إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تطوير شريعة الأحوال الشخصية

بين الفـرد والمجتمع:


غني عن القول أن نشأة المجتمع قد استغرقت عهدا طويلا، طويلا، بلغ خلاله عنف الجماعة بالأفراد المنحرفين، عن العرف والعادة، مبلغا رهيبا.. فقد كان الأفراد غلاظا، شكسين، صعبي المراس.. وكان ترويضهم وتأديبهم، يحتاج إلى عنف عنيف.. وكانت عقوبة القتل توقع على أبسط المخالفات، إلى جانب التعذيب والتمثيل، والتشويه، فلم تكن يد السارق تقطع كما هي عندنا في شريعتنا الآن، وإنما كانت تقطع رقبته.. ثم خفف عليه في الأمد الطويل، فاستؤصل بعضه بدلا من كله.. وكذلك جاءت شريعة قطع اليد.. هذا على سبيل المثال.. الغريب في الأمر أن هذا العنف العنيف بالأفراد لم يكن ليضحي بهم في سبيل الجماعة، وإنما كان يوفق بين حاجتهم، وحاجة الجماعة.. ولا غرو في ذلك، فإن القوانين، منذ أن نشأت في صور العادات والأعراف البدائية، قد كانت شريعة إسلامية، تتسم بالعدل، وتوجهها الحكمة.. ولكنها إنما كانت شريعة إسلامية في نطاق الدين الإسلامي العام.. وقد قلنا أن هذا يعني الإرادة الإلهية.. والقاعدة التشريعية الأم فيه تقوم على قوله تعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)).. وهذه القاعدة الأم في الدين العام تقابلها في الدين الخاص قاعدة، مأخوذة منها، وموازية لها، تقول:((وكتبنا عليهـم فيها أن النفس بالنفس، والعيـن بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون))..
ولقد خدم العنف العنيف بالأفراد، هؤلاء الأفراد، لأن به قويت إرادتهم على السيطرة على شهواتهم، فساروا في طريق الإنسان، بعد أن كانوا مسترسلين في طريق الحيوان السائم.. ومع قوة الإرادة بدأت الأخلاق، وبرز العقل.. وما كان له أن يبرز لولا الخوف الذي سار في ركاب العنف.. ولقد خدم الدين غرضه في إيقاظ الضمير منذ هذا العهد السحيق.. فإنه قد تركز في نفوس الأفراد أن عمل الشر، الذي يخالف عادات وأعراف ومصالح المجتمع الذي يعيشون فيه، يغضب آلهة الخير، ويرضي آلهة الشر، فيستحوذ آلهة الشر على فاعلي الشر، ويدخلونهم باستحواذهم عليهم، بعد مماتهم، في ظلمات مطبقة من عذاب رهيب.. وبين الخـوف من القانون، والخوف من الآلهة، بدأ يتهذب الفرد، وتقوى سيطرته على نزواته، وبدأت بذلك أصول الأخلاق.. فكأن هذه الأعراف والعادات البدائية، منذ الوهلة الأولى، قد وفقت بين حاجة الفرد إلى الحرية، وحاجة المجتمع إلى العدل.. بيد أنها حرية في أول السلم، وعدل في أول السلم أيضا.. وليس الاختلاف بين حاجة الفرد المعاصر، والمجتمع المعاصر، وحاجة الفرد يومئذ، والمجتمع يومئذ، إلا اختلاف مقدار.. فنحن اليوم، في أخريات القرن العشرين، نتحدث عن حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة.. وفي الحق إن هذه هي حاجتهما منذ بداءة النشأة، ولكن الفرصة لم تتهيأ لتحقيق هذه الحاجة إلا في الآونة الأخيرة، وإنما كانت حياة المجتمع، وحياة الأفراد، في الحقب السوالف مقدمة طبيعية للعصر الحاضر.. ولم تكن التضحيات السوالف إلا ثمنا طبيعيا لعهد الكرامة الذي أخذ الإنسان يستشرفه اليوم.. فكأن دستورية القوانين التي نتحدث عنها في الوقت الأخير، ونقول عنها أنها هي القوانين التي لا تضحي بمصلحة الفرد في سبيل الجماعة، ولا بمصلحة الجماعة في سبيل الفرد، قد أخذت أصولها من تلك البدايات البسيطة غداة نشأة المجتمع.

قـانون الغـابة:


لقد نشأ المجتمع البشري في الغابة.. وورث مخلفاتها.. وهي مخلفات لا يزال يعيش أخرياتها.. والقاعدة العامة فيها أن القوة تصنع الحق.. فللقوي حق طبيعي على الضعيف.. يستحقه لمجرد قوته.. ويتقاضاه بقوته.. فالقوة تصنع الحق، وتتقاضى الحق.. تلك شريعة الحيوانات.. ولا نزال، نحن البشر، حتى في أخريات القرن العشرين، نعتقد هذا، ونعمل به.. أكثر من هذا، فإننا في المجتمعات البدائية نفخر به.. فإن هناك من أغانينا، نحن السودانيين، أغنية تمدح فيها فتاة أخاها فتقـول:-
((صار عينه بلا وقيعة جار حقه بلا شريعة أخوي روحه مسبِّلا)).
ولقد خدمت شريعة الغابة المجتمع، والأفراد خدمة جلى، وحفزتهم في طريق الوعي والتطور.. ولقد كانت شريعة الغابة تمارس، في السلم، بالقوانين العنيفة.. وفي الحرب، بحد السلاح.. ولقد أسلفنا القول بأن قوانين الغابة في أبشع صورها، قد كانت شريعة إسلامية، في معنى الإسلام العام - الإرادة الإلهية - فلم يدخل في الوجود شيء بغير هذه الإرادة.. وهذه الشريعة العنيفة، في حالتي السلم، والحرب، تكون من الله مرضية إلى جانب أنها مرادة، حسب مواضع الحكمة من الزمن، وهو ما يسمى بحكم الوقت.. قال تعالى في الصراع الذي توجهه حكمته بقانون الغابة: ((وإذا أردنا أن نهلك قرية، أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا * وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح!! وكفى بربك، بذنوب عباده، خبيرا بصيرا)).. وعن الحكمة في هذا الصراع الدامي يقول تعالى: ((ولولا دفع الله الناس، بعضهم ببعض، لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)) ويقول في موضع آخر: ((ولولا دفع الله الناس، بعضهم ببعض، لهدمت صوامع، وبيع، وصلوات، ومساجد، يذكر فيها اسم الله كثيرا.. ولينصرن الله من ينصره.. إن الله لقوي عزيز)).. هذه هي الحكمة في صراع الغابة.. وقد بدأت في مضمار الدين الإسلامي العام.. ثم دخلت عهد الدين الإسلامي الخاص.. وقد نالها في هذه المرحلة شئ كثير من التلطيف.. وصور تلطيفها تعكس انتقال أفراد المجتمع من حالة الغلظة والجفوة، إلى حالة اللطف والوداعة.. والسير جميعه متجه إلى تهذيب الفرد وتعليمه وتأديبه، ونقله من الاستيحاش إلى الاستيناس، ومن الجهل إلى العلم.. والنصر دائما للعلم على الجهل: ((ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)).
وأهم أسباب الصراع، ويمكن القول أن السبب الوحيد في الصراع، هو ((الرزق)) - مطالب المعدة والجسد - فإن الأحياء - منذ فجر الحياة قد تعرضوا لتجارب مريرة من الجوع.. وقد كانت المجاعات أمرا عاديا، ومتفشيا.. ولا تجود البيئة الطبيعية من الأطعمة بالفائض الذي يغني الحي عن أن يشتغل بخزن قوته، أو أن يموت جوعا في أوقات القلة والندرة.. فبسبب الرزق، والحرص عليه، والظفر به، صراع الديدان، وصراع الحيتان، وصراع الحيوان، وصراع الإنسان.. وهذه الصراعات، في جميع المستويات، هي التي حفزت حياة الأحياء، وطورتها في مراقي التدني من الكمال.. ولله في ذلك الحكمة البالغة، فهو تعالى يقول: ((والأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين * وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم * وأرسلنا الرياح لواقح، فأنزلنا من السماء ماء، فأسقيناكموه، وما أنتم له بخازنين * وإنا لنحن نحيي، ونميت، ونحن الوارثون)).. قوله: ((وأنبتنا فيها من كل شئ موزون)) يعني موزون بالحكمة.. فلا تكون فيه الوفرة التي تغني عن الصراع.. قوله: ((وما ننزله إلا بقدر معلوم)).. هذا القدر المعلوم هو الذي يورث العلم بدقة توجيهه الحياة.. قوله: ((وإنا لنحن نحيي، ونميت، ونحن الوارثون)).. يعني ((نحيي ونميت)) بتقدير الأرزاق، ومنها الآجال.. قوله ((ونحن الوارثون)).. يعني لنا عاقبة تطور الأحياء بارتقائهم إلى مقام عزهم.. ويقول، جل من قائل، عن الرزق أيضا في مقام آخر: ((ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل بقدر ما يشاء، إنه بعباده خبير بصير * وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا، وينشر رحمته، وهو الولي الحميد)).. فبضبط الرزق، من قبض، وبسط، ساق الله اليه عباده في مراقي القرب، يدفع بعضهم ببعض: ((الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر له.. إن الله بكل شئ عليم))..
هذا الصراع من أجل الرزق، هو قانون الحياة الأساسي.. والخوف من ألم الجوع، ومن الموت جوعاً، هو الخوف العنصري الأول الذي عرفه الأحياء، حيثما وجدوا.. وكل الحيل التي يحتالونها من بداية الحياة، وإلى يوم الناس هذا إنما هي محاولة للفرار من ألم الجوع، بالاستيثاق من وفرة الرزق.. وفي الحياة البدائية كحياة الحيتان، فإن ((الكبير يأكل الصغير)).. فإنه هو قوته.. وفي حياة الغابة ((القوي يأكل الضعيف)) فإنه هو قوته.. وعندما بزغت حياة الإنسان فإن القوي من الناس يسترق الضعيف، ويستغله ويستخدمه.. فإنه هو وسيلة قوته.. ومن هاهنا نشأ الرق، ونشأ استغلال الأقوياء للضعاف.. ودخلت الحيل - قوة الذكاء- جنباً إلى جنب مع قوة العضل، لتنظم هذا الاستغلال وأصبح المجتمع البشري يعيش في غابة تختلف عن غابة الحيوان اختلاف مقدار.. فالصراع في هذا المستوى، بين الأقوياء والضعاف إنما هو صراع بين المستغلين (بكسر الغين) والمستغلين (بفتح الغين).. وهذه الصورة البشعة من صور المجتمع، التي ما عرف المجتمع البشري إلى يومنا هذا، على نطاق واسع، غيرها هي التي طوعت لكارل ماركس أن يقرر مبادئه الأربعة:-
1- مجرى التاريخ تتحكم فيه القوى الاقتصادية..
2- التاريخ ما هو إلا سجل لحرب الطبقات..
3- الحكومة ما هي إلا أداة تستخدمها طبقة في اضطهاد طبقة أخرى..
4- العنف والقوة هما الوسيلتان الوحيدتان لإحداث أي تغيير أساسي في المجتمع.
إن هذه الصورة التي رسمها كارل ماركس، على بشاعتها، فيها كثير من الحق.. ولكنها، لحسن العناية الإلهية، والتوفيق الإلهي إنما هي مرحلية تتأدى البشرية بها إلى الخير المطلق، وإلى المحبة الشاملة، والسلام التام.. وهي ليست، كما ظنها كارل ماركس، صورة ملازمة للإنسان وللمجتمع الإنساني، لا تتطور إلا في داخلها، وبوسائلها المتكررة، وباختلاف يسير لا يخرجها من القيد إلى الإطلاق..

قانون الإنسـان:-


ومع أن سبب الصراع في مجتمع الغابة، في الغالب الأعم، قد كان الرزق، فإن صور الصراعات التي كانت دوافعها نصرة المظلومين، والمستضعفين، والدفاع عن الحقوق الضائعة، بدوافع إنسانية خيرة، لم تكن غائبة تماما عن المسرح.. وببروز الدين الإسلامي الخاص، من الدين الإسلامي العام، في الصور المتقدمة، أخذت الاعتبارات الانسانية تزداد كل حين.. ولكأنه، من يومئذ، أخذت في الظهور القيم التي تحض عليها هذه الآية:- ((وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، والمستضعفين من الرجال، والنساء، والولدان، الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً، واجعل لنا من لدنك نصيراً)).
وبظهور الدين الإسلامي الخاص، في مستوى التوحيد، دخلت اعتبارات جديدة في أسباب الصراعات التي تزخر بها البيئة البدائية - اعتبارات غير اعتبارات الرزق - أصبح، بهذه الاعتبارات الجديدة، قتال الناس من أجل الرزق، أمراً معيبا، ومرذولا.. قال تعالى في ذلك: ((الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت.. فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفا)) سمى القتال من أجل الكسب المادي، قتالا في سبيل الطاغوت.. وسمى الذين يقاتلون هذا الضرب من القتال ((أولياء الشيطان)).. وحرض (أولياء الرحمن) على قتالهم، وهون أمرهم في صدورهم.. وأولياء الرحمن هم الذين يقاتلون في سبيل الله.. والقتال في سبيل الله، إنما هو نصرة للمستضعفين من الرجال، والنساء، والصبيان.. وبهذا الاعتبار أخذت شريعة الإنسان، التي يكون للضعيف فيها مكان، يدال لها من شريعة الحيوان، التي لا حق فيها إلا للقوي.. وركزت الأديان على هذا النحو من الخلق الرفيع.. قال تعالى: ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب، والميزان، ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب.. إن الله قوي عزيز)).. قوله: ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات)).. يعني رسل البشر، الذين اتصل بهم ملك الوحـي، فبين لهم الحقائق الواضحات، وأمروا أن يبينوا للناس، وأيدوا في سبيل ذلك بالمعجزات، وبقوة البيان.. قوله: ((وأنزلنا معهم الكتاب)) يعني الكلمة الجامعة وهي: ((لا إله إلا الله)).. قوله ((والميزان)) يعني الشريعة الموزونة بالصدق، والحق، والناهضة على التوحيـد، يعني على ((لا إله إلا الله)).. قوله: ((ليقوم الناس بالقسط)) يعني لينصفوا بعضهم من بعض، يعني ليقيموا العدل بينهم، فلا يظلم ضعيف لضعفه، ولا يستطيل قوي لقوته.. قوله: ((وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد)) أشار ((بالحديد)) هنا إلى السيف، ومن ثم إلى الجهاد في سبيل إقامة العدل، والقسط، ليدفع الناس بعضهم بعضا، فلا ينحرف أحد عن الجادة، ومن ينحرف يرد ببأس الحديد إلى الاستقامة عليها.. قوله: ((ومنافع للناس)) يشير إلى سائر المنافع التي تكون في الارتفاق بمعدن الحديد في معترك الحياة.. ثم قال: ((وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب)).. ها هنا إشارة إلى الجهاد في سبيل نصرة الحق.. ثم قال: ((إن الله قوي عزيز)) ها هنا إشارة إلى أن نصرة الحق إنما هي من الله.. فالذين يقاتلون في سبيل نصرة الحق عليهم أن يكونوا شاكرين حين استعملهم ربهم استعمالا حسنا، فنصر بهم الحق.. والله غني عن الناصرين، فهو ((قـوي عزيـز)) ومع أن معاني القتال في سبيل الله أخذت تبرز، وتستحوذ على المقاتلين، فإن دوافع الكسب المادي، في صور الغنيمة والسبايا - غنيمة الأموال، وسبي النساء، والذراري - لا تزال تكون قدراً عظيماً من حوافز هذا القتال عند المقاتلين.. وقد درجهم بها الشارع الحكيم، فأحلها لهـم، شريطة ألا تكون هي الدافع الأساسي للقتال.. قال تعالى في تربيتهم في ذلك: ((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام: لست مؤمناً، تبتغون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة.. كذلك كنتم من قبـل، فمن الله عليكـم، فتبينوا!! إن الله كان بما تعملون خبيراً))..يقول: ((يا أيها الذين آمنوا)) يعني الأصحاب، ومن تلاهم إلي يومنا هذا: ((إذا ضربتم في سبيل الله))، يعني إذا سافرتم من أجل القتال في سبيل الله، ((فتبينوا!!)) يعني تثبتوا، واستوثقوا ممن تقاتلون، أهو مسلم، أم هو كافر؟؟ وإذا لقيكم أحد فحياكم بتحية الإسلام فاقبلوها منه، ولا تقولوا له: إنما قلتها لتتقي بها القتل.. ولا تقتلوه ابتغاء الغنيمة التي تأخذونها منه.. هذا هو معنى قوله: ((ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام: لست مؤمنا، تبتغون عرض الحياة الدنيا)).. ثم قال ((فعند الله مغانم كثيرة)) إشارة إلى أن الله يغني، عن الغنيمة غير المشروعة، بما عنده من مغانم لا تحصى.. ثم ذكرهم بنوع من هذه المغانم، وهو نوع أغلى من كل مغانم الدنيا، فقال: ((كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم))، إشارة إلى نعمة الإسلام بعد الكفر، وهي نعمة لا تعدلها نعمة.. فمن كان كافراً، فمن الله عليه، فأخرجه من الكفر إلى الإيمان فلا يستطل، وليكن به عطف على من كان في زمرتهم قبل أن يمن الله عليه، فيخرجه من الظلام إلى النور، وليكن قتاله لهم، حين يقاتلهم، فيه عطف ورحمة وحكمة تستعمل السيف كمبضع الطبيب، لا كمدية الجزار.. ثم قال مرة أخرى ((فتبينوا!!)) لتوكيد التثبت، ووزن الأمور، حتى لا يقع التورط في الهلكة بقتل الأبرياء، ابتغاء الغنيمة.. ثم جاء بالفاصلة: ((إن الله كان بما تعملون خبيرا)) ليشير إلى اطلاعه على خفايا النوايا، ذلك بأن إخلاص الجهاد في سبيل الله، باطراح الأغراض الدنيا، من دقائق الأمور.. فرب مقاتل يظن أنه يقاتل في سبيل الله، ولا يدري أنه إنما يقاتل في سبيل الدنيا بما يرجوه من الغنائم والسبايا.. جاء في هذه الآية بنسق عال من التربية الرشيدة ليوجه الصراع وجهة القيم بدلا من وجهة العوامل الاقتصادية التي أشار إليها ماركس.. وكما سبق أن قررنا، فإن من رشاد التوجيه إلى مستوى القيم عدم إسقاط مغريات المادة.. فإن النفوس، لتتربى، لا تقفز عبر الفضاء، من مقام إلى مقام، وإنما تتوكأ على ضعفها، فتسير، من قديمها، على هينة، إلى جديدها.. وإلا انقطعت، وكلَّت، ولم تبلغ منزلتها.. انظر كيف يدرجها!! ((لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان الله عزيزا حكيما * وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها، فعجل لكم هذه، وكف أيدي الناس عنكم، ولتكون آية للمؤمنين، ويهديكم صراطا مستقيما * وأخرى لم تقدروا عليها!! قد أحاط الله بها.. وكان الله على كل شيء قديراُ)).. قوله: ((لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة))، يعني يبايعون على القتال في سبيل الله.. وتلك قد كانت بيعة الحديبية.. قوله: ((فعلم ما في قلوبهم)) من خلوص النية لوجه الله.. ثم جاء ليسوغهم الغنائم، ويحلها لهم حين لم تكن أكبر همهم، فأخلصوا النية، وخلصوها من سلطان الغنيمة عليها، فقال، بعد أن بشرهم بنزول السكينة على قلوبهم،: ((ومغانم كثيرة يأخذونها)).. وقد كانت لهم بفتح خيبر.. ثم قال: ((وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها)) يعني من الفتوحات المقبلات.. قوله: ((فعجل لكم هذه)) يشير إلى غنيمة خيبـر، ويمن عليهم بها، لما علم خلوص نيتهم في الحديبية.. ثم جاء للغنائم، مرة أخرى، فقال: ((وأخرى لم تقدروا عليها، قد أحاط الله بها))، إشارة للغنائم من الأمم الكبيرة التي لم يكن المسلمون ليقدروا على قتالها لولا عون الله إياهم.. شاهدنا أن العهد الجديد أخذ يحول الناس من القتال في سبيل المغنم إلى القتال في سبيل القيم، فاستعمل المغانم كحوافز ثانوية حتى لا يقفز بالناس عبر الفضاء، فيقع الخلل في التطوير، وتحصل النكسة.. ثم إن استعماله للمغانم، نفسه، إنما هو استعمال مرحلي.. أكثر من هذا!! فإن القتال في سبيل الله إنما هو نفسه مرحلي.. فإن الله إنما يريد للناس أن يعيشوا في سبيله، لا أن يموتوا في سبيله.. ومن هاهنا جاء قول النبي، عقب كل عودة من عوداته من الغزوات: ((رجعنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر..)) ويعني بالجهاد الأكبر جهاد النفس، في حين أن الجهاد الأصغر هو جهاد العدو.. وأصول الدين كلها تقوم على الدعوة إلى الحق عن طريق الإقناع، والإفهام، والإسماح.. قال تعالى: ((وقل الحق من ربكم.. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها.. وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل، يشوي الوجوه، بئس الشراب، وساءت مرتفقا)).. وقال، في معنى هذا الإسماح،: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن.. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين)).. وقال، في منع الإكراه: ((لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي.. فمن يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى، لا انفصام لها.. والله سميع عليم)).. فكأنه قال: لا تكرهوا الناس، بل بينوا الرشد من الغي بلسان حالكم، وبلسان مقالكم، فهذا يكفي كل ذي فطرة سليمة.. وقال، في منع التسلط، وهو أوضح ما يقال في هذا الباب: ((فذكر!! إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر)) فهو، تبارك، وتعالى، ينهى نبيه الكريم، على كمال خلقه، وتجافيه عن مواطن الاستعلاء، ينهاه أن يسيطر على الناس.. وما ذاك إلا لقيمة كرامة الإنسان عند الله.. وفي هذا المستوى من الديـن، تنتقل الصورة تماما، من قانون الغابة إلى قانون الإنسان.. ويظهر مدى التخلف في أفكار كارل ماركس التي سلفت الإشارة إليها.. فإن حكاية كارل ماركس في نقاطه الأربع:-
1- مجرى التاريخ تتحكم فيه القوى الاقتصادية..
2- التاريخ ما هو إلا سجل لحرب الطبقات..
3- الحكومة ما هي إلا أداة تستخدمها طبقة في اضطهاد طبقة أخرى..
4- العنف، والقوة، هما الوسيلتان الوحيدتان لإحداث أي تغيير أساسي في المجتمع..
إنما هي حكاية عن الماضي.. وهي حكاية لا تستقيم حين يخرج الإنسان من قانون الغابـة، إلى قانون الإنسان.. وهي على ذلك، في أحسن حالاتها، إنما هي مرحلية.. ولكن قانون الإنسان لم يجئ، لأن الإنسان نفسه لم يجئ، بعـد، وإنما تبشر بهـذا المجيء الآيات التي سلفت الإشارة إليها.. ولم يكن لهذه الآيات حكم في الماضي، وإنما أرجئت، وأعطي الحكم لآيات تأخذ في اعتبارها مرحلة الإنسان في القرن السـابع وعلى هذه الآيات الأخيرة قامت الشريعة الإسلامية الحاضرة (السلفية).. وستكون لنا إلى هـذا الحديث عودة، بشيء من التفصـيل، في هذه التوطئة..