إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

السفر الأول

بسم الله الرحمن الرحيم
((الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ، فأخشوهم ، فزادهم إيماناٌ ، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل))


حسبنا الله ونعم الوكيل..
أما بعد ـ فعندما قيض الله للبلاد فكرة المؤتمر استجابت لها ، و التفت حولها ، فخرح المؤتمر مرعياٌ مرموقٌاٌ .. و إنخرط الخريجون بزمامه في حماس باد ، و أمل عريض .. فدعا إلي إصلاحات جمة ، فأصاب كثيراً من النجاح ، ووفق ، بوجه خاص ، في يوم التعليم .. فقد جمع الأموال ، وأفتتح المدارس في شتي أنحاء القطر ، أو ، إن أردت الدقة ، إنه ساعد العاملين من أبناء مدن القطر علي إنشاء المدارس الوسطى التي أرادوها ، وقد كان ، كلما أنشأ مدرسة ، أو ساعد علي إنشاء مدرسة ، تخلى عنها لمصلحة المعارف تسيرها وفق مناهجها ، وأولاها ظهره ، وتطلع إلي غيرها .. فقد جعل وكده إنشاء المدارس ، ولاشيء بعد ذلك ـ ثم أن المؤتمر كان له رأى ونشاط في الميدان الاقتصادى وفي إصلاح القرية ، و إصلاح الفرد ، و محاربة الأمية ، وتحسين الصحة العامة ، إلي آخر ما إلي ذلك .. مما جعل المؤتمر مرجواً ـ ثم ولدت الحركة السياسية في المؤتمر ، و ذلك يوم بعث بمذكرة للحكومة يطالب فيها إلى جانب حقوق أخرى بحق تقريرالمصير .. و قد أحاط المؤتمر هذه المذكرة بتكتم رصين ، عاشت فيه ، حتى اللجان الفرعية ، في ظلام دامس .. ثم أخذ يتداول مع الحكومة الردود بهذا الشأن بدون أن يعني بأن يقول للجان الفرعية ، بله الشعب ، كيف يريد أن يكون هذا المصير الذي يطلب أن يمنح حق تقريره .. ثم انقضت فترة ، و مشت في المؤتمر روح شعبت أتباعه ، شيعاً ، على أساس الصداقات ، و تجانس الميول ، بادئ الرأي ، ثم اتخذ كل فريق اسماً سياسياً ، و جلس يبحث مبادئه ، و دساتيره .. فمنهم من يريد للبلاد اندماجاً مع مصر ، و منهم من يريد لها اتحاداً ، ومنهم من يريد لها شيئاً لا هو بهذا ، و لا هو بذاك ، و إنما هو يختلف عنها اختلافاً ، هو على أقل تقدير ، في أخلاد أصحابه ، كاف ليجعل لهم لوناً يميزهم عن هؤلاء ، و أولئك .. أنبثت هذه الأحزاب ، و تعددت ، و اختلفت ، فيما يوجب الاختلاف ، و فيما لا يوجب الاختلاف .. و لكنها كلها متفقة على الاحتراب على كراسي المؤتمر ، و على الاستمرار في حرب المذكرات هذه ، مع الحكومة .. و إن الحال لكذلك ، و إذا بالخبر يتناقل بقرب مولد حزب جديد . ثم ولد حزب الأمة بالغاً ، مكتملاً .. و جاء بمبادئ يغاير المعروف منها مبادئ الأحزاب الأخرى مغايرة تامة ، و يكشف المجهول منها غموض يثير الريب .. و المؤتمر في دورته هذه بيد الأشقاء ، و هم قد كان مبدؤهم الاندماج ، أول أمرهم ، و لكنهم ، عندما قدموا مذكرتهم للحكومة ـ حسب العادة المتبعة ـ ظهر أنهم اعتدلوا ، و جنحوا إلى الاتحاد ، و لكن الحكومة ردت عليهم رداً لا يسر صديقاً .. فعكفوا عليه يتدارسونه حسب العادة أيضاً ، و لكن هذه مساعي التوفيق تسعى ، بين الأحزاب ، لتتحد ، و تقدم مذكرة جديدة للحكومة .. فكانت مساومات ، و كانت ترضيات .. بين من يريدون الإنجليز ، و بين من يريدون المصريين ، و ظهرت الوثيقة ـ هكذا أسموها هذه المرة ـ الوثيقة التي تنص على حكومة ديمقراطية حرة ، في اتحاد مع مصر ، و تحالف مع بريطانيا 1 ..
هذه صورة سريعة جداً ، مقتضبة جداً ، لنشاط المؤتمر في السياسة ، و في الإصلاح .. ولسائل أن يسأل لماذا لم يسر المؤتمر في التعليم الأهلي على هدى سياسة تعليمية موضوعة ، منظور فيها إلى حاجة البلاد كلها، في المستقبل القريب ، و البعيد ؟ و لماذا لم يعن المؤتمر بمناهج الدراسة كما عنى بإنشاء المدارس؟ و له أن يسأل لماذا ، عندما ولدت الحركة السياسية في المؤتمر ، اتجهت إلى الحكومة تقدم لها المذكرات تلو المذكرات و لم تتجه إلى الشعب ، تجمعه ، و تنيره ، و تثيره لقضيته ؟؟ و لماذا قامت عندنا الأحزاب أولاً ، ثم جاءت مبادؤها أخيراً ؟؟ و لماذا جاءت هذه المبادئ ، حين جاءت مختلفة في الوسائل مختلفة في الغايات ؟؟ و لماذا يحدث تحور ، و تطور ، في مبادئ بعض هذه الأحزاب ، بكل هذه السرعة ؟ ثم لماذا تقبل هذه الأحزاب المساومة ، في مبادئها ، مساومة جعلت أمراً كالوثيقة عملاً محتملاً ، و قد وقع واستبشر به بعض الناس ؟

نعم لسائل أن يسأل عن منشأ كل هذا ـ والجواب قريب: هو انعدام الذهن الحر ، المفكر ، تفكيراً دقيقاً ، في كل هذه الأمور ، فلو كان المؤتمر موجهاً توجيهاً فاهماً لعلم أن ترك العناية بنوع التعليم خطأ موبق ، لا يدانيه إلا ترك العناية بالتعليم نفسه .. و لأيقن أن سياسة (سر كما تشاء) هذه المتبعة في التعليم الأهلي سيكون لها سود العواقب في مستقبل هذه البلاد . فإن نوع التعليم الذي نراه اليوم لن يفلح إلا في خلق البطالة ، و تنفير النشء من الأرياف ، و تحقير العمل الشاق في نفوسهم .. و إنعدام الذهن المفكر تفكيراً حراً دقيقاً هو الذي طوع للمؤتمر يوم ولدت فيه الحركة السياسية ـ وهي قد ولدت ميته ـ أن يعتقد أن كتابة مذكرة للحكومة تكفي لكسب الحرية ، حتى لكأن الحرية بضاعة تطلب من الخارج ، و يعلن بها الزبائن بعد وصولها ، حتى تكون مفاجأة ، و دهشة .. و لو أن جميع الأحزاب القائمة الآن استطاعت أن تفكر تفكيراً دقيقاً لأقلعت عن هذه الألاعيب الصبيانية التي جعلت الجهاد في سبيل الحرية ضرباً من العبث المزري..

و آية العجز عن التفكير الدقيق عند قوم أن تراهم يخلطون تخليطاً مشيناً بين الوسائل و الغايات ، أو بين الوسائل التي تفضي عن قريب إلى الغاية ، و الوسائل البعيدة الإفضاء ـ فتراهم ينفقون جهداً جهيداً فيما لا يستحق أن يعنى الرجل الرشيد طرفة عين ـ و قديماً طوع العجز عن التمييز بين الوسائل و الغايات لبعضهم أن يقول (الغاية تبرر الوسيلة) و هو قول خطأ من أصله .. فإن الغاية لا تبرر الوسيلة ، و إنما تعينها ، أو تعين حظها من مراقي الرفعة .. فالغايات الرفيعة ، كالحرية مثلاً ، لا يمكن أن يتوسل إلى منازلها بغير وسائل التضحية ، و وسائل النبل ، و وسائل القصد الصريح ـ ذلك بأن الوسائل بسبيل من الغايات .. و هي ، في سبحاتها العليا ، تلتقي بها ، و تتواشج معها ، حتى لقد يصبح التمييز بينهما رياضة تستعصي حتى على فحول العقول ـ و المقدرة على التمييز الدقيق بين الوسائل و الغايات هي أول ، و ألزم ما يجب أن تتحلى به العقول التي تتصدى لتوجيه مصيرنا ، نحن ، لأنّا ضعفاء ، ننشد القوة ، فما نقوى على إنفاق الجهد في غير غناء ، و لأنّا قلال ، نبغي الكثرة فما نطيق أن نذهب شيعاً ، وأهواء !!
نحن اليوم بسبيل حركة وطنية تسير بالبلاد في شحوب أصيل حياة العالم هذه المدبرة ، إلى فجر حياة جديد ، على هدى من الدين الإسلامي ، و برشد من الفحولة العربية ، و بسبب من التكوين الشرقي .. و لسنا ندعو ، أول ما ندعو ، إلى شئ ، أكثر و لا أقل ، من إعمال الفكر الحر فيما نأتي ، و ماندع من أمورنا ـ الفكر الحر الذي يضيق بكل قيد ، و يسأل عن قيمة كل شئ ، و في قيمة كل شئ .. فليس شئ عنده بمفلت عن البحث ، وليس شئ عنده بمفلت عن التشكيك .. فلا يظنن أحد أن النهضة الدينية ممكنة بغير الفكر الحر .. و لا يظنن أحد أن النهضة الاقتصادية ممكنة بغير الفكر الحر .. و لا يظنن أحد أن الحياة نفسها يمكن أن تكون منتجة ممتعة بغير الفكر الحر .
إن الحزب الجمهوري لا يسعى إلى الاستقلال كغاية في ذاته ، و إنما يطلبه لأنه وسيلة إلى الحرية .. و هي التي ستكفل للفرد الجو الحر الذي يساعده على إظهار المواهب الكمينة في صدره و رأسه . و يؤمن الحزب الجمهوري ، إيماناً لا حد له ، بالسودان .. و يعتقد أنه سيصبح من الروافد التي تضيف إلى ذخر الإنسانية ألواناً شهية من غذاء الروح ، و غذاء الفكر ، إذا آمن به أبناؤه ، فلم يضيعوا خصائصه الأصيلة ، و مقوماته ، بالإهطاع نحو الغرب ، و نحو المدنية الغربية ، في غير روية ، و لا تفكير .. و رأي هذا الحزب في المدنية الغربية ، هو أنها محاولة إنسانية نحو الكمال .. و هي ككل عمل إنساني خطير ، مزاج بين الهدى و الضلال .. و هي لهذا ، جمة الخير ، جمة الشر .. و شرها أكبر من خيرها .. و هي كذلك بوجه خاص على الشرقي الذي يصرفه بهرجها ، و بريقها ، و زيفها ، عن مجال الخير فيها ، و مظان الرشد منها .. ويرى هذا الحزب : أننا ما ينبغي أن نتقي هذه المدنية ، بكل سبيل ، كما يريد المتزمتون من أبناء الشرق .. و لا ينبغي أن نروج لها ، بكل سبيل ، و نعتنقها ، كما يريد بعض المفتونين ، المتطرفين ، من أبناء الشرق .. و إنما ينبغي أن نتدبرها ، و أن ندرسها ، وأن نتمثل الصالح منها .. هذه المدنية تضل و تخطئ ، من حيث تنعدم فيها معايير القيم ، وتنحط فيها اعتبارات الأفكار المجردة .. فليس شئ لديها ببالغ فتيلاً إذا لم يكن ذا نفع مادي ، يخضع لنظام العدد ، والرصد .. فهي مدنية مادية ، صناعية ، آلية ، وقد أعلنت إفلاسها ، وعجزها ، عن إسعاد الإنسان ، لأنها كفرت بالله ، و بالإنسان .. و يعتقد الحزب الجمهوري أن الشرق ، عامة ، و السودان ، خاصة ، يمكنهما أن يضيفا عنصراً إلى المدنية الغربية هي في أمس الحاجة إليه ، و ذلك هو العنصر الروحي .

_____

1. ثم كانت بعد ذلك الاتفاقات على قيام الوفد السوداني الى مصر على اساس وثيقة الاحزاب..ورجوع اعضاء حزب الامة منه، و نداؤه بوحدة وادي النيل!