. أنتم تريدون ابقاء المصريين ، وأنتم تريدون ابقاء الانجليز ، فاذا اجتمعت كلمتكم فانما تجتمع على ابقاء المصريين والانجليز معا ..

ياهؤلاء ، وهؤلاء ، أنتم تتمسحون بأعتاب المصريين لأنكم لاتقوون على مواقف الرجال الأشداء ، وأنتم تتمسحون بأعتاب الانجليز لأنكم صورتم المجد في أخلادكم صورا شوهاء .. أنتم تريدون السلامة ، وأنتم تريدون الملك .. أنتم تضيعون البلاد لمّا تجبنون وأنتم تضيعون البلاد لمّا تطمعون .. أنتم تستغلون سيدا لايعرف ماتريدون ، وأنتم يستغلكم سيد يعرف مايريد ، والبلاد بينكم أنتم ، وأنتم ، على شفا مهواة ومهانة ..) راجع "معالم" – صفحة الجمهوريين بالانترنيت ..

هذا هو موقف الأستاذ محمود من زعماء الطائفية ، وذلك هو موقفه من الاستعمار ، فليبحث د. خالد المبارك عن شبيه لهذه المواقف ، وليأتنا به ان لم يرتد اليه ( البصر خاسئا وهو حسير) ..

العيب ليس في التخصص:


يقول د. خالد المبارك "القول بأنني استاذ انجليزي فقط وما يتبعه من ايعاز بأن اترك شئون الدين والسياسة للآخرين منطق مختل" .. الحديث عن ان د. خالد المبارك استاذ انجليزي ، لم يساق في باب التخصصات.. ولا هو يعني التقليل من شأن اللغة الانجليزية ، ولا يعني بالطبع أنه يجب ألا يتحدث في الدين والسياسة ، للأسباب البديهية التي ذكرها ، ولغيرها ، مما هو أهم منها .. ومن ذلك ، ما ظللنا نؤكده ، مرارا ، من أن معرفة الدين لا تنال بالدراسة ، وانما تتم بممارسة التقوى ، على قاعدة : (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) .. ولكن الحديث قد سيق في محاولة لتفسير جهل د. خالد المبارك ، و د. محمد أحمد محمود ، بتاريخ النضال الوطني ومنه حادثة رفاعة .. فلولم يكونا مشغولين بدراسة اللغة الانجليزية ، وحدها ، دون دراسة التاريخ ، والاجتماع ، والسياسة ، لعرفا كما يعرف الكثير من المثقفين ، كافة ملابسات ذلك الحادث المشهور ، خاصة ، وانها رصدت في مصادر عديدة ، ودارت حولها نقاشات مع عدة شخصيات من السبعينات ..

ومن سلبيات افناء العمر ، في دراسة اللغة الانجليزية ، هذا الاعجاب الخفي بالانجليز، الذي حاول د. خالد المبارك نفيه بشدة في مقاله الأخير، ولكنه يطالعك في كل صفحة من صفحات المقال!! ألم يحمد للسفارة البريطانية ، عدم الغاء تأشيرة دخوله ، بسبب اجتياح صدام الكويت ؟!

وليس هذا هو خطأ د. خالد المبارك وحده ، وإنما هو أثر من آثار الاستعمار.. فقد ركز المستعمر في أذهان السودانيين ، أن المثقف هو الذي يعرف لغة الانجليز ، وثقافتهم ، فأهمل المتعلمون من السودانيين ، معرفة دينهم ، وتراثهم ، وثقافتهم ، وتاريخهم ، وانشغلوا بتحصيل اللغة الانجليزية ، وثقافة الغرب .. فأصبح أحدهم يغضب اذا طعن في معرفته بالثقافة الغربية ، ولكن لا يتحرج أن يذكر أنه لا يعرف عن الاسلام ، ما يكفي للحوار ، مع كوادر الجماعات الاسلامية ، التي حين وجدت الميدان الفكري خاليا ، من المثقفين ، توسعت على حساب الأحزاب التقليدية ثم قفزت الى السلطة..

وإذ انتبه د. خالد المبارك ، ود. محمد احمد محمود ، مؤخرا ، لقضايا الدين والسياسة ، فإن هذا الاهتمام لم يكن صادقا ، ولا أصيلا ، وآية ذلك السطحية ، وعدم الإلمام ، الذي تناولا به أفكار ، وتاريخ حركة عتيدة ، مثل حركة الجمهوريين ..

نرجسية مفرطة:


لقد أخذت في مقالي السابق على د. خالد المبارك ، حديثه غير المسئول، عن الجمهوريين .. وذلك حين قال "ولعل دعوة الاستاذ محمود محمد طه للاعتراف باسرائيل هي السبب المباشر في الرعاية الحميمة التي ينالها اتباعه في الغرب اينما حلوا" !! ولقد جاء في ردي على ذلك ، في مقالي السابق ، قولي "فأي رعاية يتمتع بها الجمهوريون في الغرب ؟! وماذا تلقوا أكثر مما تلقى د. خالد المبارك مثلا ؟" كان هذا هو السؤال الذي وجهته لدكتور خالد المبارك ، فلم يجب على السؤال ، ليوكد أن الجمهوريين تلقوا رعاية خاصة في الغرب ، تفوق ما تلقاه هو، أوغيره من السودانيين .. كما أنه لم يوافق على أن وضع الجمهوريين ، يشبه أوضاع غيرهم من السودانيين ، كما ذكرت له!! بل ترك كل ذلك جانبا ، وذهب يحدثنا عن نفسه ، ونضاله الذي أعطاه الحق في اللجوء ببريطانيا !! اسمعه يقول (ماهي الامتيازات الخاصة التي نالها خالد المبارك والتي تقارن بوضع قادة الجمهوريين؟ ...

وصلت مع أسرتي من الأردن. ونلنا اللجوء السياسي نتيجة لتوصية من منظمات حقوق الانسان «ولي بها صلات قديمة» واستناداً على مقالات نشرتها بالكويت ضد حل الأحزاب والنقابات وإلغاء الحريات الأكاديمية وتزايد القهر ضد المعارضين في السنة الأولى «التمكينية» من عهد «الانقاذ الأول» المتشنج.)..

ويفهم من هذه القصة ، أن د. خالد المبارك ، لم يضهد في السودان ، لأنه كان في الكويت .. ولكن حصل على اللجوء السياسي ، بسبب مقالات نقد فيها حكومة الإنقاذ في السودان وهو في الكويت!! فما ظنه بمن رفض الانصياع للجبهة ، وهو داخل السودان ، وفصل من عمله ، وطورد في وطنه ، ثم حصل على اللجوء ، مثله ، لأنه كان أرسخ قدما ، وأسبق عهدا ، بمواجهة الجماعات الأسلامية ، قبل وبعد وصولها للسلطة ، ولأن لديه توصيات من منظمات حقوق الانسان أيضا؟!

فإذا كان هؤلاء لا يستحقون أن يحصلوا على مجرد اللجوء السياسي، في الغرب ، فما الذي يجعل د. خالد المبارك يستحقه ويحصل عليه ؟! هذا علما بأن د. خالد المبارك ، لم يستطع ان يحدثنا عن امتيازات اخرى ، يستمتع بها الجمهوريون ، دون سواهم في الغرب .. ان السؤال لا يزال قائما، وعجز د. خالد المبارك عن مواجهته لا يزال ماثلا !!

عمر القراي