إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هؤلاء هم الأخوان المسلمون
الجزء الأول

الشريعة ليست هي الدين!!


هذا الفهم الديني الشائع الذي يمثل الأخوان المسلمون رأس السهم فيه إنما يقوم على الدعوة الى "تحكيم" الشريعة الإسلامية بكل صورها، من جديد، في حياة الفرد، وفي حياة الجماعة، اليوم.. وهذا الفهم إنما يعوزه الفهم الدقيق لروح هذه الشريعة، ولروح هذا العصر.. فلدى الفهم الدقيق فإن هذه الشريعة ليست هي الدين!! وإنما هي المدخل على الدين.. هي الطرف القريب الذي تنزّل من الدين، في القرن السابع الميلادي، الى أرض الناس لينظم حياتهم وفق طاقتهم وحاجتهم، البسيطتين، المحدودتين، يومئذ.. ولا يزال الدين أمامنا لنستنبط منه شريعة جديدة تستوعب حاجة، وطاقة، الفرد، والجماعة، في القرن العشرين الميلادي.. ولا يكاد المرء يحتاج الى التدليل على مبلغ ما تطوّر اليه الفرد، أو المجتمع، خلال القرون السالفة، من نضج، واستواء، فذلك أمر جد ظاهر..
واستنباط هذه الشريعة الجديدة ليس نبوة جديدة، ولا وحيا جديدا، فقد ختمت النبوّة بهذا النص الصريح: ((ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله، وخاتم النبيين..)) .. حتى لقد استقر جميع خبر السماء بين دفتي المصحف.. ولكن هذا لا يعني، على الإطلاق، أنه ليس هناك أمر في الدين مستأنف تنتظره البشرية.. ذلك بأنه لا بد من فهم جديد للقرآن، مؤدب بأدب القرآن، وبمنهاج التّعلّم القرآني: ((واتقوا الله، ويعلمّكم الله)) - فهم جديد للنصوص القرآنية القديمة – فهو ينفذ الى أصول القرآن ليستنبط منها شريعة جديدة تتوّفر على حل مشكلات الحياة المعاصرة.. وفيما يلي صورة لهذا الفهم.
لقد ظل القرآن الكريم يخاطب الناس، طوال العهد المكي، على أساس أنهم أحرار، ومسئولون عن حق الحرية، ويمنع كل صورة الوصاية عليهم.. وذلك بمثل قوله: ((فذّكر!! إنما أنت مذكّر* لست عليهم بمسيطر)).. وقوله: ((وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر!!)).. إلى غير ذلك من الآيات المكية التي ترسي الحقوق الأساسية للبشر.. وجماعها حق الحياة، وحق الحرية.. فتساوى بينهم في الحقوق وفي الواجبات، بلا تمييز بسبب العنصر، أو العقيدة، أو الجنس (الذكورة والأنوثة).. وهذه الحقوق الأساسية إنما هي آصل أصول الدين.. وجماع أغراضه، على الإطلاق، لأنها إنما تقرر الكرامة البشرية التي انماز بها البشر على سائر أنواع الخليقة.. والأصل في الإسلام أن الإنسان حر.. فإذا أحسن التصرف في هذه الحرية، لم يكن عليه من سبيل ((ما على المحسنين من سبيل))، وإذا أساء التصرّف في هذه الحرية، بأن أظهر قصوره عن أداء واجبها، (إذ لكل حق واجب يقابله) صودرت منه: ((جزاءا وفاقا))، مصادرة مؤقتة، فيها يتعلّم حسن التصرّف في حق الحرية، في مستأنف تجربته، فيسترد هذا الحق كاملا..
ولقد عبّر المجتمع "الجاهلي" عن رفضه للدعوة الإسلامية، التي تدعوه الى عقيدة التوحيد، ونبذ عقيدة التعدّد، بشتى صور الرفض، حتى لقد بلغ حدّ التآمر على حياة صاحب هذه الدعوة!! فظهر، بذلك، ظهور التجربة التي تقام عليها الحجة، ((لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل))..
إن الفرد البشري، في عمومه، يومئذ، قد كان قاصرا عن النهوض بواجب المسئولية الكاملة عن حق الحرية، وكذلك فرضت عليه شريعة الوصاية الرشيدة، وذلك عقب الهجرة، من مكة الى المدينة، حيث نزلت آيات القرآن المدني ناسخة لآيات القرآن المكي، في مستوى التشريع العام.. فنسخت آية السيف وأخواتها آيات الإسماح والحرية، ونسخت آية الشورى آيات الديمقراطية، ونسخت آيات الرأسمالية آيات الإشتراكية، ونسخت آيات قوامة الرجال على النساء، آيات المساواة بين الرجال والنساء.. وهكذا أديل التشريع، في أسلوب الدعوة، وفي نظام الحكم، وفي نظام الإقتصاد، وفي نظام الإجتماع، من مستوى الحرية الى مستوى الوصاية.. ((وسنتناول تفصيل ذلك عند حديثنا عن الجهاد، وعن الديمقراطية، وعن الإشتراكية، وعن حقوق المرأة في متن هذا الكتاب)) .. فقامت الشريعة الموروثة بين أيدينا اليوم، على مستوى الوصاية ناسخة لمستوى الحرية.. فقامت بذلك، على فروع القرآن ناسخة لأصوله..