إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

بسم الله الرحمن الرحيم
(حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) صدق الله العظيم


مقدمة


أخرج الدكتور مصطفى محمود كتابا أسماه: (القرآن، محاولة لفهم عصري) طبعته (دار الشروق) ببيروت في شهر مايو من عام 1970..
لا ريب عندي أن هذا الكتاب سيؤرخ تحولا في الفكر الإسلامي في الشرق العربي، لا لأنه كتاب جيد، ولكن لأنه كتاب جريء.. وليست الجرأة على الخوض في أمر من أمور الدين بمحمودة على كل حال، ولكنها، إنما حمدت في هذا المقام، لأنها تمثل ثورة على الجمود الفكري، والعقم العاطفي الذي ضربه، حول الدين، من يطيب لهم أن يسموا أنفسهم رجال الدين.. فلقد جمد هؤلاء الدين، وحجروه، في عصر اتسم بالسيولة، واحتشد بالحركة، والحيوية، والتجديد.. فلم يبق سبيل إلى الإنعتاق من أسر جمودهم غير الثورة.. ولا تملك الثورة أن تعتدل، وإنما هو الشطط.. وكذلك كان كتاب الدكتور مصطفى محمود، شططا في طرف التفريط وشططا في طرف الإفراط.. وقولا، في أدق أمور الدين، بغير علم، وإنما هي الخواطر الفطيرة، الفجة، تُسجل تسجيلا، وتُرسل إرسالا.. ولقد نُشرت محتويات هذا الكتاب في مقالات منجمة، على مدى ثلاثة عشر أسبوعا، بمجلة (صباح الخير) الأسبوعية، مبتدئة بعدد الخميس، أول يناير، من هذا العام – عام 1970– وكان العنوان الذي جرى تحته النشر: (محاولة لتفسير عصري للقرآن) وفي أثناء ذلك النشر توجهت إلى مجلة (الأضواء) السودانية بستة أسئلة، كان أولها: (هل يملك الدكتور مصطفى محمود مؤهلات المفسر العصري للقرآن؟؟) ولقد نُشرت الإجابة بعدد السبت الموافق 4/4/1970، وكان نصها: (مؤهلات المفسر العصري للقرآن تقوم على أمرين: أن يكون المفسر ملما إلماما صالحا بحاجة العصر، وأن يكون عالما علما وافيا، ودقيقا، بحقيقة القرآن..
فأما حاجة هذا العصر فإلى الهداية.. فإن البشرية لم تكن يوما في التيه كما هي اليوم.. وسمة هذا العصر هي القلق، والحيرة، والاضطراب.. هذا عصر الثورات: الثورة الثقافية، والثورة الجنسية، وثورة الشباب، وكلها دليل على القلق، والحيرة، والاضطراب.. هذا عصر (الهيبيز).. جماعات من الشباب، من الجنسين، يزيد عددهم كل يوم، ويستطير شرهم كل يوم، حتى لقد عم جميع الأقطار.. يقوم مجتمعهم على الرفض، فهم قد وجدوا مجتمع الحضارة الغربية، الآلية، مجتمع إنتاج واستهلاك، فقد الإنسان المعاصر فيه روحه، وقيمته، وحريته، واستحال إلى آلة تنتج وتستهلك، فرفضوه، ورفضوا معه كل عرف، ودين.. وفزعوا إلى صور من مجتمعات الغابة، فهم يلبسون المرقعات، ويسيرون حفاة، ويرسلون شعورهم، ويبيتون على الأرصفة، والطرقات، ويستبيحون بينهم من العلائق الجنسية ما ظلت البشرية على صيانته حريصة خلال تاريخها الطويل.. هم يبحثون عن حريتهم، وعن إنسانيتهم، وعن فرديتهم، فلا يكادون يجدون غير الضياع، وغير القلق، وغير الإضطراب.. فهل عند مصطفى محمود إدراك واسع لهذه الظاهرة، واهتمام بها، وسعي لإيجاد الهداية لها من القرآن بتفسيره العصري؟؟
ثم حقيقة القرآن.. ما هي؟؟ هي العلم المطلق.. وعندما تأذن الله أن يسرع الإنسان في معرفة المطلق نزله من الإطلاق إلى القيد، فكانت، في قمة القيد، الإشارة، وفي قاعدة القيد العبارة.. فأما العبارة فهي (الكلمة العربية).. وأما الإشارة فهي (حرف الهجاء العربي) وأما حقيقة القرآن فهي فوق الإشارة، وفوق العبارة.. ولقد قال تعالى في ذلك: (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا، عربيا، لعلكم تعقلون * وإنه، في أم الكتاب، لدينا، لعلي حكيم) فاما قوله: (حم) فإشارة.. وأما قوله: (والكتاب المبين) فعبارة.. وكذلك قوله: (إنا جعلناه قرآنا، عربيا، لعلكم تعقلون..) فإنه عبارة تفيد العلة وراء تقييد المطلق.. وأما قوله: (وإنه، في أم الكتاب لدينا، لعليّ حكيم..) فإنما هو عبارة، تفيد، بقدر طاقة العبارة، عن حقيقة القرآن.. وحقيقة القرآن لا تُعرف عن طريق القراءة، وإنما تعرف عن طريق الممارسة في تقليد المعصوم، عبادة وسلوكا، وهو ما سُمي، في أخريات الأيام، (بالتصوف)..
فهل عند مصطفى محمود قدم في التصوف؟؟ لا‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! ولا كرامة‍‍!!
إن ما أسماه الدكتور مصطفى محمود تفسيرا عصريا للقرآن ليس بتفسير، على الإطلاق، وإنما هو خواطر.. ولو قد كان للدكتور الفاضل قدم في التصوف لمنعه الورع أن يخوض فيما خاض فيه من أمر الدين بهذه الخواطر الفطيرة.. ومهما يكن من الأمر، فإن البشرية اليوم لا تحتاج إلى تفسير القرآن، وإنما تحتاج إلى (تأويله).. وليس ههنا مجال الخوض في هذا الأمر، وإنما موعدنا مع القراء الكرام كتاب، هو الآن تحت الإعداد، في الرد على محاولة الدكتور مصطفى محمود لما أسماه بتفسير عصري للقرآن..) هذا ما جاء في الرد على سؤال مجلة (الأضواء)..
كلا‍‍!! فليس للدكتور مصطفى محمود قدم في التصوف.. بل هو لم يتفق له أن مارسه.. بل هو لا يقدره حق قدره.. بل هو لا يحفظ له بعض ما ينبغي له من الحرمة.. أسمعه وهو يتحدث عن النبي في صفحة 21 فيقول: (ولو كان محمد مؤلفا لألّف في هاتين السنتين كتابا كاملا. ولكنه لم يكن أكثر من مستمع أمين سمع كما تسمع أنت تلك الكلمات ذات الموسيقى العلوية في لحظة صفاء وجلاء فذُهل كما تذهل وصعقت حواسه أمام هذا التركيب الفريد المضيء.).. فلعمري، لقد كان محمد مستمعا أمينا، ولم يكن أكثر من ذلك، إذا أردنا من قولنا هذا أن القرآن من عند الله، وليس من عند محمد.. فلم يكن لمحمد فيه غير الإستماع، والإتباع: (لا تُحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه، وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه) ولكنه، مع ذلك، لم يكن قد (سمع كما تسمع أنت) لأنه كان قد أُعد إعدادا فريدا، أنفق فيه خمس عشرة سنة بغار حراء، يصوم النهار، ويقوم الليل.. يتحنث، ويتخضّع ويتزلّف.. حتى إذا استعد المكان منه لتلقي القرآن كان من أول ما نزل عليه زيادة في الإعداد برسم طريق الصيام، والقيام، فقال تعالى في ذلك: (يأيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه، أو انقص منه قليلا * أو زد عليه، ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطأ، وأقوم قيلا..). يقول تبارك وتعالى لنبيه الكريم: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا).. فلكأنه يطلب منه الاستعداد لسماعه، ولمتابعته، حين يُلقى عليه.. والاستعداد لحفظه، ولفهم ما يفهم منه.. والاستعداد للعمل بما يجب عليه العمل به منه.. والاستعداد لتبيين ما يجب عليه تبيينه منه لأمته، في التشريع، وفي التفسير.. وإنما يكون ذلك الاستعداد بصيام النهار، وبقيام الليل (إلا قليلا، نصفه أو أنقص منه قليلا، أو زد عليه..) ويحضه على القيام بعد النوم، ويرغبّه فيه، وذلك بذكر فضائله: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئا، وأقوم قيلا).. (إن ناشئة الليل)، القيام بعد النوم، في الثلث الأخير من الليل.. (هي أشد وطئا).. مواطأة القلب للسان في الإنصات للقرآن في ساعة يصفو فيها الوقت، باستعداد القلب للتلقي، وبسكون الحركة التي تشغل الأذن، وبتقييد الظلام للنظر الذي يوزع الخاطر.. (وأقوم قيلا) يعني أوضح قولا.. ولقد كانت حياة محمد سمتا عاليا من الاستعداد الدائب لتلقي المزيد من معاني القرآن: (وقل رب زدني علما) فكان صواما، قواما، ساعيا في توصيل الخير للناس، وصادقا في حب الخير للناس.. وكان كلما نزل عليه القرآن استعد به لتلقي المزيد منه: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق، وموعظة، وذكرى للمؤمنين).. وفي موضع آخر: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك، لنثبّت به فؤادك، ورتلناه ترتيلا).. ولقد جعلت هذه الحياة الثرة، الخصبة، العريضة، تجسيدا لمعاني القرآن، في الدم واللحم، فأصبحت مفتاحا لمغاليق معانيه، وهاديا في متاهات غيوبه.. وهذا هو السر في وضع محمد بيننا وبين الله في الكلمة التي هي باب الدخول في حضرة الملة: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).. وجاء العُبّاد، من لدن أصحاب محمد، وإلى أشياخ الصوفية، يترسمون هذه الحياة.. يقلّدونها في السيرة، وفي العبادة، ما أسعفهم الوسع، وما أمكنتهم الطاقة.. وهم يتلقون، من واردات الفهم عن الله من القرآن، ما قد جعلت العناية الإلهية بهم إتقانهم لتقليد حياة محمد مقدمة له، ووسيلة إليه.. فإذا جاء الدكتور مصطفى محمود، في آخر الوقت، ليقلل من كل هذه المجاهدات، فيختصرها، فيقول عن محمد: (ولكنه لم يكن أكثر من مستمع أمين، سمع كما تسمع أنت تلك الكلمات ذات الموسيقى العلوية في لحظة صفاء وجلاء، فذُهل كما تذهل، وصعقت حواسه أمام هذا التركيب الفريد المضيء) فإنما يدل ذلك على أن هناك خطأ جسيما، وأساسيا، يتورط فيه الدكتور مصطفى محمود فيما يخص أمر النبي وسيكون لهذا الخطأ الجسيم سود العواقب على كل ما يكتب الدكتور عن القرآن، سواء أكتب من بعيد، أو كتب من قريب.. وأس هذا الخطأ الأساسي الذي يتورط فيه الدكتور إنما هو ظنه أن أسرار القرآن تنالها العقول، ويسبرها الفكر.. والذي عليه من أُوتوا بصرا بهذا الأمر هو أن أسرار القرآن من وراء العقول، وأنه لا يشم شميمها إلا من استطاع أن يرفع عن قلبه حجاب الفكر، وذلك بإتقان العبادة في تقليد محمد، في أسلوب عبادته، وفيما يتيسر من أسلوب عادته.. ذلك بأن العبادة وسيلة إلى الفكر، وأن الفكر وسيلة إلى رفع حجاب الفكر، حيث ينتهي الإدراك الشفعي، الذي أداته العقل، ويبدأ الإدراك الوتري، الذي أداته القلب.. ودقائق أسرار القرآن وترية.. وإنما الشفعية، والتعددية، في ظواهره، وحواشيه..
إن غفلة الدكتور عن هذه الحقيقة هي التي ورطته في الهلكة التي تورط فيها تورطا موبقا، وذلك بإصدار كتاب يتحدث عن أدق أصول الدين بغير علم.. وهذه الغفلة ليست جديدة على الدكتور مصطفى محمود.. ولقد اتفق لي شرف التنبيه إليها منذ زمن بعيد، وذلك في مقال لي نشر في صحيفة (أنباء السودان)، العدد نمرة 188، بتاريخ السبت، 7 فبراير، عام 1959، على أثر سؤال وردني من أحد الأخوان.. وأحب، في هذا الموضع من المقدمة، أن أورد للقراء الكرام كل ما جرى يومئذ، لأنه شديد الدلالة على طبيعة ظن الدكتور مصطفى بأمر الدين، وأمر القرآن، من ثم..