إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

فهم القرآن


ومن خصائص القرآن أنه لا يُفهم عن طريق اللغة وحدها، وإنما يُفهم عن طريق التوحيد.. واللغة إنما تأخذ مدلولاتها من المعاني التي يفيضها التوحيد على من جودوا التوحيد.. ومن أجل التمثيل على ذلك نذكر (علم) الله الذي كثيرا ما يرد في تفسيرك للآيات.. فإنا عندما نكون ضعافا في التوحيد نقيس علم الله بعلمنا نحن.. ونحن إنما نعلم بالجارحة – بالعقل – وعلمنا قد يتخلف عن التنفيذ، وذلك لمكان نقصه.. فنحن قد نعلم شيئا ثم لا نملك تنفيذه.. وعلم الله يختلف عن ذلك، فهو تعالى لا يعلم بجارحة، وإنما يعلم بذاته.. فإذا قال: (والله يعلم ما تصنعون) فإن معنى هذا: أن الله يصنع لكم ما تصنعون لأنفسكم.. وهذا يسوق إلى وحدة الفاعل.. وفي تنزلات علم الله يجيء علمه بأسمائه، بعد علمه بذاته، ثم يجيء علمه بصفاته، ثم علمه بأفعاله.. أي العلم في منازل الذات، والأسماء، والصفات، والأفعال.. فهو تعالى قد يتراخى تنفيذ علمه في مراتب التنزلات، ولكنه، في منازل المعارج إلى الذات، ينفذ، من غير أدنى ريب.. وههنا يدخل عنصر الزمن..
قال المعصوم: (إن الله لا يعجل بعجلة أحدكم).. وقال تعالى في ذلك: (أنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا * فمهل الكافرين.. أمهلهم رويدا) وقال تعالى: (فلا تعجل عليهم، إنما نعد لهم عدا).. وليس شيء خارجا عن ملك الله، فإن له الدنيا، والآخرة.. قال تعالى: (إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة، والأولى) فمن لم يؤمن اليوم فهو مؤمن غدا، لا محالة..
فإذا استقر هذا في الأذهان فإن خطأ فهمك للقرآن يتضح في قولك: (لقد رفض الله أن يكره الناس على الإيمان كان هذا في إمكانه ولكنه أراد للإنسان أن يكون حرا مختارا يختار الإيمان أو الكفر كما يشاء).. وقد كان هذا القول منك في صفحة 32، وكان تعليقا على الآية الكريمة: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض، كلهم، جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟).. فإن الفهم الحق يقضي بأن الله قد شاء لمن (في الأرض، كلهم، جميعا) أن يؤمنوا ولكن في المآل، وليس في الحال.. ومثل هذا يقال عن قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها).. وقياس الدكتور علم الله بعلمنا نحن يظهر جليا في قوله من صفحة 37 وصفحة 38: (فقد علم مسبقا وسلفا بأن الإنسان سيفسد في الأرض وسيسفك الدم ويظلم نفسه ويظلم الآخرين.. ويستحق بذلك درجات متفاوتة من العقوبة.. كل هذا كان في سابق علمه. وليس هذا بالجبر ولا بالحتم.. ولكن.. كما يحدث أن تتوسم في أحد أبنائك حب العلم والتحصيل فتمده بالتسهيلات والتيسيرات وتبعثه إلى الخارج في بعثة.. وترى في الآخر العكوف على الفساد وصحبة السوء فتكتفي بما له من حظ محدود من التعليم في بلده.. ولو فعلت عكس ذلك لكنت ظالما.. ولأكرهت أبناءك على غير طبائعهم..
كما أن هذا التوسم المسبق ليس فيه عنصر إكراه ولا جبر.. إنما هو مجرد سبق علم.. فأنت تعلم مسبقا من أخلاق ولدك بأنه سوف ينصرف إلى اللعب ويهمل كتبه.. فإذا انصرف إلى اللعب بالفعل وأهمل كتبه فإن ذلك لا يكون إكراها منك ولا جبرا ولا عنوة وإنما لأن هذه طبيعته التي سبق علمك إليها.. وإنما تأتي التجربة فتكشف له نفسه.. وبذلك يحق عليه العقاب صدقا وعدلا.. فقد علم من نفسه ما لم يكن يعلم)..
أما نحن فقد أسلفنا القول إلى خطأ هذا القياس.. فإن ما علمه الله فعله، إن لم يكن في العاجل، ففي الآجل.. والله تعالى يقول عن فعله: (إنا كل شيء خلقناه بقدر * وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر).. فأما أمره فهو علمه بالذات، وأما قدره فهو تنزل علمه في مراتب الأسماء، والصفات، والأفعال.. والعلم إنما نزل لهذه المراتب لينفذ في الزمان، والمكان.. ومن الزمان والمكان، الدنيا والآخرة.. والعلم بالذات خير محض، وهدى لا ضلال فيه.. ومن ثم، فمصير كل ضال، اليوم، إلى الهداية، غدا.. كان ذلك على ربك حتما مقضيا.. وفي ذلك يقول تعالى: (إن علينا للهدى، وإن لنا للآخرة، والأولى).. ههنا إشارة إلى القضاء، والقدر.. أشار إلى القضاء بقوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر).. وأشار إلى القدر بقوله: (إنا كل شيء خلقناه بقدر).. والقضاء هو سر القدر، وهو خير محض، ما للشر إليه من سبيل.. والقدر هو تنفيذ القضاء في الزمان، والمكان.. وهو قد اتسع للخير، وللشر، لأنه، بدخوله في الزمان والمكان، قد دخل منطقة الثنائية، وهي منطقة التعليم، ومنطقة تذكير العقول بما نسيت.. قال تعالى في ذلك: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)..
وبين القضاء والقدر منازل علم الله في التنزلات، بين الذات، والأسماء، والصفات، والأفعال.. فهل يخطر ببال أحد أن علم الله لا ينفذ، وإنما يكون مجرد (سبق علم)؟؟
والدكتور يقول: (حينما تقضي اللحظة أن تختار فأنت تختار نفسك بالفعل (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا).. وفي لفظ (إما) يبدو عنصر الاختيار واضحا محددا).. هذا ما قاله الدكتور، في صفحة 44.. فهو يفهم من الآية: إن الإنسان أوقف في مفترق طريقي الشكر، والكفر.. وقيل له: أيهما تختار؟؟ والفهم الواضح ان الإنسان الواحد هدي سبيلي الشكر، والكفر.. فهو، تارة، شاكر، وهو، تارة، كافر.. وهذا يؤخذ من طبيعة النشأة.. وهو أيضا أس كمال النشأة.. قال المعصوم، في ذلك (إن لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيأت الله بقوم يخطئون، ويستغفرون، فيغفر لهم).. فالإنسان، بجبلته، خطاء، وأوتي القابلية ليتعلم من الخطأ.. والخطأ يقابل، من الآية، كلمة (كفورا)، والتعلم من الخطأ يقابل منها كلمة (شاكرا).. فهو مسير إلى الخطأ، مسير إلى الصواب، من غير أن يشعر بهذا التسيير، وذلك لمكان لطف التدخل في حريته.. فالإنسان الواحد هو شاكر في آونة، كفور في أخرى.. فمن غلبت حالات شكره حالات كفره فهو مهتد.. ومن غلبت حالات كفره حالات شكره فهو ضال.. هذا لا يمنع أن يكون في الناس كفور لا يعرف إلى الشكر بلسان المقال سبيلا.. ولكن هذا الكفور، في الحال، سينتهي به الكفر إلى الشكر، في المآل.. فإنك، إن تزعم غير ذلك، فقد ينتهي بك القول إلى أن الشر أصل في الوجود، كالخير تماما، وهذا قول يرفضه التوحيد رفضا تاما.. فلم يبق إلا أن الشر فرع، والخير أصل.. وهذا يعني أن من سار في طريق الشر باختياره، كما تزعم أنت، إنما سُير فيه تسييرا، من غير أن يدري أنه مسير، فإن الطريق في (الحقيقة) واحد، ولكنه في (الشريعة) طريقان..
وأنت تقول من نفس الصفحة ("ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها" أي فتح أمامها سبيل الخير والشر وتركها أمام الطريقين لتختار.. ولهذا قال فجورها وتقواها، ولم يقل (أو) تقواها، لأنه فتح الطريقين معا ليجعل للنفس الاختيار ولم يجبرها على أحد الطريقين.. ولذلك أردف موضحا: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)، فرد الفلاح والخيبة للنفس المخيرة، وفي آية أخرى يوضح الأمر أكثر فيقول: (وهديناه النجدين) أي هديناه إلى مفترق طريقين يختار أيهما.. إن النية حرة والسريرة حرة في إضمار ما تشاء.. أما الفعل فهو حر ومقدور في ذات الوقت).. هذا ما تقوله أنت، وهو قول يدل على أنك ترى أن التقوى والفجور طريقان، مختلفان أصلا.. وترى أن من اتخذ طريق الفجور سيلج به الفجور إلى غير نهاية.. هذا يفهم، بالضرورة، من قولك: (ولم يقل أو تقواها لأنه فتح الطريقين معا ليجعل للنفس الاختيار ولم يجبرها على أحد الطريقين).. والخطأ، في مثل هذا الزعم، هو، كما أسلفنا القول، أنه يجعل طريق الفجور أصلا، كطريق التقوى تماما.. وهذا أمر مختل في ميزان التوحيد..
وليس هناك حجة لك فيما أوردت من قوله تعالى: (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).. وزعمت أنه رد: (الفلاح والخيبة للنفس المخيرة).. فإنه إنما رده الفلاح هنا يتمشى مع ظاهر الشريعة فقط.. فهو الذي يسر الفلاح للنفس المفلحة، وما كان لها منه بد.. وهو الذي يسر الخيبة للنفس الخائبة، وساقها إليها، وما كان لها منها بد.. ثم هو نسب الفلاح للنفس المفلحة، ونسب الخيبة للنفس الخائبة.. وما كان لأيهما يد بالفلاح، ولا بالخيبة.. فإن كل نفس قد هديت فجورها، وتقواها.. فهي فاجرة تارة، ومتقية أخرى، فمن غلب فجوره تقواه فهو الذي خاب، ومن غلبت تقواه فجوره فهو الذي أفلح.. والله، من وراء هذا وذاك محيط.. وقول الله تعالى: (وهديناه النجدين) شديد الوضوح، في ذلك.. أقرأ: (ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين) فالعينان مجعولتان، والشفتان مجعولتان، والنجدان مهديان.. فهولا يملك امتناعا على أن تكون له عينان، أو أن تكون له شفتان، أو أن يكون له نجدان، على حد سواء.. أما قولك في فهم هذه الآية: (أي هديناه إلى مفترق طريقين يختار أيهما)، فإنما هو قول أملته عليك رغبتك المسبقة في أن يكون المعنى ملائما لما تريد أنت.. وأما قولك: (والسريرة حرة في إضمارها لما تشاء)، فهو قول واضح الخطأ.. وأول ما تجب الإشارة إليه هو أن السريرة لا تضمر، وإنما الذي يضمر هو العقل.. ويكون مكان الإضمار في السريرة.. والعقل ليس حرا في إضمار ما يشاء، ما دام عاجزا عن أن يعلم ما يشاء.. والله تعالى يقول: (ولا يحيطون بشيء من علمه، إلا بما شاء).. فأصبحت مشيئة العقل في أن يضمر في السريرة مقيدة، ومسيرة بمشيئة الله، وهذا هو التسيير، لا التخيير.. أما قولك: (أما الفعل فهو حر ومقدور في ذات الوقت)، فهو قول لا يستقيم، إلا لدى النظرة الأولى، فإنه لدى النظرة الدقيقة، وعند تمديد الأمور إلى نهايتها المنطقية، لا بد أن يظهر أن الحرية محاط بها، وأن القدر هو الأصل، وذلك للسبب البسيط الذي ذكرناه، وهو أن العقل لا يملك أن يعلم ما يريد، فهو لا يملك، إذن، أن يكون حرا، لا في الفكر، ولا في الفعل.. وأنت تقول في متابعة هذه الأفكار، من صفحة 45: (وكل واحد منا له نصيبه من حرية الفعل.. والذي يقول بالجبرية سوف يقع في مأزق حينما نسأله كيف يميز بين يده يحركها في حرية ويكتب بها ما يشاء.. وبين يده وهي أسيرة ترتعش قهرا في رجفة الحمى.. هنا أمامنا حالتان واضحتان، حرية في حالة الصحة، وجبرية في حالة المرض ولو كانت الجبرية التي يقول بها صحيحة لما أمكن أن يميز بداهة بين الحالين.. ولما أمكن أن تقوم الحالتان أصلا.. إن حرية الفعل إذن حقيقة.. والقدر أيضا حقيقة.. والمشكلة هي أن نحاول أن نفهم هذا الازدواج وكيف لا يلغي الواحد منه الآخر.. كيف لا يلغي القدر الحرية.. وكيف لا تلغي الحرية القدر.. وهذا أمر نستشفه من الآيات استشفافا.. فهي تلمح ولا تصرح، حتى لا تلقي بالناس في بلبلة. يقول الله في كتابه (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين)..
لو شاء لفعل ولكنه لم يفعل.. لأنه لم يشأ أن يقهرنا على إيمان فتنتفي بذلك حرية الاختيار التي جعل منها جوهر وجودنا.. فقد أراد لنا أن نكون أحرارا، نؤمن أو نكفر.) هذا ما قلته أنت.. أما أنا فلست أرى هذا (المأزق) الذي تزعم أن من يقول بالجبرية يقع فيه حينما تسأله: (كيف يميز بين يده يحركها في حرية ويكتب بها ما يشاء.. وبين يده وهي أسيرة ترتعش قهرا في رجفة الحمى؟)..
فالأمر جد بسيط.. فإن الحالتين من بعضهما.. فاليد، قبل الحمى، لم تكن حرة، وإنما هي مقيدة، وكل ما هناك أن أسباب القيد لم تبرز لنا في وضوح إلا بعد الإصابة بالحمى.. فنحن قد كنا في غفلة عن القيد، وهو خفي، فانتبهنا من غفلتنا عندما صار القيد ظاهرا للعيان.. وأنت، كطبيب، لا بد تعلم أن كل جسم مهيأ للإصابة بالحمى، وأن جرثوم الحمى قد يكون كامنا في أي جسم، يترقب فرصة الظهور.. وقد نكون نحن غافلين عن كمونه، ولا ننتبه من غفلتنا إلا بعد ظهور الحمى.. فهل تنفي غفلتنا هذه كون الجسم في الحالتين – حالة الكمون، وحالة البروز – مصابا بالحمى؟..
إن الاختلاف اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.. ههنا يظهر جليا أن الذي ساقك إلى الخطأ هو الحركة الإرادية في اليد.. وحركاتنا الإرادية هي التي سولت لأنفسنا أن تزعم أن لها إرادة.. والحذق يقضي بألا ننساق وراء هذا الوهم، لأننا، على أيسر تقدير، نعلم أن هناك، في إهابنا، حركات لا تخضع لإرادتنا.. وأنت، كطبيب، تعلم أنه لا سيطرة لك على ضربات قلبك، وتعلم أن الدم الذي يضخه قلبك يغذي الدماغ، وفي الدماغ مراكز الحركات الإرادية التي تظهر على اليد مثلا.. فكيف يجوز لك أن تتخيل أن حركة اليد حرة بعد كل هذا؟؟ وأما قولك: (أن حرية الفعل إذن حقيقة.. والقدر أيضا حقيقة)، فهو قول لا عبرة به، لأن الحقيقة واحدة.. وأما قولك: (والمشكلة هي أن نحاول أن نفهم هذا الازدواج، وكيف لا يلغي الواحد منه الآخر.. كيف لا يلغي القدر الحرية.. وكيف لا تلغي الحرية القدر؟)، فقول صحيح، ولكنا لا نجد أنك اهتديت، فيما قلت في كتابك هذا، أو هديت، إلى فهم الإزدواج.. وأسوأ من هذا!! فإنك قد ضللت عنه.. فأنت، عند الحديث عن آية: (وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى)، قلت: (يأتيك النصر بيدك وبيد الله في ذات الوقت فتكون يدك لحظة الانتصار هي يد الله ورميتك رميته ومشيئتك مشيئته) وهذا القول لا يوضح الازدواجية، وإنما يمحقها.. والقول الذي يوضح الازدواجية في الآية: (وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى)، هو أن يقال: وما رميت، في (الحقيقة)، إذ رميت في (الشريعة) ولكن الله رمى، في الحالتين.. فاليد التي رمت هي يدك أنت في ظاهر الأمر، ولكنها يده هو في باطن الأمر.. فالازدواجية إنما هي بين (الشريعة) و(الحقيقة).. فإنا، في حكم الشريعة، نستقل بإرادة تفعل، ونحاسب على الفعل، وفي حكم الحقيقة، الفاعل إنما هو الواحد..
وعلى هذا القياس فإن حرية الفعل التي تزعمها أنت إنما هي حرية ظاهرة، وهي، في الحقيقة، محاط بها، ومسيرة إلى ما يريد المحيط.. فينتهي بها الأمر إلى أن تكون تسييرا لا حرية، وإنما خفي الأمر علينا لأن الله، تبارك، وتعالى، إنما يسيرنا عن طريق عقولنا، ويتدخل، في هذا التسيير، في لطف بالغ، حتى لقد جاز علينا الوهم أنا مخيرون.. وهاك آيات، هن آية، في لطف تدخل الإرادة الإلهية في الإرادة البشرية لتسيرها، من غير أن تزعجها: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد.. ولكن، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.. ليهلك من هلك عن بينة.. ويحيا من حيي عن بينة.. وأن الله لسميع عليم * إذ يريكهم الله، في منامك، قليلا.. ولو أراكهم كثيرا لفشلتم، ولتنازعتم في الأمر.. ولكن الله سلم.. إنه عليم بذات الصدور * وإذ يريكموهم، إذ التقيتم، في أعينكم، قليلا، ويقللكم في أعينهم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور).. فالله هو الذي أحكم اللقاء بين الفريقين، وما كان لهما أن يلتقيا من عند أنفسهم: (ولو تواعدتم لإختلفتم في الميعاد).. لماذا أحكم الله لقاء الفريقين؟؟ (ليقضي الله أمرا كان مفعولا!!) والله، ليقضي هذا الأمر، يُري نبيه، في منامه، أعداءه قليلا، فيصمم على قتالهم.. ولو أراهموه كثيرا ما صمم.. (ولو أراكهم كثيرا لفشلتم، ولتنازعتم في الأمر..).. وإنما كانت تلك الرؤيا ليصمم النبي على القتال و(ليقضي الله أمرا كان مفعولا).. ثم ان الله يُري النبي وأصحابه أعداءهم قليلين في أعينهم، فيصمموا على قتالهم.. وهو يري المشركين المؤمنين قليلين في أعينهم، فيصمموا على قتالهم أيضا.. لماذا كل أولئك؟؟ (ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله تُرجع الأمور).. يجري كل أولئك، على المؤمنين، وعلى المشركين، من غير أن تنزعج إرادة فرد من الفريقين بتدخل الإرادة الإلهية في تصميمه.. ذلك تجليه باسمه اللطيف..
أما قولك في فهمك لآية: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية، فظلت أعناقهم لها خاضعين).. (لو شاء لفعل ولكنه لم يفعل) فقول ينقصه العلم بدقائق الفعل الإلهي، فإنه قد شاء، وقد فعل، ولكن فعله إنما ينفذ على مكث، وتلبث.. وسيجيء زمن فيه تنفذ المشيئة بالفعل، وتنزل الآية، وتظل الأعناق خاضعة لها، ولكنه خضوع العقول وسيلته.. فتلك الآية ستكون وضوح الرؤية التي تسوق أصحابها إلى الإيمان.. وإنما يكون وضوح الرؤية، بزيادة ظهور البرهان، وبزيادة استعداد العقول لإدراك البرهان.. هذا كائن، لا محالة.. اقرأ، إن شئت قوله تعالى: (إن كل من في السموات، والأرض، إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم، وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا).. وما يكون يوم القيامة ليس غائبا اليوم، وما الاختلاف بين ما هو كائن اليوم، وما يكون، يومئذ، إلا اختلاف مقدار..
وأنت تورد الآية: (وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون).. وتورد بعدها قولك: (ومعنى هذا أن الله يدع القلب حرا فتكون لكل إنسان سريرة هو حر فيها. ولكنه يقيم سلطانه بين المرء وقلبه، فهو يحول بين المرء وقلبه بالتمكين والإحباط لطفا ورحمة ليقي أحباءه السيئات.. وليقدم التيسيرات لكل حسب ضميره ونيته ومبادراته.. إما لليسرى وأما للعسرى.. ثم تكون الرجعة في النهاية إليه يوم القيامة فيحاسب كل إنسان على وفق سريرته.. فقد كان كل منا حرا في سريرته وهو عنها مسئول.. بهذه الكلمات التي تضيء كالومض الخفي يعطي القرآن المفتاح لأكبر المشكلات استعصاء في الفلسفة.. مشكلة الجبر والاختيار).. هذا ما قلته أنت، في صفحتي 49 و50، وبه اختتمت هذا الفصل الذي هو أهم فصول الكتاب.. فلعمري!! إن القرآن ليعطي المفتاح لمشكلة الجبر والاختيار، ولكن على أن يفهم على غير ما فهمت.. إن آية (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون)، هي آية في الدلالة على التسيير.. ولكنك طففتها، وصرفتها عن وجهها، لتؤيد بها حجة أقامها في ذهنك الوهم.. أقرأ، مرة أخرى، قولك: (ومعنى هذا أن الله يدع القلب حرا فتكون لكل إنسان سريرة هو حر فيها. ولكنه يقيم سلطانه بين المرء وقلبه).. وارد أن النبي قال يوما: (اللهم!! يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك).. فقالت السيدة عائشة: (حتى أنت؟؟) فقال: (نعم!! حتى أنا، فإن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف شاء..).. والله تعالى يقول: (وأصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم، بالغداة، والعشي، يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم، تريد زينة الحياة الدنيا.. ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتبع هواه، وكان أمره فرطا).. أبعد هذا، وذاك، يصح قولك: (إن الله يدع القلب حرا)؟.. وأي عبرة لقولك: (ولكنه يقيم سلطانه بين المرء وقلبه)؟.. ومن هو المرء؟؟ وما قلبه؟؟ وإذا حصل التوزيع بين المرء وقلبه، فأي حرية يحرزها القلب؟؟ وأي حرية يحرزها المرء؟؟ ألا يكفي هذا التمزق الداخلي، في حد ذاته، للذهاب بالحرية كلية؟؟