إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مشكلة الشرق الأوسط

الحل على مرحلتين


مرحلة عاجلة، ومرحلة آجلة: فأما المرحلة العاجلة فهو حل سياسي، ومرحلي، في نفس الأمر، وهو حل يقتضيه حل المرحلة الآجلة.. وهذا وحده الحل المستديم السليم.. وبالحل المرحلي، العاجل، يستطيع العرب أن يرجعوا إلى نقطة الاعتدال بين الكتلتين: الكتلة الشرقية، والكتلة الغربية.. وهي النقطة التي فيها يقومون مقام الكتلة الثالثة ـ وهي كتلة لا شرقية ولا غربية ـ ومقامها قد قامه قديماً أوائلنا، وقاموه من جميع الوجوه، وقد قال الله تبارك وتعالى عـنـهـم: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا))..
وهذا الحل العاجل قد يقضي على العرب أن يدفعوا ثمن أخطائهم السياسية الكثيرة، وهو ثمن سيكلفهم شيئاً من كرامتهم، وشيئاً من مصلحتهم، مؤقتاً، ريثما يستعيدوا كرامتهم الحقة، ومصلحتهم الحقة.. ثم إنهم بنفس هذا الثمن سيشترون هدنة هم في أمس الحاجة إليها ليباشروا حل مشكلتهم حلاً، علمياً، شافياً، ونهائياً.. وهو ما أسميناه الحل الآجل، ويتمثل في أدنى منازله في إعادة بناء الجبهة الداخلية.. فإذا تفطّن العرب إلى حقيقة المشكلة فإنهم لن يتحدثوا إلا عن الحل السياسي، وبأي ثمن، ذلك بأن الحل العسكري غير ممكن، على الإطلاق، وذلك لأمر بسيط، وهو أن العرب لا يحاربون دولة اسرائيل، وإنما يحاربون، من ورائها، دول أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، والمانيا الغربية.. وهم قد التزموا بالمحافظة على حدود دولة إسرائيل، حسب ما يعطيها قرار التقسيم الذي اتخذته الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1947م ـ التزم بذلك، منذ عام 1950م، كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، يضاف إلى هذا الالتزام أن المنطقة قد أصبحت منذ تأميم قناة السويس في السادس والعشرين من شهر يوليو عام 1956م منطقة نزاع بين الشيوعية الدولية، والاستعمار الغربي، كما سبقت إلى ذلك الإشارة في هذا السفر.. ومن أجل ذلك فلن يسمح الغرب للعرب بالانتصار على دولة إسرائيل، لأن هذا الانتصار يمثل عندهم انتصار الشيوعية الدولية عليهم ـ الوضع اصبح يشبه الوضع في فيتنام..
ثم إن الحالة، المتوترة، الحاضرة، ليست في مصلحة أحد غير الاتحاد السوفيتي.. وهي حالة كلما طالت وجدت الشيوعية الفرصة لتضليل الشعوب العربية.. وذلك عمل يباعد بين هذه الشعوب وبين دينها، وهو، من ثم، يتهددها بأخطار أكبر مما تتهددها بها دولة إسرائيل..

الحل العاجل


إن على العرب أن يعلنوا للعالم على الفور أنهم، إيثاراً منهم لعافية الدول، وتضحية منهم في سبيل السلام العالمي، وإبقاء منهم على المنظمة العالمية العظيمة، ورعاية منهم لصالحهم هم أنفسهم، يقبلون التفاوض مع دولة إسرائيل، تحت إشراف الأمم المتحدة، (ومجلس الأمن بشكل خاص) وعلى أن يكون التفاوض على أساس قراري الأمم المتحدة، المتخذين في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1947م (قرارالتقسيم).. وفي الحادي عشر من ديسمبر عام 1948م (قرار إعادة اللاجئين).. وهما القراران اللذان التزمت بهما دولة إسرائيل لدى دخولها هيئة الأمم، وقد وردت إلى ذلك الالتزام الإشارة في القرار الذي اتخذته الجمعية العامة في الحادي عشر من شهر مايو عام 1949م، وهو القرار الذي يقضي بقبولها في الهيئة، وينص: ((في ديباجته على أن إسرائيل قد تعهدت باحترام التزاماتها تجاه ميثاق الأمم المتحدة منذ قيامها، أي في الرابع عشر من آيار (مايو) عـام 1948م، كمـا ينـص على التذكيـر بقـراري 29 تشـرين الثـاني (نوفمبر) عـام 1947م (قرار التقسيم).. والحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر) عام 1948م (قرار إعادة اللاجـئيـن).)) عن كتاب ((قضايانا في الأمم المتحدة)).. وسيكون هدف المفاوضة المباشرة مع إسرائيل تحت إشراف مجلس الأمن، الآتى:-
1- إنهاء حالة الحرب التي ظلت قائمة بين العرب وإسرائيل، والاعتراف لإسرائيل بحق البقاء في سلام، وأمن.. واحترام لسيادتها على أراضيها..
2- احترام حق إسرائيل في المرور البريء بالممرات المائية - خليج العقبة، وقناة السويس..
3- انسحاب القوات الإسرائيلية، والسلطات الإسرائيلية، من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل على التوالى: في حروب 15 مايو عام 1948م، و29 أكتوبر عام 1956م، و5 يونيو عام 1967م..
4- ارجاع اللاجئين العرب الذين أخرجوا من ديارهم، أثناء هذه الحروب، أو بعدها، وتعويضهم عن جميع ما تعرضوا له من خسائر.. وتوطين من لا يرغبون منهم في العودة إلى داخل الحدود الإسرائيلية، في الأرض الفلسطينية، التي خصصها مشروع التقسيم الأصلي للعرب، مع تعويضهم أيضاً.. وهذا يعني تنفيذ مشروع التقسيم الأصلي..
5- ضمان مجلس الأمن (الأمم المتحدة) لحدود الدولة العربية الجديدة، التي تنشأ نتيجة لتنفيذ مشروع التقسيم الأصلي، ولتأكيد هذا الضمان توقف، على الفور، الهجرة اليهودية إلى دولة إسرائيل، وذلك لأن زيادة السكان الناتجة عن استمرار الهجرة ستجعل إسرائيل مضطرة إلى التوسع، وقد تصبح مهددة بذلك لأمن جيرانها، وسلامة أراضيهم..
6- تأخذ هيئة الأمم على دولة إسرائيل تعهداً بألا تحاول أي توسع في أرض أيٍ من الدول العربية المجاورة لها.. فإذا جرت منها أية محاولة فإن مسئولية إيقافها عند حدها تقع على عاتق المنظمة الدولية، مجلس الأمن والجمعية العامة..
فإذا ملك الزعماء العرب هذه الشجاعة، وهي شجاعة سيحتاجونها لمواجهة شعوبهم، (وذلك، على كل حال، أفضل من التضليل الذي يمارسونه الآن) فإن موقف إسرائيل سيصبح ضعيفاً.. ولكنها أمام إغراء اعتراف العرب بها، وأمام الرأي العام العالمي، في المنظمة وخارجها، لن تجد بداً من الموافقة.. فإذا ما أبرم الحل العاجل بصورة مرضية، فقد أصبح على العرب أن يباشروا الحل الآجل..


الحل الآجل


أول ما تجب الإشارة إليه هو أن العرب اليوم يواجهون تحدياً حاسماً.. وليس هذا التحدي هو قيام دولة إسرائيل، في أرض فلسطين، بعد أن اقتطعتها، وشردت أهلها، وأعانها، على كل اؤلئك، قوم آخرون، في طليعتهم الشيوعية الدولية التي تدّعي صداقة العرب اليوم، وتتباكى على مأساتهم.. بل إن النظر العميق في حقيقة هذا التحدي ليظهر دولة إسرائيل وكأنها صديق في ثياب عدو.. أو إنها نعمة في ثوب نقمة..
وأما التحدي الحاسم الذي يواجه العرب فإنه يتمثل في أن منطق تطور الحياة البشرية المعاصرة في هذا الكوكب يقول للعرب إن عليكم، منذ اليوم، أن تدخلوا التاريخ في القرن العشرين، كما دخله أوائلكم في القرن السابع، فأشرقت بدخولهم على عالم يومئذ شمس مدنية جديدة.. أو أن تخرجوا عن التاريخ، لبقية التاريخ..
وفحوى هذا التحدي الحاسم هو أن العرب اليوم لا يعيشون حاضرهم، ولا يعيشون ماضيهم.. فأما حاضرهم فهو عصر الحضارة الغربية، العلمية الآلية، الذي، وإن تأخرت فيه الأخلاق، وانحطت القيم، فقد بلغ فيه التقدم التكنولوجي مبلغاً فاق أحلام أصحاب الأحلام، وبلغ فيه تطور الآلة وتطويعها لخدمة الإنسان مبلغاً غيّر وجه الحياة.. ولكن العرب لا يعيشون إلا على هامشه.. فهم لا يصممون الآلة، ولا يصنعونها، ولا يحسنون حتى صيانتها، ولا استعمالها..
وأما ماضيهم فقد كان عهد التقوى، والإيمان، والقيم الرفيعة، والسيرة المستقيمة، والخلق العبق، السجيح، والنجدة، والرجولة، والتضحية، والإيثار، والصدق! الصدق! الصدق!..
ولكن العرب اليوم لا يعيشون إلا على هامشه، أيضاً، فهم قد تشربوا أخلاق المدنية الغربية، وجاروا أهلها في مباذلهم، فأفقدتهم أصالة دينهم، ولم يبلغوا من أصالتها هي طائلا.. فأصبحوا يعيشون على قشور من الإسلام، وعلى قشور من المدنية الغربية.. أو قل، إن اردت الدقة، إنهم لا يعيشون، وإنما تـقوقـعوا، وتحجـروا، وأصبحت حركتهم لا تنبعث منهم، وإنما تنبعث عن عوامل خارجة عن محيطهم، وعن إرادتـهم.. إن العرب اليوم لا يوجهون التاريخ، ولا هم يسهمون في توجيهه وإنما ينساقون خلفه ويعيشون على هامشه..
ويزيد في حسم التحدي الحاسم الذي يواجه العرب عدة أمور:
منها أولاً: إن المدنية، الغربية، الآلية، الحاضرة قد أعلنت إفلاسها، ووصلت إلى نهاية مقدرتها التطورية، وعجزت عن استيعاب طاقـة بشرية اليوم، وتطلعها إلى تحقيـق الاشتراكية والديمقراطية في جهـاز حكومي واحـد.. لأن الإنسان المعاصر يريد الحرية، ويرى أن الاشتراكية حق طبيعي له، ووسيلة لازمة لتحقيق هذه الحرية.. ومن خطل الرأي عنده، أن يطلب إليه، أن يتنازل عن حريته لقاء تمتعه بالحقوق التي تكفلها له الاشتراكية، كما تريد له الشيوعية الماركسية أن يفعل، أو أن يطلب إليه أن يحقق حريته الديمقراطية في ظل نظام اقتصادي رأسمالي لا تتوفر له فيه حاجة المعدة والجسد، إلا بشق الأنفس، كما تريد له الرأسمالية الغربية.. وقد عمّق إفلاس هذه المدنية، وعجزها، شعور البشرية المعاصرة بالحاجة إلى بزوغ شمس مدنية جديدة، تلّقح الحضارة الغربية الآلية الحاضرة، وتنفخ فيها روحاً جديداً به يتسق التناسق بين التقدم التكنولوجي، والتقدم الخلقي، وبذلك تصبح المدنية الغربية الحاضرة قادرة على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة..
ومنها ثانياً: إن العرب يعيشون في منطقة هي سرة العالم، وعندها تلتقي القارات الثلاث: أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، وهي منطقة صنع فيها التاريخ، ومنذ فجر التاريخ، ولا يزال يصنع، ولقد نشأت فيها، وعلى صلة بها، والتقت على أرضها جميع المدنيات، وبخاصة تلك التي تجمع بين المادة والروح ـ بين الاشتراكية والديمقراطية ـ وتطلب للإنسان الرغيف لأنه لا يعيش بدونه، وتطلب له، وراء الرغيف، الحرية لأنه لا يعيش بالرغيف وحده.. ((ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله)) كما يقول المسيح، أو ((الدنيا مطية الآخرة)) كما يقول محمد..
ومنها، ثالثاً: إن العرب ـ دون سائر الناس ـ هم أهل الكتاب، هم أهل القرآن، والقرآن هو روح الله الذي إذا نفخ في هيكل الحضارة الغربية، الآلية، العملاقة الحاضرة عادت إليه الحياة، واستقامت فيه موازين القيم، وملك القدرة على أن يسير بالبشرية إلى منازل السلام..
ومنها، رابعاً: إن الزمان قد استدار استدارة كاملة، وأصبحنا نعيش اليوم في فترة تؤرخ نهاية عهد وبداية عهد.. وأصبحت منطقة العرب مسرحاً لصراع حضاري جديد، هو الصراع بين الحضارة الغربية الآلية كما يمثلها اليهود، فيحسنون تمثيلها، كل الإحسان، وبين المدنية الإسلامية ((الروحية ـ المادية)) كما يمثلها العرب، فيسيئون تمثيلها، كل الإساءة.. وستكون نتيجة هذا الصراع الحضاري، مولد المدنية الجديدة المرتقبة، إن شاء الله، ولكن على العرب أن يهبوا، وأن ينهضوا، وأن يحسنوا تمثيل المدنية الإسلامية في كفاءة، وكفاية، حتى يتم التزاوج والتلاقح.. ولو أن العرب كانوا في مستوى كاف من الكفاءة والكفاية، لما نشأت بينهم دولة إسرائيل، بالصورة التي بها نشأت.. ولكنهم احتاجوا إلى نشأة إسرائيل، بينهم لتوقظهم من غفلتهم، ولتنبههم إلى تقصيرهم في حق ربهم، وفي حق أنفسهم، وفي حق البشرية عامة!!