إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

الفصل الرابع

الجنة والجحيم



وصف الجنة والجحيم وارد في القرآن، ورودا مستفيضا، وفي القرآن، حرفية الوصف مقصودة، وباطنه مقصود.. والأمثال في القرآن ليست كالأمثال في حديثنا نحن، ذلك بأنها علم.. فهي تتوخى التفهيم، ولكنها لا تفارق الحق.. فإذا قال الله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر، لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى)، فليس معنى هذا أن ظاهر الألفاظ غير مقصود، إلا لتقريب المعنى، وإنما هو مقصود بالذات.. ففي الجنة، حسيا، ما وعد الله، في القرآن، أنه فيها.. ثم تتفاوت صور الحس في اللطافة، حسب درجات الجنات.. وأدناها يفوق تخيل المتخيل: "أنزل من السماء ماء، فسالت أودية بقدرها، فاحتمل السيل زبدا، رابيا.. ومما يوقدون عليه في النار، ابتغاء حلية، أو متاع، زبد مثله. كذلك يضرب الله الحق، والباطل.. فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.. كذلك يضرب الله الأمثال".. ههنا: "أنزل من السماء ماء"، يعني الماء المعروف.. "فسالت أودية بقدرها"، يعني الوديان المعروفة.. "فاحتمل السيل زبدا رابيا"، يعني، أيضا، الزبد الذي يثيره الماء الغزير في جريانه السريع، ويحمله على السطح.. ثم قال: "ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية، أو متاع، زبد مثله" وههنا جاء بالعلم.. فإنه قرر أن: الذهب، والفضة والحديد، والنحاس – جواهر الحلي، ومعادن الأمتعة – كلها من أصل واحد، هو الماء.. وشبهها بالزبد، لأنها زيف زائل.. وما يبقى هو المعرفة التي تحصل عليها النفوس، وهي ترتفق إرتفاقا مرحليا، بالحلي، وبالأمتعة.. والماء أصل، وهو حق، والزبد باطل، ولذلك قال "كذلك يضرب الله الحق والباطل" ثم مضى ليقول: "فأما الزبد، فيذهب جفاء.. وأما ما ينفع الناس، فيمكث في الأرض".. يعني: أما الباطل، فهو زاهق، وأما الحق فهو باق.. ثم جاء بقوله، عن كل هذه التشبيهات، "كذلك يضرب الله الأمثال".. هذا في الجانب الحسي.. وفي الجانب المعنوي: "أنزل من السماء ماء"، يعني: من العقول، والماء المعرفة من القرآن.. "فسالت أودية بقدرها"، يعني: القلوب.. "فاحتمل السيل زبدا رابيا" يعني ذهبت أنوار القرآن عن القلوب بغواشي الغفلة، التي نسجت خيوطها شهوات البطن، والفرج.. "ومما يوقدون عليه في النار، ابتغاء حلية، أو متاع، زبد مثله".. "في النار"، يعني نار الجبلة.. والحلية، والمتاع، شهوات الجبلة من حب الإستعلاء والرئاسة، "زبد مثله"، هي أيضا غواشي غفلة، كشهوات البطن، والفرج.. "كذلك يضرب الله الحق، والباطل".. "الحق" المعرفة، "والباطل"، زيف الشهوات.. "فأما الزبد، فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس، فيمكث في الأرض"، أرض القلوب.
هذا وجه موجز، من جملة وجوه، تتفاوت في اللطف في دقائق معاني القرآن حيث المثل ينطبق على الحس، وعلى المعنى، في آن معا.. ولأن الأمثال في القرآن علم قال تعالى عنها: "فلا تضربوا لله الأمثال، إن الله يعلم، وأنتم لا تعلمون * ضرب الله مثلا: عبدا مملوكا، لا يقدر على شئ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا، فهو ينفق منه سرا، وجهرا.. هل يستوون؟؟ الحمد لله!! بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا: رجلين: أحدهما أبكم، لا يقدر على شئ، وهو كل على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير.. هل يستوي هو، ومن يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم؟؟".. ومن أجل أنها علم أيضا، قال عنها: (نحن أعلم بما يستمعون به، إذ يستمعون إليك، وإذ هم نجوى.. إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * أنظر!! كيف ضربوا لك الأمثال، فضلوا، فلا يستطيعون سبيلا؟؟"..
ومن ههنا، فإن قولك من صفحة 85، عن قوله تعالى: "مثل الجنة وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى" قولك عنها، بأنها ضرب مثل (وليست إيرادا لأوصاف حرفية. فهذا أمر مستحيل لأن الجنة والجحيم أمورغيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا)، قول غير صحيح.. والجنة والجحيم، على كل حال، ليست أمورا غيبية تماما، فإنا نعيش طرفا منها، في هذه الحياة.. فإن غيبا، لا يكون حاضرا طرف منه، اليوم، لا وجود له.. وكل ما هناك، أن الاختلاف بين ما نعيشه اليوم، من صور الجنة والجحيم، وبين ما يكون عليه الأمر غدا، إنما هو اختلاف مقدار.. ومن ثم، فإن الجنة، والجحيم، في طرفها الذي يناسب الدنيا، يمكن تصويرها (في كلمات من قاموسنا).. وأما قولك من نفس الصفحة: (وبالمثل كان موقف القرآن في مخاطبة البدوي البسيط. وكل أمنية البدوي الذي يعيش في هجير الصحراء أن يعثر على نبع ماء عذب.. فكل ما يجد من مياه ما هو إلا ينابيع مالحة آسنة.. وكذلك اللبن.. فما أسرع مايختمر ويتغير طعمه في حر الصحارى.. فيضرب له القرآن المثل من أعزما يتمنى). فإنه قول من الكبائر.. ذلك بأن القرآن، إذا كان كما تصف فما هو إلا كتاب محلي.. وكأنك تراه، لو نزل على غير قوم الصحراء، لما نزل بصورته الحاضرة.. وكأنك، بذلك، تقول: أنه ليس كتابا علميا، في الوقت الذي نحن فيه نعرف، أن قيمة القرآن إنما هي في كونه كتاب علم نفس، يسوق آيات الآفاق.. ليصل بها إلى آيات النفوس: (سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟؟).. أقول قولي هذا، ولا أذهل عن حقيقة بيانية، هي أنه لو نزل على غير قوم الصحراء، لساق لهم من آيات الآفاق ما يناسب بيئتهم.. ولكن هذه الظاهرة ما يجب أن نحملها إلا على أنها.. ظاهر، لباطن.. يجعل القرآن كتاب علم، وليس كتاب بيان يستقيم مع اللسان، والمنطق، فحسب..
ومن العجب أنك تورد الآية، أو الأصح طرفا من الآية "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما، بعوضة فما فوقها" ثم تقول عنها: (فكل الغاية هي تقريب تلك المعاني المستحيلة بقدر الإمكان.. وكل ما جاء عن الجنة والجحيم ما هو إلا ألوان من ضرب المثال وألوان من التقريب وألوان من الرمز).. فاستمع إذن إلى كل الآية التي أوردت طرفا منها: "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما، بعوضة، فما فوقها.. فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم.. وأما الذين كفروا فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟؟ يضل به كثيرا، ويهدي به كثيرا، وما يضل به إلا الفاسقين" فما معنى "إن الله لا يستحي"؟؟ إن استحياء أحدنا خجل، وليس كذلك استحياء الله، تعالى الله عن ذلك.. وإنما استحياء الله علم، وهو "لا يستحي أن يضرب مثلا ما، بعوضة فما فوقها"، يعني لا يترك أن يضرب هذا المثل، لأنه حق، وهذا هو معنى إشارته، تبارك، وتعالى، من نفس الآية: "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم.. وأما الذين كفروا فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟؟"، وانما يقول الذين كفروا قولتهم هذه لاستصغارهم لشأن البعوضة، وذلك لحقارة شأنها في عالم الأجساد.. وهم لا يعلمون ما وراء الأجساد من حقائق.. قوله: "يضل به كثيرا، ويهدي به كثيرا.. وما يضل به إلا الفاسقين".. يعني يضل بهذا المثل، ويعني يضل بالحق أيضا، ويعني يضل بالقرآن.. يضل بكل أولئك، ويهدي.. "وما يضل به إلا الفاسقين"..
أنت في أشد الحاجة إلى مراجعة رأيك في أمر القرآن، فإنك، إن تفعل، يتضح لك أن قولك: (وكل ما جاء عن الجنة والجحيم ما هو إلا ألوان من ضرب المثال وألوان من التقريب وألوان من الرمز)، قول باطل، شديد البطلان.. ومن عجب، أنك تنساق إلى التدليل على هذا الراي الباطل، باقتباس وصف أشعيا ليوم الرضوان عن العهد القديم، وتسوق في التدليل أيضا، تراتيل القديس أفرايم، ثم تقول: (إنها صورة مشتركة في جميع الأديان) وأنت بذلك تذهل عن حقيقة ما ينبغي الذهول عنها، هي أن كتب العهد القديم، والعهد الحديث، إنما هي بمثابة أحاديث يمكن مقارنتها بالحديث النبوي، حيث المعنى موحى، واللفظ من عند النبي، ولكن القرآن موحى كله، لفظه، ومعناه.. وليس للنبي فيه شئ، غير تبليغه.. "لاتحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم ان علينا بيانه" وقال أيضا في هذا الشان "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه.. وقل ربي زدني علما"..
قولك من صفحة 87: ("فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون".. إنه يحيل القضية كلها إلى غيب لا يمكن التعبير عنه بلغة الأرض هنا كل من العين والقلب مما لا يمكن تصويره بألفاظ).. ألا ترى أنه قد عبر؟؟ ثم في حق من قيلت هذه الآية؟؟ أقرأ‍‍!! "إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا، وسبحوا بحمد ربهم، وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفا، وطمعا.. ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون".. قوله "قرة أعين" يعني: طمأنينة القلب بسكون جيشان الخواطر، بفضل الوجدان، بعد الفقدان – وجدان الله في القلب، بعد فقدانه خلف الحجب– قوله: "فلا تعلم نفس".. يعني: فلا يعلم أحد غير الله، ما يكون عليه كمال حالهم يوم الوجدان.. وبذلك تكون العبارة قد أوفت بالمراد.. إن العبارة يراد منها أن تقول أنهم يجدون ذات الله في قلوبهم، فتقر القلوب، بهذا الوجدان من الجولان.. وكيفية وجود الله مجهولة..