إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

آدم وحواء


وفي صفحة 80 عن الشجرة أنت ترى: (أنها رمز للجنس، والموت، اللذين تلازما في قصة البيولوجيا.. حينما أخذت الكائنات الحية، بطريقة التلاقح الجنسي، تتكاثر، فكتبت على نفسها، طارئ الموت.. ولم تكن الكائنات قبل ذلك تموت، بل تتجدد، وتعود إلى الشباب بالإنقسام الذاتي: كان التلاقح الجنسي، هو الشجرة المحرمة، التي أكلت منها الحياة، فهوت من الخلود إلى العدم.. وبالمثل كان زواج آدم وحواء، هو زواج إثنين، من الخالدين في الجنة.. وفي مثل هذا الزواج لم تكن توجد وظيفة للنكاح، والتلاقح الجنسي.. فالخلود حقيقة قائمة، ولا حاجة للنسل، لاستمرار الحياة.. وكان الشيطان يعلم أن شجرة النسل هي إيذان ببدء الموت، والطرد من جنة الخالدين.. فكذب على آدم، وسول له أنها شجرة الخلود بعينها.. وأغراه بأن يخالط زوجه بالجسد)..
أنت تقول هذا بعد أن تعرضت، في صفحة 79، لرفض رأي الذين يقولون: أنها شجرة المعرفة.. حيث تقول: (يقول بعض المفسرين أنها شجرة المعرفة وأنها رمز.. وهو تفسير غير مقبول.. فالله لم ينه الإنسان عن طلب المعرفة بل هو على العكس كان يحضه على طلب العلم.. "وقل ربي زدني علما"..
"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق")
ونحن نرى معك أن الشجرة هي العلاقة الجنسية، ولكننا لا نرى رفض القول بأن الشجرة هي المعرفة، ذلك بأن الله لم ينه عن العلاقة الجنسية، وإنما نهى أن تكون تلك العلاقة بغير شريعة.. إن آدم هو زوج حواء في الحقيقة، لأنها انبثاق نفسه السفلى، عنه خارجه.. ولكن الله أراد له أن تكون زوجه في الشريعة.. والتكليف الذي وردت إليه الإشارة في الآية التالية، حين قال، تعالى: "ولا تقربا هذه الشجرة"، إنما هو بدء الشريعة.. قال تعالى: "ويا آدم اسكن، أنت وزوجك، الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما.. وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور.. فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.. وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة؟؟ وأقل لكما: إن الشيطان لكما عدو مبين؟؟ * قالا: ربن‍‍ا‍‍‍‍‍‍‍‍!!‍‍‍‍ ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا، وترحمنا، لنكونن من الخاسرين * قال: اهبطوا‍‍!! بعضكم لبعض عدو.. ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون، وفيها تموتون، ومنها تخرجون".. فكأن القول بأن الشجرة هي شجرة المعرفة يستقيم مع القول بأن الشجرة هي اللذة الجنسية.. فاللذة الجنسية غير محرمة داخل الشريعة، وإنما هي محرمة خارجها – هي غير محرمة إذا أخذت بحقها – وحقها يقتضي معرفة الحرام، والحلال.. والذي يسمع قولك: (ولم تكن الكائنات قبل ذلك تموت بل تتجدد وتعود إلى الشباب بالإنقسام الذاتي).. الذي يسمع هذا القول يشعر بأن مرحلة التجدد بالإنقسام الذاتي، أكمل من مرحلة الموت، وهذا خطأ جسيم.. وقولك: (كان زواج آدم وحواء هو زواج إثنين من الخالدين في الجنة.. وفي مثل هذا الزواج لم تكن توجد وظيفة للنكاح والتلاقح الجنسي فالخلود حقيقة قائمة ولا حاجة للنسل لاستمرار الحياة)، يدل على جهل بحقيقة وظيفة النكاح، إذ يجعل النسل هو همها الأول، والحق أن اتساع حياة كل من الزوجة والزوج، بممارسة اللذة التي بها يتسامى الحب، هو الوظيفة الأساسية للزواج.. فإنه، إن يكن كما زعمت، يكن الفرد وسيلة للجماعة.. وهذا أمر يضع العربة أمام الحصان.. ذلك بأن الفرد هو غاية الحياة.. وما الجماعة إلا وسيلتها إلى إنجاب الفرد، الحر، الكامل.. إن صورة الأمر كله هكذا: خلق الله خلقا هم عقول بلا شهوة، وهؤلاء هم الملائكة.. وخلق خلقا هم شهوة بلا عقول، وهؤلاء هم الأبالسة.. وخلق خلقا هم شهوة ركبت عليها العقول لتسوسها بشريعة الحرام، والحلال، وهؤلاء هم البشر.. وحين نقول: أن الشجرة هي اللذة الجنسية، أو نقول: أن الشجرة هي معرفة الحلال، والحرام، إنما نحن نتحدث عن شئ واحد، يختلف اختلاف مقدار.. فالمعرفة وسيلة الممارسة الصحيحة، وأنما ذكرنا العلاقة الجنسية في هذا الباب، لأنها أعمق اللذات، وأقربها من لذة الحياة نفسها.. وإلا فإن الشجرة تعني، في التنزلات، أي رغبة نفس، في قضاء لبانة من لباناتها.. وكل لبانة لا تقضى باسم الله، وفي سبيل الله، فهي حرام.. قال تعالى، في أمر الحلال، والحرام: "فكلوا مما رزقكم الله حلالا، طيبا.. واشكروا نعمة الله، إن كنتم إياه تعبدون * إنما حرم عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به.. فمن اضطر، غير باغ، ولا عاد، فإن الله غفور رحيم * ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: هذا حلال.. وهذا حرام.. لتفتروا على الله الكذب.. أن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون" فالحرمة إنما هي حكم شرعي، وليس شئ هو حراما في عينه.. وعند العارفين، الحرام من الكسب ما أخذ من غير يد الله، مهما كان حله في الشريعة.. إذا أخذت، ولم تر يد الله، وأنما حجبت عنها بيد الواسطة، فقد أخذت حراما.. هذا هو ما دلت علية الآية الأولى: "فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا.. واشكروا نعمة الله، إن كنتم إياه تعبدون".. فالحكمة من شريعة الحرام والحلال هي رؤية يد الله في كل شئ.. ومعنى هذا: أن كل عمل، نعمله أو ندعه، لا يكون اعتبار مرضاة الله فيه هو دافعنا للعمل، أو للترك، فهو عمل باطل.. قولك: (وكان الشيطان يعلم أن شجرة النسل هي إيذان ببدء الموت والطرد من جنة الخالدين فكذب على آدم وسول له أنها شجرة الخلود بعينها وأغراه بأن يخالط زوجه بالجسد) قول يعطي الشيطان فضيلة ليست له.. إن الشيطان لم يكن يعلم، وإنما كان يجهل.. ولولا أنه كان يجهل لما عصى الله.. هذا لا ينفي عن الشيطان مطلق العلم، وإنما ينفي عنه العلم النافع.. فقد كان يعلم بظواهر الأشياء فقط، ولذلك يقول الصوفية: إن علم الظاهر وحده علم شيطنة، وهو لا يورث التقوى.. وكذلك كان إبليس.. كان عالما بغير تقوى.. والتفاصيل التي وردت في الفقرة التي اقتبسناها لك آنفا لا يعرفها الشيطان.. وهو، إنما أضل آدم، لجهله هو لا لعلمه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: "فدلاهما بغرور" يعني: خفض درجتهما، بنصيحته الجاهلة..
هذا ما تيسر، في أمر باب قصة الخلق.. وهو باب يثير مسائل في غاية الأهمية.. ولكننا نكتفي بهذا القدر، ونرجئ الحديث عن أسرار العدد إلى أن يأذن الله في فرصة أخرى.. ربما في كتاب (القرآن بين التفسير، والتأويل)..