إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مشكلة الشرق الأوسط

الفصل الثاني



قضية فلسطين


أما قضية فلسطين فإننا سنعالجها في فصل لاحق، ولكننا نحب أن نقول هنا إنها، في إطارها العام، كانت موضع التقاء سياسة الدول الكبرى، كما ظهر ذلك في الفصل الأول، وقد كانت المواجهة الأولى بين العرب واليهود، وذلك في 15 مايو 1948م، على هذا الأساس، ثم استمرت المواجهة إلى أن فرضت الهدنة بين الفريقين، وذلك في منتصف عام 1949م، والأمر على ما هو عليه.. ثم حدث شئ هام، في تاريخ الدول العربية المعاصرة، أخرج قضية فلسطين، من هذا الإطار، إلى وضع جديد، ذلك الشئ الهام هو تأميم قناة السويس عام 1956م..

تأميم قناة السويس


أول ما تجب الإشارة إليه أننا لسنا ضد التأميم، إذا اتخذ وسائله الصحائح، ولكننا ضده إذا جاء عن طريق خاطئ، ولقد سبق لنا أن قررنا أنه، في يومنا هذا الذي نعيش فيه، يجب على كل زعيم ماهر، من زعماء الدول الصغيرة، أن يكسب لاُمته مكانا ً تحت الشمس، وهو مفتوح العينين إلى دقائق الحرب الباردة، حتى لا يزج بأمته في حلبتها وهو لا يشعر.. وهذه المهارة المطلوبة لم يوفق إليها السيد جمال عبد الناصر حين أقدم على تأميم قناة السويس بصورة فيها من التحدي للغرب ما لا يقوى عليه من الدول الصغيرة إلا دولة تأوي إلى ركن شديد.. وقد كان السيد جمـال عبد الناصر يأوي إلى روسيا، ينتظـر منها الحماية، والمساندة.. وقد كان الغرب يدرك ذلك.. ويدرك أمراً آخر، لعله لم يخطر للسيد جمال على بال.. وهـو أن نفوذ الاتحاد السوفيتي سيحل محل نفوذه هـو، في المنطقة العربية، التي أخذ جمال عبد الناصر يجليه عنها، في عداوة وقطيعة.. إن أسوأ ما يمكن أن يقال عن القوانين الوضعية هو إنّها إنما سنّها القوى ليحفظ بها حقه، وفرض، بالقوّة، رعايتها على الضعيف.. ومع هذا، ورغم هذا، فإن كل القوانين أفضل من قانون الغابة.. فليس للضعيف مصلحة في قانون الغابة على الإطلاق وقد يكون له في كثير من القوانين الناقصة، المعيبة، مصالح جليلة، ولذلك فإن تحدي القوانين الجائرة، باللجوء إلى القوة، من جانب الضعيف، الذي لا ينهض بقضيته، فيه، من قصر النظر، ما يوجب أشدّ التعنيف ذلك بأنه يعطي القوى الفرصة لينقل التقاضي من ساحة المحكمة إلى ساحة الحرب، وهو عمل فيه نكسة من مقام الإنسانية إلى مقام الحيوانية، وإنما يقع وزره، وغرمه، في آن معاً، على الضعيف أكثر مما يقع على القوى..
ولنفرض أن قانون شركة قناة السويس كان من هذا النوع المعيب من القوانين فإن التزام مصر بالوفاء به، وهي في تلك الحالة من الضعف أمام الدول الغربية، كان لمصلحة مصر بصورة لا يحتاج إدراكها إلى كبير ذكاء.. لا سيما وأن مدة امتياز الشركة قد أوشكت على النهاية.. فإنه مما هو معلوم أن شركة قد تأسست باسم ((الشركة العالمية لقناة السويس البحرية)) بموجب فرمان الامتياز المؤرخ 30 نوفمبر 1854، ثم تايّد هذا الفرمان بعقد الامتياز المؤرّخ في 5 يناير 1856 وكلاهما من والى مصر، يومئذٍ، محمد سعيد باشا، وقد نصّ في الفرمان الأول، ((مادة 3)) على ما يلي: -
((مدة الامتياز تسع وتسعون سنة تبتدئ من التاريخ الذي تفتتح فيه قناة البحرين))..
وفى ((المادة 10)) ورد الآتي: -
((عند انتهاء الامتياز تحل الحكومة المصرية محل الشركة.. وتنتفع بكافة حقوقها دون تحفّظ، وتستولي على قناة البحرين وجميع المنشآت التابعة لها، ويحدد مقدار التعويض الذي يمنح إلى الشركة مقابل تنازلها عن المهمات والأشياء المنقولة باتفاق ودّي، أو بطريق التحكيم))..
وقد تم الافتتاح على يد اسماعيل باشا في اكتوبر من عام1869م، فتكون، على ذلك، نهاية مدة الامتياز اكتوبر عام 1968م، تعود بعدها ملكيتها لمصر، بصورة قانونية، وتلقائية، ولا يبقى على مصر، بعد ذلك، إلا مراعاة حرية الملاحة، وذلك وفق النظام الذي قررته معاهدة قناة السويس في عام 1888م ((معاهدة القسطنطينية)) وذلك أمر لم تجد فيه مصر مشقّة، وهي، على كل حال، قد التزمت به للأمم المتحدة في تصريح لها في شهر مايو عام م1957، وذلك حين وعدت ((أن تسمح بحرية الملاحة، وأن تكفلها لجميع الدول دائماً ودون توقف، في حدود المبادئ التي نصّت عليها معاهدة القسطنطينية، ووفق شروطها))..
لقد كان، إذن، من الميسور على السيد جمال عبد الناصر، من غير إبداء الشعور بالمرارة، ومن غير تحدٍ، ولا خصومة، أن يدعو شركة قناة السويس إلى الدخول في مفاوضة بغرض تأميم قناة السويس، على أساس تعويض الشركة، عن المدة المتبقية لها من الامتياز.. أو إن تعذّر الاتفاق على ذلك، وهو أغلب الظن سيتعذّر، لقد كان الانتظار إلى نهاية مدة الامتياز، نهاية عام 1968م، أفضل، وأعود بالخير على مصر، وعلى الدول العربية، من تأميم يدخلها جميعها في حلبة الحرب الباردة..

العدوان الثلاثي الأول


ذلك بأن كل ما لقى العرب، وما يلقون، إلى اليوم، إنما مردّه إلى أنهم قد أصبحوا، من جرّاء قصر النظر في تأميم قناة السويس، غرضاً من أغراض الحرب الباردة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية.. ولقد خرجت قضية فلسطين من إطارها القديم الذي كانت عليه أعوام 1947م، 1948م، 1949م حيث كانت روسيا تقف مع أمريكا في صف واحد ضد العرب، إلى وضع جديد، أصبحت فيه تحتل زاوية صغيرة من مسرح الحوادث.. بل لقد أصبحت دولة إسرائيل والدول العربية مخالب قطط لخدمة أغراض الكبار، فإسرائيل تستغلها الدول الغربية لخدمة أغراضها في المنطقة، والدول العربية يستغلها الاتحاد السوفيتي في خدمة أغراضه في المنطقة.. مع اختلاف بينهما في ذلك.. حيث إن مصالح دولة إسرائيل مخدومة أثناء استغلال الغرب إياها في خدمة أغراضه في منطقة الشرق الأوسط، بينما مصالح العرب مهدرة، بل إن ضرراً قد جلب، أثناء استغلال الشرق إياهم في خدمة أغراضه في منطقة الشرق الأوسط..
والسبب في هذا الاختلاف ذكاء الإسرائيليين وغفلة العرب.. فإن الإسرائيليين قد أدركوا أن ليس هناك صداقة بين الدول، وإنما هناك مصالح مشتركة، إذا التقت عُبر عنها بالصداقة، وأدرك معناها الأذكياء، ولذلك، فعندما التقت مصالح الغرب بمصالح إسرائيل في المنطقة، أصبح النفع متبادلاً، وأصبحتإسرائيل تستغل الدول الغربية، كما تستغلها الدول الغربية.. ولكن العرب لفرط غفلتهم، وسذاجتهم السياسية، ظنوا أن ليس للاتحاد السوفيتي أغراض في منطقة الشرق الأوسط، وإنما هي الصداقة، والنخوة، والمروءة.. ولذلك فقد استُغلوا أشنع استغلال، وهم في غفلتهم وسذاجتهم، يتغنون بصداقة الاتحاد السوفيتي البريئة من كل غرض، والصحيحة من كل مرض.. ولو قد كان للعرب حظ من البصر بخفايا الأمور لاختلف حالهم، من جميع الوجوه، عمّا هو عليه اليوم..
ومهما يكن من الأمر فإن تأميم قناة السويس بالصورة التي جرى بها قد وجه لطمة مهينة إلى كبرياء الغرب، وإلى هيبته، وإلى مصالحه.. ولما كان قد بدا له أن كل أُولئك تخف به كفته هو، وتثقل به كفة خصمه في صراع توازن القوى، في حلبة الحرب الباردة، فإنه قد فقد صوابه، وأقدم على حبك مؤامرة العدوان الثلاثى الأول..
((يعاقبوننا (الامريكان والانجليز) بقطع ال 70 مليون دولار على خمس سنوات، يعاقبوننا بتعطيل رفع مستوانا، ويقولون في جرائدهم إن الشعب المصرى يعرف أن جمال عبد الناصر ضده ولا يعرفون أننى أرفض لأنّ الشعب المصري لا يوافق على طلباتهم)) هكذا افتتح السيد جمال عبد الناصر خطابه الذي ألقاه في مؤتمر الاسكندرية الشعبي في مساء يوم 26 يوليو من عام 1956م، ثم استطرد في ذلك إلى أن قال ((هذه القناة ملك لمصر فهي شركة مساهمة مصرية، حفرت بواسطة المصريين، 120 ألف مصري ماتوا أثاء حفرها.. هذه الشركة التي مقرها باريس مغتصبة مثل دلسبس ومثل بلاك عندما جاء.. سنبني السد العالي وسنحصل على حقوقنا، سنبنيه كما نريد، وسنصمم على هذا، 35 مليون جنيه كل عام تأخذها شركة القناة، فلنأخذها نحن)) وبلاك هذا الذي ورد ذكره في الفقرة الماضية قد كان مدير البنك الدولي وقد تحدث عنه السيد جمال عبد الناصر في خطابه الآنف الذكر على النحو الآتي:-
((ولمّا قررنا تأجيل مشروع السد العالي تكلموا هم وطلبوا التنفيذ لما وصل بلاك مدير البنك وقال إننا بنك دولي وليس بنكاً سياسياً وليس لي دعوة بأمريكا ولا أقول إلا الرأى الذي أؤمن به، فقلت له إن مجلس الإدارة يتكون من الدول فهو على هذا الأساس بنك سياسي.. وكنت أنظر إلى مستر بلاك وأتصور أن الذي يجلس أمامي فرديناند دلسبس.. عادت بي الذاكرة إلى الكلام الذي كنا نقرأه عام 1854م عندما وصل إلى مصر وذهب إلى الخديوي وقال له نريد حفر قناة السويس الذي سيفيدك، وهو مشروع ضخم سيعيد لمصر الكثير.. وكان كل بلاك ما يقعد يتكلم أحس بالعقد في كلامه ويعود بى التفكير إلى دلسبس.. وقلت له إننا لا نريد أن نعيد كرومر آخر إلى مصر فأرجوك في كلامك معي أن تضع هذا الاعتبار في نفسك، لدينا عقدة من كرومر ومن دلسبس)) وبعد خطاب السيد جمال عبد الناصر هذا أخذ كبار الكتّاب والمتخصصين يجلون للناس الجوانب المختلفة لقضية التأميم، وقد قال الدكتور مصطفى الحفناوي في ذلك كلمة تحت عنوان ((سلام العالم في تأميم الشركة المنحلّة)) نقتطف منها مقدمتها، قال ((يحدثنا التاريخ دائماً عن أخلد أيامه وأعظم رجاله، ويقص علينا سير الشعوب الجديرة بالحياة والمجد، وتظل جلائل الأعمال ناطقة بفضل أصحابها، حتى تشهد لهم يوم الحساب..
((وفى تاريخ العالم الحديث نقطة تحوّل كبرى مكتوبة في جبين الدهر بأحرف من ذهب وكلمات من نور، في هذا السجل الخالد كلمات مدوّية:
((مصر الثورة – مصر الجمهورية – جمال عبد الناصر – 26 يوليو 1956م.. ولقد طوى الرئيس بقراره التاريخي صفحات سوداء سلخت من حياة العالم سبعة قرون وسبعة أعوام..
((فى سنة 1249 ميلادية، كتب الغرب أول وثيقة سياسية في تاريخ قناة السويس، إثر هزيمته في الحرب الصليبية، وهي وثيقة تنطق بأن المشروع حينما نبت في العقلية الغربية، لم يستهدف عمارة الأرض أو سعادة بني الإنسان، فصاحب تلك الوثيقة يقول في تعصب جنوني إن السبيل الوحيد للقضاء على دولة المسلمين، وطاب له أن يسميهم الكفار، وهو قيام دولة أوربية باحتلال مصر: على أن تتكتل أوروبا كلها وراء المحتل الذي يشق قناة ببرزخ السويس تصير ملكاً مشتركاً للعالم المسيحي ويبدد به شمل المسلمين)) هذا بعض ما قاله الدكتور مصطفى الحفناوي، وقال غيره كثير من كبار الكتاب، ورجال الاختصاص مما نشرته وزارة الإرشاد القومي في كتيب خاص باسم ((أضواء على قناة السويس)) ففي مثل هذا الجو النفسي والفكري (إن صح أن فيه فكراً) تمت مباشرة تأميم قناة السويس.. وذلك جو اتسم بالمرض، لا بالصحة النفسية.. ((العقد النفسية)) تعطي تعبيراً صحيحاً عن ذلك الجو، وقد عبّر عنها السيد جمال عبد الناصر في خطابه الذي سلفت الإشارة إليه، وذلك حين قال ((وكان كل بلاك ما يقعد يتكلم أحس بالعقد في كلامه، ويعود بي التفكير إلى دلسبس وقلت له إننا لا نريد أن نعيد كرومر آخر إلى مصر، فأرجوك في كلامك معي أن تضع هذا الاعتبار في نفسك، لدينا عقدة من كرومر ومن دلسبس)) والرجال الكبار لا يفكرون بالعقد النفسية، وإنما يحاولون التخلص من العقد النفسية ليصفو لهم الفكر، لئلا تضار مصالح أقوامهم، وأيِّ خير يمكن أن ينتظر من تصرف زعيم معقد نفسيا؟
ومهما يكن من الأمر فإن هذه المواجهة المريضة قد بعثت تصرفاً مريضاً، إذ ازداد التوتر بين بريطانيا وفرنسا من جهة، ومصر من جهة أخرى، فبيتتا أمراً، وأعلنتا غيره، حين رفعتا المشكلة إلى مجلس الأمن، باعتبارهما من حملة الأسهم الرئيسيين، وكان ذلك في شهر سبتمبر، وقد طلبتا إليه أن يبحث ((الموقف الذي خلقته الحكومة المصرية، نتيجة تصرفها من جانبها هي وحدها، تصرفاً أدى إلى أنهاء نظام العمل الدولي لقناة السويس، وهو النظام الذي أكدته معاهدة قناة السويس في عام 1888 م (معاهدة القسطنطينية).)) وإنما وضعتا القضية بهذه الصورة لتبررا العدوان المبيَّت باعتباره دفاعا عن حق دولي استباحته الحكومة المصرية، ولتجدا ذريعة لدولة إسرائيل للتدخل، لأنّ مصر، بما تعتبر نفسها في حالة حرب معها، وهو اعتبار لا يجد عندهم ما يبرره، ستمنعها حق المرور بالقناة، ومن غير أدنى ريب، فإن الدولتين قد أوعزتا، من هذا المنطلق، إلى دولة إسرائيل أن تبدأ العمل المسلح ضد مصر.. وكذلك عبرت القوات الإسرائيلية الحدود المصرية في طريقها إلى شبه جزيرة سيناء، وسارت في اتجاه قناة السويس وذلك في يوم 29 اكتوبر من عام 1956م، وفى اليوم التالي أخطرت بريطانيا وفرنسا مجلس الأمن بأنهما قد ناشدتا مصر وإسرائيل إيقاف العدوان في سيناء، كما طلبتا من مصر السماح للقوات البريطانية والفرنسية باحتلال المواقع الرئيسية في منطقة السويس، وقد صرحتا أن هدفهما من ذلك هو ((فصل الجيوش المتحاربة بعضها من بعض، وضمان حرية العبور في قناة السويس)) كما أنذرتا بأنه في حالة عدم الاستجابة لمطلبهما فإنهما على استعداد للتدخل..
ولما كانت الدولتان الأوربيتان لم تقدما على هذه الإجراءات في مجلس الأمن إلا من قبيل ذرّ الرماد في العيون، لتغطية العدوان المبيَّت فقط، فإنهما قد عارضتا كل اتجاه إلى حلول تنبع من داخل المجلس، حتى إنهما قد عارضتا، وأسقطتا، قراراً تقدمت به أمريكا إلى مجلس الأمن يطالب بجلاء القوات الاسرائيلية عن الأراضي المصرية فوراً، ومعارضتهما إنما تعني استعمال حق ((الفيـتو)).. وكان من ضمن قرار أمريكا، هذا الذي اُسقط، إلّا تتدخل أية دولة أخرى، أو تسهم، في تلك العمليات الحربية التي شرعت فيها دولة إسرائيل ضد مصر، لئلا تزداد وتنتشر، وبالطبع فإن في مثل هذا القرار، لو اُتخذ من جانب مجلس الأمن، قضاء على مؤامرة العدوان المبيتة، ومن أجل ذلك استعمل حق ((الفيتـو)) في إسقاطه.. ولقد اقتُرحت في مجلس الأمن، في تلك الأيام، إجراءاتٌ أخرى كانت تجد المعارضة من الدولتين، مما اضطر معه مجلس الأمن، أن يطلب عقد دورة استثنائية للجمعية العامة لبحث هذه المشكلة.. ولقد عارضت بريطانيا وفرنسا دعوة الجمعية العامة وشرعتا من توِّهما في عملياتهما الحربية ضد مصر ابتغاء احتلال قناة السويس..
وفى ليلة 1/2 نوفمبر وافقت الجمعية العامة، بأغلبية كبيرة، على قرار تقدمت به الولايات المتحدة يقضي بإيقاف إطلاق النار، ويوصى بامتناع جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عن تقديم أيّة معدات حربية في تلك المنطقة، ومع ذلك استمر القتال، واستمرت قوات إسرائيل تتقدم، كما اخذت القوات البريطانية والفرنسية تواصل دك منشآت القناة وسفنها بقاذفات القنابل الثقيلة..
هنا تدخل الاتحاد السوفيتي فوجه إنذاراً بأنه سيعمل منفرداً لإيقاف هذا العدوان البشع، وذلك بإطلاق الصواريخ الموجهة من الأرض على قواعد الدول المعتدية، إن لم تنصع هذه الدول لقرار إيقاف إطلاق النار، وتسحب قواتها من الأرض المصرية على الفور.. ولم يكن الإنذار الروسي، يومئذٍ، قد تعرض إلى ما تعرض إليه فيما بعد في مواجهة كوبا المشهورة.. كان يومئذٍ يحمل وزناً كبيرا، ولذلك فقد أصاب دوائر الغرب الذعر عند سماعه، فنشطت الولايات المتحدة، ونشط الرأي العام الغربي، يزيد كل منهما من ضغطه على بريطانيا وفرنسا حتى استجابتا لرغبة الأمم المتحدة فأوقفتا إطلاق النار، وشرعتا في سحب قواتهما من أرض مصر وذلك في شهر ديسمبر من عام 1956م، وقد حذت حذوهما دولة إسرائيل، بيد أنها تلكأت في سحب قواتها، ففى حين تم سحب القوات البريطانية، والفرنسية، من الأراضي المصرية، قبل نهاية شهر ديسمبر، فإن القوات الإسرائيلية لم تنسحب تماماً إلا بعد ذلك بمدة طويلة.. وإلا بعد أن اتخذت الجمعية العامة عدة قرارات تطالب بسرعة الانسحاب..
وفى أثناء جلاء القوات المعتدية كانت القوة الدولية، التي تشكلت بناء على القرار الذي اتخذته بتشكيلها الجمعية العامة، تتخذ موقعها في منطقة القناة.. وقبل حلول شهر مارس من عام 1957م، كانت القوة الدولية قد احتلت مواقعها في قطاع غزّة، في الجانب المصري على الحدود المصرية الإسرائيلية، وعلى طول خليج العقبة.. وقد رفضت إسرائيل أن تسمح لقوات الأمم المتحدة باحتلال بعض المواقع على خط الحدود داخل أراضيها..
وقد خولت قوة الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة، وهذا هو الاسم الذي أصبحت تعرف به هذه القوة الدولية المشَكَّلة من قوات عسكرية من عشر دول، السلطة الكاملة في حفظ الأمن والنظام في تلك المنطقة..
ولقد تدخلت أمريكا لإيقاف عدوان حليفتيها لأسباب عدة، منها أن العدوان لم يكن له من الأسباب ما يكفي لتبريره في نظر الرأي العام البريطاني، والفرنسي، والأمريكي.. بله الرأي العام العالمى.. ومنها أن أمريكا لم تكن تعرف يومئذٍ حقيقة القوة السوفيتية، وهي لم تكن بعد قد تكشّفت عما تكشّفت عنه فيما بعد من الوهن، وذلك في المواجهة الكوبية المشهورة، فظنت أمريكا أن روسيا قد تعنى التهديد، وأنها قد تنفذه، وأن تنفيذه قد يجر إلى حرب عالمية شاملة لا تؤمن عواقبها.. ومنها أن أمريكا كانت تسعى لتوكيد زعامتها على الكتلة الغربية، وإلى ترسيخ قواعد تلك الزعامة، وذلك بجلاء بريطانيا، وفرنسا من مواقعهما منها.. لاسيما وأنهما قد أمكنتا من نفسيهما بإقدامهما على تلك المؤامرة الضعيفة الحبكة..

العدوان الثلاثي الثاني


والعدوان الثلاثي الثاني الذي جرى في الخامس من يونيو عام 1967م يرجع سببه أيضاً إلى قصر النظر في تأميم قناة السويس فهو لا يختلف، لا في دوافعه، ولا في بواعثه، ولا في أهدافه عن العدوان الثلاثي الأول، الذي دُبّر في فى التاسع والعشرين من اكتوبر عام 1956م، وإن اختلف عنه في جودة حبكته، وفى مهارة إخراجه.. وقد تولّت امريكا بنفسها حبكته وإخراجه، بعد أن ظهر لها، بتجربة كوبا المشهورة، أن الاتحاد السوفيتي يخشى الحرب أشد الخشية، وأن تهديداته الكثيرة ليس لها، لدى التحليل الأخير، أيّة قيمة عملية يحسب لها حساب.. وقد أعان أمريكا على النجاح في إتقان وضع خطة هذا العدوان وتنفيذها العرب أنفسهم وذلك بغفلة زعمائهم وبقلة حنكة هؤلاء الزعماء السياسية والدبلوماسية، والعسكرية..