إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

الفصل العاشر

البعــث



هذا فصل عن البعث.. والبعث يعني اليقظة بعد النوم، ويعني الحياة بعد الموت.. وبين النوم والموت اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.. قال تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى.. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون".. وعن البعث من النوم قال تعالى، عن أهل الكهف، الذين ضرب عليهم النوم: "ثلاثمائة سنين"، قال عن بعثهم: "وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم، قال قائل منهم: كم لبثتم؟؟ قالوا: لبثنا يوما، أو بعض يوم.. قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم.. فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر: أيها أزكى طعاما؟؟ فليأتكم برزق منه.. وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا"..
وكان بعثهم هذا عن حالة نوم عميق ضربه الله عليهم.. وقال في وصفه: "فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين احصى لما لبثوا أمدا".. وعن حالة رقادهم ذلك قال: "وتحسبهم أيقاظ وهم رقود.. ونقلبهم ذات اليمين، وذات الشمال.. وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.. لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا، ولملئت منهم رعبا".. فالبعث، ههنا، هو اليقظة من النوم وعن البعث الذي هو الحياة بعد الموث قال تعالى: "لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد.."، ولقد قال في وصف حالة ما قبل هذا البعث: "ولقد خلقنا الإنسان، ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان، عن اليمين، وعن الشمال، قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد * وجاءت سكرة الموت بالحق، ذلك ما كنت منه تحيد * ونفخ في الصور، ذلك يوم الوعيد * وجاءت كل نفس، معها سائق، وشهيد * لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد".. وعن حالة الغفلة التي يكون منها البعث قال المعصوم: (الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا)..
فالبعث هو تيقظ الفكر، واستيفاز الشعور، بعد أن يكون النوم، أو الموت، أو الجهل.. قد أرخى عليهما أستار التبلد، والإنحلال.. والفكر هو الإدراك الدقيق، اللطيف، الذي يميز بين الأشياء، وأدناها شيئان: الشيء، وضده.. ولذلك فقد صح أن نقول: إن الفكر هو قوة الإدراك الشفعي.. والفكر وظيفة العقل.. والعقل يعمل في الدماغ.. وأما الشعور فهو الحياة الملتذة بما يلذ، المتأذية مما يؤذي، الفارة مما يؤذي، إلى ما يلذ.. وهي، في فرارها ذلك، تستخدم الفكر، استخدام المخدوم للخادم.. وهي، من ثم، تحاول أن تصير، أو أن تسير، من الشفعية إلى الوترية ـ من الإدراك الشفعي، إلى الإدراك الوتري ـ والشعور وظيفة الفؤاد.. والفؤاد يعمل في القلب، وحصيلة الشعور الحب.. ومع أن الحب ضده البغض، غير أنه ليس للبغض مكان في سويداء القلب، وإنما هو على حواشيه، وسببه الخوف الناتج من نقص العلم.. وحواشي القلب هي قوى الإدراك الشفعي – هي العقل.. فليس في سويداء القلب إلا الحب.. ومن ثم، فإن القلب هو قوة الإدراك الوتري.. وهذه الخاصية هي التي رشحت القلب ليكون بيت الرب.. قال تعالى، في الحديث القدسي: (ما وسعني أرضي، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن..).. وحين كان على حواشي القلب العقل، وهو قوة الإدراك الشفعي، فإن على حواشي العقل الجسد.. والجسد هو قوة الإدراك التعددي.. والإدراك التعددي يتمثل في الحس.. وهذا ظاهر، وبخاصة في بداية الحياة، قبل ظهور الحواس.. فقد كان الحي الأول يحس بجسده كله – يحس بكل ذرة من جسده – فلما تقدمت الحياة، وتعقدت، توظفت الوظائف، وانحصر الحس في مواضع بعينها، هي الحواس.. وأصبح على الجلد أن يكون درقة، ودرعا واقيا للحي، يقيه عوادي البيئة، وهكذا ضعف إحساسه.. والحياة الآن في ترقيها، وتطورها، راجعة إلى إشاعة الحس في جميع ذرات الجسد، على نحو ما كان عليه الشأن عند الحي البسيط، البدائي.. فهذه المهمة هي وظيفة العبادة – هي وظيفة التوحيد.. وسبيله إليها محاربة الخوف.. ذلك بأن الخوف العنصري هو الذي حفز الحياة في مراقي التطور، فوظف الوظائف لأعضاء الجسم المختلفة.. ومن هذه الوظائف، كما سلفت الإشارة، ظهور الحواس، وظهور العقل.. ومنها إسناد الوقاية لبقية الجسم – للجلد.. ولقد إقتضى هذا أن يتبلد حسه.. ومن أجل بلوغ الغاية المرجوة، وهي إعادة الحس إلى الجلد، إتجه التوحيد إلى محاربة الخوف العنصري، فابتدأ بتحويله إلى خوف واع، موحد في واحد، فجاء القول: (رأس الحكمة مخافة الله).. ثم ان السير، في هذا الإتجاه، يفضي بنا إلى المعرفة التي تقرر أن الله لا يُخاف، وإنما يُحب – يُؤنس به، ويُطمأن إليه، ويُحب..
قال تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم.. ثم تلين جلودهم، وقلوبهم إلى ذكر الله.. ذلك هدى الله، يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد"..
قوله: "ثم تلين جلودهم"، إشارة إلى تخلص الجلود من التحجر، وبلادة الحس، ومن القشرة الكثيفة التي فرضتها عليه وظيفة الوقاية.. فإنه، بعد الإطمئنان من الخوف، يلين الجلد، وينعم، ويلطف، ويكون قوي الإحساس، مرهف الشعور..
وإنما تكون الطمأنينة من الخوف بفضل العلم بعواقب الأمور.. قال تعالى، في ذلك: "قل لا أملك لنفسي نفعا، ولا ضرا، إلا ما شاء الله.. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء.. إن أنا إلا نذير، وبشير، لقوم يؤمنون".. والعلم أوله إيمان باللسان، وعمل بالجوارح.. ثم إيمان بالعقل وطمأنينة بالقلب.. ثم إيقان بالعقل وسلامة بالقلب.. وعند الإيقان، يعني عند حصول علم اليقين للعقل تحصل السلامة للقلب، بالخلاص من الخوف.. وعندها يتسع القلب، ويقوى، وينتظم، ويدفع دم الحياة قويا نقيا في كل ذرات الجسد، وفي كل ذرات الجلد، فتنشط الحياة في مواته بنشاط، وانتظام إفرازات الغدد الصماء، وغيرها من الغدد ذات الوظائف المختلفة، ويقفز الجسد كله إلى الحياة الكاملة، ولا يبقى فيه موضع كثافة، ولا موطن بلادة، ويتحقق موعود الله فيه.. قال تعالى: "يأيها الناس!! إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، لنبين لكم، ونقر في الأرحام ما نشاء، إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشدكم، ومنكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، لكيلا يعلم من بعد علم شيئا.. وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج).. هذه الأرض هي أرض الجسد.. والماء هو العلم الذي ينزل من سماء العقول الصافية على هذه الأرض فيجدد شبابها، ويبعث فيها الحياة جديدة، دفاقة، جياشة بالحس المرهف، والعاطفة الصادقة.. وإلى هذا أشار شيخ الطائفة الصوفية، أبو القاسم الجنيد، فقال:
تطهر بماء الغيب، إن كنت ذا سر * * وإلا تيمم بالصعيـد وبالصخر،
وقدم إماما كنت أنت إمامه * * وصل صلاة الفجر، في أول العصر،
فتلك صلاة العارفين بربهم * * فإن كنت منهم فانضح البر بالبحر

قوله: (ماء الغيب) يعني العلم بالله.. وقوله: (فأنضح البر بالبحر) يعني أفض على الجسد من أنوار العلم ما يحيي مواته، كما يحيي الماء موات الأرض الهامدة.. ولقد قلنا أن العلم يحرر صاحبه من الخوف، فيقع الإتزان الذي يدفع الدم القوي حاملا إفرازات الغدد السليمة، فينعش، ويغذي كل خلايا الجسد غذاء صحيا، يبعثها من موتها جديدة، ومتجددة باستمرار..
هذا هو البعث الأعظم – بعث موتى القلوب.. وهو الموت الأعظم عند الله.. قال تعالى: "ومن كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات، ليس بخارج منها؟؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون.." قوله: "أومن كان ميتا" بالجهل بالله.. "فأحييناه" بالعلم بالله.. يعني أومن كان ميت القلب بظلام الكفر، فبعثنا قلبه، وأحييناه بنور الإيمان، كمن هو في ظلمات الجهالات يتخبط فيها على غير هدى؟؟ وإلى غير خروج؟؟ وبعد.. فإني أحب أن يكون البعث هو على هذا النحو.. هو بعث حياة القلوب، لأن به السلوك، وبه السير من البعد عن الله إلى القرب من الله.. وهذا هو الحياة..
أما البعث من الموت الحسي فهو حق، وواجب، وما ينبغي أن يأخذ من وقتنا أكثر مما أخذ.. ولولا أن هذا الكتاب قد طال لتحدثت عن بعث موتى القلوب.. ولكنني قد تحدثت عنه، بما يغني عن الإعادة ههنا، وذلك في كتابي (رسالة الصلاة)، في مقدمة الطبعة الرابعة.. فليراجع في موضعه..
ثم تحسن مراجعة مقدمة كتاب (أسئلة وأجوبة)، فإنها مقدمة ترسم طريق السير من البعد إلى القرب، والبعد موت، والقرب حياة – بعث من الموت..