إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

الخلاصة؟؟


إن الله قد سير الإنسان تسييرا تاما.. فأما في منطقة العناصر فقد سيره تسييرا مباشرا، وذلك بالقهر الإرادي الذي انصهرت تحت جبروته جميع الأشياء.. وأما في منطقة الحياة فهو قد سيره تسييرا شبه مباشر، وذلك عن طريق إرادة الحياة، فإن الحي قد فطر عل حب الحياة، ومن ثم، فهو يسعى للاحتفاظ بها، فيفر من كل ما يؤذيه، وإلى كل ما يلذه.. وقانونه، في هذه المرحلة البدائية من مراحل النشأة، السعي الدائب لتحصيل لذة البطن والفرج.. فلما قطع الإنسان هذه المرحلة، ودخل مرحلة البشرية (وهو قد فعل ذلك بعد زمن طويل، ممعن في الطول: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟؟") فقد جرى تسيير الله إياه بصورة غير مباشرة، وذلك عن طريق إرادة الحرية.. فإنه، منذ دخوله هذه المرحلة، قد نما عقله، وبرزت ملكة التعلم فيه بصورة واضحة، وزاد على لذتي البطن والفرج، لذة ثالثة، هي لذة المعرفة.. وأصبح تسيير الله إياه، ههنا، بواسطة عقله.. أصبح الله معلمه، فهو يلقي في عقله، في لطف لطيف، وخفاء بالغ، ما يريد له أن يعلم، وما يريد له أن يعمل.. (اقرأ باسم ربك، الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ.. وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم).. وأصبح الإنسان، في هذه المرحلة، لا يشعر بتدخل إرادة الله في إرادته، وإنما هو يتحرك حركات إرادية، بإرادة يشعر بانبثاقها من عقله، فقام في وهمه أنه مريد.. وهو لما كان في منطقة الحركات الإرادية يتصرف بإرادة مستقلة، فهو يقوم، ويمشي، ويقف ويرفع يده، ويرفع رجله.. ولكنه، مع ذلك، يعجز عن أن يرفع رجليه مثلا، ويستقر في الهواء.. ويعجز عن أن يسيطر على ضربات قلبه، وحركات رئتيه، ورمش عينيه.. فقد قام في وهم بعض العقلاء أن الإنسان مسير، ومخير.. هو مسير إلى أعماله غير الإرادية، مخير في أعماله الإرادية.. والتحقيق الدقيق يقرر أن الإنسان مسير في كلتا حالتيه.. وكل ما هناك من فرق إنما هو في المقدار، لا في النوع، يعني أنه مسير، في أعماله الإرادية، بواسطة عقله الواعي.. مسير، في أعماله غير الإرادية، بواسطة عقله الباطن.. والله من وراء كل أولئك محيط..
والله لا يسيرنا إلى الخطأ، وإنما هو يسيرنا إلى الصواب.. ولكنه جعل ممارستنا للخطأ وجها من وجوه الصواب، ذلك لأن الجهل إنما هو نسبي.. فليس هناك جهل مطلق، وليس هناك خطأ مطلق.. إن الله خير مطلق.. ليس للشر إلى ذاته سبيل.. وإنما الشر في إرادته.. وإرادته حكمته..
والله، تبارك، وتعالى، يسيرنا إلى ذاته بإرادته، وذلك عن طريق إرادتنا.. وإرادتنا مخلوقة لنا.. وهو قد قال، تبارك، وتعالى، في ذلك، في حديث قدسي لداؤد: (يا داؤد!! إنك تريد، وأريد.. وإنما يكون ما أريد.. فإن سلمت لما أريد، كفيتك ما تريد.. وإن لم تسلم لما أريد، أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد..)..
وإنما دخل الخير والشر في إرادته لحكمة تعليمنا.. فإن عقولنا لا تدرك الأشياء إلا بأضدادها.. وفي ذلك قوله تعالى (ومن كل شيء خلقنا زوجين.. لعلكم تذكرون).. وقوله تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها، مما تنبت الأرض، ومن أنفسهم، ومما لا يعلمون).. وقد أمرنا تعالى أن نستعمل إرادتنا في السير إليه.. وقد شرع لنا منهاج السير إليه.. وهو منهاج يقوم على العلم، والعمل بمقتضى العلم.. ويبدأ بالعلم بالشريعة، في الأمر، والنهي، ويوجب أن نسير أنفسنا في طريق أمره، وإن كرهت السير فيه.. قال المعصوم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)، وذلك أخذا من قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم، وأبناؤكم، وإخوانكم، وأزواجكم، وعشيرتكم، وأموال إقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله، ورسوله، وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره.. والله لا يهدي القوم الفاسقين).. فالنهج يقوم، من الوهلة الأولى، على أن نعلم ما عند الله، ونسير أنفسنا في طريقه.. والجهل حاضر، وإنما المجاهدة، كل المجاهدة، في سبيل التخلص منه.. وما السير إلى الله بقطع المسافات، وإنما هو بالتخلص من الرعونات، والجهالات، وبتسيير النفس في هذا الطريق، ليتم تقريب صفاتها من صفاته.. وذلك دائما بالعلم، والعمل بمقتضى العلم.. فليس العلم غاية في ذاته، وإنما العلم وسيلة الحياة.. والحياة الكاملة هي التي تعلم العلم الكامل، وتتخلق بمقتضاه.. وأكمل العلم ما يسوق إلى التخلق بالحرية، وإنما، من أجل الحرية، جعل الله، بحكمته، طريق تعلمنا يمر بمنطقة الاختيار فنحن نتعلم بين الخطأ والصواب.. وهو يعلمنا دائما.. حين نصيب، وحين نخطئ.. وقد جعل تعلمنا عن طريق الخطأ بالعقوبة التي نجدها مترتبة على الخطأ.. فنحن نتمتع بإرادة نشعر بحريتها، ولا نشعر بتوجيه الله إياها.. وقد أمرنا، في الشريعة بأن نسير بحريتنا هذه في اختيار ما يختار هو لنا.. ولما كنا أحرارا، فيما نشعر، فقد قام التكليف على أننا نتحمل مسئولية خطأ تصرفنا، حين نخطئ، أثناء ما نحن ندبر أمر أنفسنا.. فإذا عجزنا عن هذا التدبير، وعظمت علينا مسئولية حرية التصرف، لجأنا إليه، في عجز، وضعف، به نستيقن، بعد الممارسة، أن إرادته حقيقية، وأن إرادتنا متوهمة.. فإذا وقع لنا ذلك أسلمنا له، وانقدنا، ورضينا.. وحين نفعل ذلك نسير خلفه، بتسليم إرادتنا لإرادته.. وفي تلك اللحظة يكون التسيير قد وصل بنا إلى التخيير.. ونكون قد خرجنا من منطقة الخير والشر، ودخلنا منطقة الخير المطلق، حيث لا مكان للشر.. وفي حديث داؤد: (فإن سلمت لما أريد، كفيتك ما تريد).. ثم قال (وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد).. وفي هذا حكمة العذاب.. فإنه هو ثمن حرية التصرف.. فإن الحرية لا بد لها أن تتميز عن الفوضى، وقد تميزت بأن يتحمل الحر مسئولية عمله.. فإنه، عن طريق تحمل مسئولية العمل، يتم التعليم، وتتم التربية.. والعقوبة هي الأمر الوحيد الذي يرسخ العلم، ويجعله علم يقين، بعد أن كان مجرد علم نظري..
إن العذاب هو ثمن الحرية.. هو مسئولية الحر، الذي يتصرف كرشيد، له ثواب صوابه، وعليه عقوبة خطئه.. وهو قد يتعلم من الخطأ أضعاف ما يتعلم من الصواب، حتى لقد قال ابن عطاء الله السكندري، في حكمه: (رب معصية أورثت ذلا، وانكسارا، خير من طاعة أورثت عزا، واستكبارا)..
والذي ضلل الناس عن الحكمة وراء العذاب أمران: ظنهم أن الله لا يسيرنا، وظنهم أن العذاب لا ينتهي، وإنما هو دائم، ومستمر، بلا انقطاع.. فأصبح كأنه انتقام، وعن هذه، وتلك، تعالى الله، علوا كبيرا..
إن العذاب إنما هو كلام الله إيانا بلغة النفس.. ذلك بأنه تعالى يكلمنا بلغة العقل، وبلغة النفس.. فأما كلامه إيانا بلغة العقل فإن اللغات مثل له واضح.. وأما كلامه إيانا بلغة النفس فإنه صور محسوسة، وشكول، والأحلام مثل له واضح.. ويدخل في هذا الباب الألم واللذة.. فإذا قال الله: (كلوا، واشربوا، ولا تسرفوا)، فإن هذا كلام منه واضح، موجه إلى العقول.. فإن نحن خالفناه، وأسرفنا في الأكل، فأصيبت معداتنا بالآلام فإن هذه الآلام هي الكلام الذي تفهمه النفس، لتطيع خطاب العقل في السلوك المقبل، إستفادة من التجربة الماضية..
فإذا قال: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا، واسجدوا، واعبدوا ربكم، وأفعلوا الخير.. لعلكم تفلحون..)، فإنما هذا كلام منه واضح، وموجه إلى العقول، فإن هي لم تطع يجيء الكلام الموجه إلى النفوس والذي تفهمه النفوس.. وهو محكي هكذا: (يوم يكشف عن ساق، ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم، ترهقهم ذلة.. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون).. قوله: (يوم يكشف عن ساق) إشارة إلى يوم العذاب.. وقوله: (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون)، إشارة إلى فرط الآلام التي يجدونها، في مفاصلهم، وفي ظهورهم، مما يجعل السجود مستحيلا.. وقد أشار إلى سبب ذلك: مخالفتهم الأمر الشرعي، حين كانوا يطيقون طاعته: (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون).. وأبلغ صورة، من صور كلام الله إيانا بلغة النفس، محكي هكذا: (اصلوها، اليوم، بما كنتم تكفرون * اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون * ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون * ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم، فما استطاعوا مضيا، ولا يرجعون * ومن نعمره، ننكسه في الخلق، أفلا يعقلون؟؟).. إذا عصت النفس خطاب العقل بالأمر والنهي ظهرت عليها آثار المعصية صورا محسوسة، فكانت جزاءها على المعصية.. وهي ما نسميها العذاب.. ولقد قال تعالى عن الآثار المحسوسة لمعصية الأمر والنهي: (فلما عتوا عما نهوا عنه، قلنا لهم كونوا قردة خاسئين).. فكانوها، بدون أدنى ريب.. فالعذاب، إذن، هو تكليم الله إيانا بلغة النفس.. وهو كلام ضروري لتعليمنا في مرحلة بعينها، فإذا ما قطعناها، وأصبحنا نتعلم بسرعة، وذكاء، رفع عنا أصر العذاب.. قال تعالى، في ذلك: (ما يفعل الله بعذابكم، إن شكرتم، وآمنتم؟؟ وكان الله شاكرا عليما..)..
فإن قلت: فلماذا لا يعلمنا بغير حاجة منا إلى العذاب، ما دام هو مسيرنا؟ قلنا: أنه لو علمنا بدون أن يعطينا فرصة الخطأ فإنه يكون قد هزم حريتنا.. والحرية أهم من العلم، إذ ما العلم إلا وسيلة، بها نحسن التصرف في الحرية.. والملائكة مسيرون إلى الصواب تسييرا لا يملكون معه أن يخطئوا: (لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون).. ولكننا، نحن، مع كل ذلك، بل من أجل كل ذلك، أكمل منهم، لأننا نخطئ، ونصيب، ونشعر في خلال ذلك بالحرية التي حرمت عليهم هم.. وهذا هو معنى قول المعصوم: (إن لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيأت الله بقوم يخطئون، ويستغفرون، فيغفر لهم).. هذا هو أس كمالنا..
فإن ظننت أنت: أن الله يسيرنا إلى الخطيئة، وإلى الجهل، فأنت مخطئ.. فإنه لا يسيرنا إلا إلى الصواب، وإلا إلى العلم.. قال تعالى في ذلك: (هو الذي يصلي عليكم، وملائكته، ليخرجكم من الظلمات إلى النور.. وكان بالمؤمنين رحيما).
هو يسيرنا إلى ذاته في إطلاقها.. ويقول عن نهاية سيرنا إليه: (وإن إلى ربك المنتهى).. ومن ثم فهو يسيرنا إلى العلم المطلق، والكمال المطلق والحرية المطلقة.. ومن أجل هذه دخل الثواب، والعقاب – دخل العذاب – لأن الحرية لا تعلم، وإنما تمارس، وتعاش.. وأدنى الحرية هي حرية الخطأ.. وهي تعني: أن يعمل الإنسان، فيصيب، ويخطئ.. فإذا أخطأ تعلم من خطئه، وذلك إنما يتم بتحمل مسئولية عمله، وفق شريعة رشيدة.. ووفق حقيقة.. (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا، يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا، يره)..
فإن قلت: فكيف يكون تسيير، وتكون حرية، مع ذلك؟؟ قلنا ههنا سر اللطف الإلهي.. سر إسم الله اللطيف: (إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم)..
ومن دقائق اللطف الإلهي أنه حين يكلمنا الكلام المتوجه إلى نفوسنا (– كلام الصور المحسوسة، والشكول البارزة – العذاب –) يؤقلمنا أيضا بصورة تلطف العذاب، وتعدنا له من جميع الوجوه.. أقرأ قوله تعالى: (يوم ترى المؤمنين، والمؤمنات، يسعى نورهم، بين أيديهم، وبأيمانهم، بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها.. ذلك هو الفوز العظيم * يوم يقول المنافقون، والمنافقات، للذين آمنوا: انظرونا نقتبس من نوركم.. قيل: ارجعوا وراءكم، فالتمسوا نورا.. فضرب بينهم بسور، له باب.. باطنه فيه الرحمة.. وظاهره من قبله العذاب).. قوله: (قيل: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا)، إشارة إلى تكليم الله النفس.. ولما كان التكليم، ههنا، بلغة الصور فإن فيه إشارة إلى ردهم في سلم الترقي إلى حيوات أحط من الحياة البشرية، وفي هذه المستويات تكون الأقلمة على العذاب قد تمت.. وفي مثل هذا يقول تعالى: (يأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا، مصدقا لما معكم، من قبل أن نطمس وجوها، فنردها على أدبارها.. أو نلعنهم، كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولا).. قوله: (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) يعني: يردها راجعة في سلم التطور، إلى حيوات بدائية في صورها فتتأقلم على العذاب.. وعن أصحاب السبت قال تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت، فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين * فجعناها نكالا، لما بين يديها، وما خلفها، وموعظة للمتقين).. قوله (كونوا قردة خاسئين) ردة في سلم التطور، ولعنة، وبعد عن الله..
أما بعد، فإن الحديث عن التخيير، والتسيير، حديث طويل، ولا يكاد ينقضي منه الوطر.. وهو أصل التوحيد.. ومهما يكن الرأي، في أمر العذاب، فإن من يقل أن للإنسان تخييرا فهو ناقص في توحيده.. إلا تخييرا يبلغه بالعلم الذي يجعله يسير خلف الله، في رضا بالله تام، واتباع للرضوان بغير اعتراض، ولا تسخط.. (فانقلبوا بنعمة من الله، وفضل، لم يمسسهم سوء.. واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم).. ههنا يكون التخيير.. وهو تخيير نحن إليه، بمحض الفضل الإلهي، مسيرون..