إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

أدب السالك في طريق محمد

الباب الثالث
مقامات النبي والأدب معه



تعريف بالنبي


لقد قلنا إن الأدب هو روح العمل، وإن حقيقة الأدب هي التزام العبودية، والقيام بمقتضياتها، والتزام العبودية يقتضي الحضور مع الله، بلا غفلة عنه، ومراعاة جانبه.. فجماع الأدب هو الحضور.. والحضور يحتاج إلى مران، وإلى رياضة طويلة، وفق منهاج مرسوم، هو طريق محمد.. وهذا هو السر في جعل محمد بيننا وبين الله: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. فلا سبيل إلى الأدب مع الله، إلا بالأدب مع محمد.. ولا سبيل إلى الاستفادة من منهاج (طريق محمد) إلا بالثقة به، والأدب معه، والمحبة له.. وبذلك أصبحت محبة النبي، والأدب معه، هما المحك العملي لجميع صور الأدب.. ومحبته، صلى الله عيه وسلم، والأدب معه، يقتضيان معرفته، وهما ليسا صورة واحدة ثابتة، وإنما هما أمران متطوران، وناميان، بتطور ونمو المعرفة به، صلى الله عليه وسلم..
ومن المعرفة به، المعينة على الأدب معه، وعلى محبته، المعرفة بأنه صاحب ثلاثة مقامات، هي: مقام النبوة في الوسط، ومن أسفله الرسالة، ومن أعلاه الولاية.. ومقام النبوة محجوب بمقام الرسالة، ومقام الولاية محجوب بمقام النبوة.. ولتمام المعرفة بالنبي لا بد من تخطي هذه الحجب، أو لا بد من استلال سيف النبوة من غمد الرسالة، واستلال سيف الولاية من غمد النبوة.. وإلى هذه المقامات الثلاثة الإشارة بقول النبي: (قولي شريعة، وعملي طريقة، وحالي حقيقة).. وقد كانت آيات النبوة هي أول ما نزل من القرآن، وهي قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم).. ثم لما نضجت النبوة، جاء التكليف بالرسالة فقال تعالى: (يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر).. وفي بيان هذا الأمر، قال المعصوم (أدبني ربي فأحسن تأديبي ثم قال: خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين..) فـ(أدبني ربي فأحسن تأديبي) نبوة، وقد استغرق هذا التأديب أربعين عاما ليستوي، وذلك منذ الميلاد، وحتى البعث الرسولي.. وعن مقامات النبي الثلاثة، جاء في حديث المعراج: (سألني ربي يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: أنت ربي أعلم، فوضع يده على كتفي، فوجدت بردها بين ثدييّ، فأورثني علم الأولين والآخرين.. وعلمني علوما شتى، فعلما أخذ علي كتمانه، إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري، وعلما خيرني فيه، وعلما أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي، وهي الإنس والجن..).. فالعلم الذي أمر بتبليغه العام والخاص، هو علم الرسالة، وهي تشمل القرآن المقروء بين دفتي المصحف، وتشمل تبيين هذا القرآن في التشريع، في مستوى حاجة الأمة ومستوى طاقتها.. وفي التفسير في مستوى طاقة الأمة، فهو قال: (نحن معاشر الأنبياء قد أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).. والعلم الذي خير في تبليغه يقع بعضه في حيز الولاية، ويقع سائره في حيز النبوة.. والعلم الذي نهي عن تبليغه هو علم الولاية.. والنبي في ولايته أكبر منه في نبوته، فهو في النبوة يتلقى من الله بواسطة جبريل، في حين أنه في الولاية يتلقى من الله كفاحا، وقد رفعت الواسطة بين العبد والرب.. وعن هذا المقام أخبر المعصوم عندما تحدث عن تخلف جبريل في المعراج، عند سدرة المنتهي، فقال له النبي: تقدم، أهذا مقام يترك فيه الخليل خليله؟؟ قال جبريل: هذا مقامي ولو تقدمت خطوة لاحترقت!! قال النبي: (فزج بي في النور)، وهو يعنى هنا نور الذات، هذه هي الصورة التي حكى عنها القرآن بقوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى).. وفي حديث آخر قال النبي عن ولايته: (لي ساعة مع ربي لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل)..
إن مقام (ما زاغ البصر وما طغى) الذي قامه النبي في المعراج، هو مقام ولايته، في قمته.. وقد حقق النبي هذا المقام بالنزع، وانتقل به إلى البرزخ، كما بيّنّا، وقد ظل النبي، في برزخه، يعمل على إنزال هذا المقام، وتجسيده في الأرض..

تجسيد المقام المحمود


إن تجسيد المقام المحمود، وإنزاله من الملكوت إلى الملك، هو في الحقيقة، هدف حركة التطور، منذ أن كانت الحركة، قبل بروز الحياة.. فما تحرك من متحرك، ولا سكن من ساكن، إلا في سبيل الله.. في سبيل أن تتجسد الحقيقة المحمدية - مقام ولاية النبي - على الأرض.. فهذا المقام هو خلاصة تجربة التطور، وقمتها، فإليه ينتهي تطور كل متطور.. وهو الذي فيه يختصم الملأ الأعلى، والملأ الأسفل.. وهو الذي به تفتتح دورة جديدة من دورات الوجود، بها تتحقق إنسانية الإنسان، وبها تتحقق خلافة الأرض، بظهور الإنسان الكامل، المسيح المحمدي، صاحب المقام المحمود.. ولقد بيّنا أن القرآن جميعه في حق صاحب هذا المقام، وأن الذات المطلقة هي فوق القرآن، هي فوق المرقوم.. فإلى (الله) الإنسان الكامل، ينتهي تأويل القرآن.. وهذا معنى قوله تعالى عن القرآن: (وما يعلم تأويله إلا الله.. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا).. فالإنسان الكامل هو الذي يعلم تأويل القرآن، ووقت ظهوره هو وقت تحقيق هذا التأويل، كما بيّنا عند الحديث عن آية (هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق..)..
وصاحب المقام المحمود، هو أيضا ينتهي إليه علم الغيب.. وهذا هو معنى قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) وقد ذكرنا أنه من معاني هذه الآية، أنه لا يعلم ذات الله، إلا الله - الإنسان الكامل - ومن معاني هذه الآية أيضا أن الإنسان الكامل هو أكبر من يعلم الغيب، فهو علام الغيوب، المشار إليه في كثير من الآيات وهو (الكتاب المبين)، المشار إليه بقوله تعالى: (وما من غائبة في السماء والأرض، إلا في كتاب مبين).. وهو يعلـّم غيره الغيب، وعن ذلك أخبر القرآن بقوله تعالى: (وما هو على الغيب بضنين).. وفي نفس المعنى يجيء قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) فهو في كل وقت جديد يشاء للعباد علما جديدا، وهذا هو معنى قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) كما سبق أن بيّنا.. فكل علم هو في الحقيقة، من علم الغيب، بمعنى أنه من علم الله، إذ لا علم إلا علمه، ولا معلم إلا إياه، فهو (الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) فعلمه ليس فقط للمسلمين، أو المؤمنين، وإنما لكل الناس، فالمعلم واحد وكل علم هو في الحقيقة علم غيب، بمعنى أنه قبل أن يُعلم كان غائبا عن إدراك الحواس.. فالعلم في جميع صوره هو عبارة عن تحويل الغيب إلى شهادة.. وفي الحقيقة لا يوجد غيب إلا على اعتبار نقص إدراكنا نحن، وإلا فالوجود جميعه موجود..
والإنسان الكامل هو النبأ العظيم، المشار إليه بقوله تعالى: (عم يتساءلون * عن النبأ العظيم * الذي هم فيه مختلفون).. والإنسان الكامل هو البيّنة.. التي بها يبين الحق، وينتفي الجهل، والشرك، عن الأرض، فلا يكون فيها إلا مسلما.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب، والمشركين، منفكين حتى تأتيهم البيّنة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة * وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيِّنة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، حنفاء، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيِّمة) فأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، (والمشركين) هم عبدة الأوثان من العرب.. وهم لن ينفكوا عن دينهم، ويدخلوا دين الإسلام إلا بعد أن تأتيهم (البيِّنة).. والبيِّنة هي محمد رسول الله.. وأهل الكتاب هم أيضا المسلمون.. فالكتاب هو القرآن، وهم أهله، ولكنهم قد نصلوا عنه، وتفرقوا، واتبعوا اليهود والنصارى، كما أنذر المعصوم، فأصبحوا منهم، بأكثر مما هم من الإسلام، فهم ليسوا من الإسلام في شيء، إلا في القشرة.. فهم أيضا لن ينفكوا عن ما هم عليه من الغفلة، والضلال، إلا بعد أن تأتيهم البيِّنة.. (والمشركين)، هنا تعنى كل من عدا أهل الكتاب.. (والبيِّنة) هنا تعنى المسيح المحمدي وهو إنما يأتيهم بالهدى، ودين الحق، وهو على غير ما عليه المسلمون اليوم.. فهو يجعل ما عندهم باطلا، لأنه يجيء بالحق الذي يناسب الوقت، وهو السنة التي ببعثها يتم بعث الإسلام، ولذلك هو يضرهم بمخالفته لهم، لأن هذه المخالفة تجعل ما تبقى عندهم من حق باطلا، بظهور الحق الأكبر، والأنسب للوقت.. وإلى ذلك الإشارة بقول المعصوم: (إنما أنا قاسم.. والله يعطى.. ومن يرد به الله خيرا يفقهه في الدين.. ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يجيء أمر الله..).. وهو المسيح.. وسر هذا الحديث مطوي في عبارة (لا يضرهم من خالفهم حتى يجيء أمر الله) يعنى إذا جاء أمر الله، فإن من خالفهم يضرهم، ذلك لأنه يجيء بالحق الذي يجعل ما عندهم باطلا لا يتقبل.. ومن يخالفهم هو المسيح، الذي يأتي ببعث السنة - بعث أصول القرآن.. فهو ليس منهم، وإلى ذلك الإشارة بالحديث الشريف (كيف انتم إذا نزل فيكم ابن مريم، وإمامكم منكم).. فعبارة (إمامكم منكم)، تفيد أن ابن مريم ليس منهم..
وعن (البينة) قالت الآية: (رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيِّمة) فهو رسول الذات التي هو بينها وبين جميع الخلائق.. والصحف المطهرة، هي مطهرة عن هوى النفس، فليس فيها إلا الحق، وذلك لأنها تعبير عن النفس الطاهرة، فهو ابن مريم، ومريم هي النفس الطاهرة.. وقوله (صحفا مطهرة * فيها كتب قيِّمة) إشارة إلى الخصائص القرآنية لهذه الصحف.. فكل صحيفة منها تحمل من المعاني ما إذا فكت بعض أسراره لا تسعه إلا الكتب العديدة.. بل كل عبارة من هذه الصحف، حبلى بالمعاني، حتى إنها لتعطى في كل وقت جديد، معنى جديدا، حسب استعداد المطلع عليها، وحسب سعة أوانيه في التلقي.. وهذا الرسول الخاتم، هو الذي به يظهر الإسلام على الدين كله، فيطاع الله في الأرض كما هو مطاع في السماء، وإلى ذلك الإشارة بقول الله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدا).. (وكفي بالله شهيدا) يعنى أن الله هو الشاهد على الدعوة إلى دينه.. الداعي إلى الله هنا، هو الله، ولذلك فإن دعوته لن تعصى.. وهذا الرسول هو الذي به يتم ختم الرسالة، وختم الولاية..
الداعي إلى الله هنا هو الله، أو قل إن الداعي إلى الله، المطلق، القديم الذات، إنما هو الله المقيد، الحديث الذات.. هو مقيد لأنه مجسد.. وهو قد قيد الذات القديمة المطلقة ليعرفها الناس، ذلك بأنها، في صرافتها، لا تعرف، ولا توصف، ولا تسمى.. هي فوق العبارة، وتجل على الإشارة.. وأعظم أسمائها إنما هو الإنسان الكامل - هو الله الحادث.. فالاسم الله إنما هو علم على هذا، وأما في حق الذات القديمة، المطلقة، إن هو إلا إشارة.. والله الحادث قامت به كل أسماء الله الحسنى الواردة في الكتب السماوية عامة، والواردة في القرآن خاصة.. وهو إنما تأهل لهذا المقام بفضل الله، ثم بفضل تخليه عن إرادته للإرادة الواحدة حتى لقد أصبح بوقا تنفخ فيه كمالات المطلق، من صفات، وأسماء، وعلى قمتها الصفات النفسية السبع: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام.. فصار حيا حياة الله، وعالما علم الله، ومريدا إرادة الله، وقادرا قدرة الله، وسميعا سمع الله، وبصيرا بصر الله، ومتكلما كلام الله.. وصار الله.. ولكن هذه الصيرورة تبدأ ولا تنتهي، لأنها سير من المقيد إلى المطلق.. وما للمطلق بلوغ، ولا له نهاية، وإنما الصيرورة المستمرة، والتطور المطرد.. ولما كان هذا الإنسان أكبر مظاهر الذات المطلقة فقد أصبح صاحب مقام الوسيلة لأنه هو وسيلة سوق جميع الخلائق إلى الله (الذات المطلقة) لأنه بينها وبين جميع الخلائق.. وإلى التوسل بمقام الوسيلة تشير الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وابتغوا إليه الوسيلة) ومقام الوسيلة هو مقام الحقيقة المحمدية.. وهي في الملكوت، وبنزولها إلى الملك - إلى الأرض - تتم الخلافة الكبرى، وتملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وظلما.. وبمجيئه يجيء الرسول أحمد، وبه تختم الرسالة، كما قد ختمت بمحمد النبوة.. فمحمد ليس نبيا، وإنما هو النبي، وخاتم النبيين.. والمسيح ليس رسولا، وإنما هو الرسول، وخاتم الرسل.. ورسالته رسالة ولاية، وليست رسالة نبوة، وبها تختم الولاية..

الملك، ومملكة الحمد


وصاحب المقام المحمود، الإنسان الكامل، المسيح المحمدي، هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وعلمه، وقدرته، ليسا بجارحة، ولا بواسطة، وإنما هو يعلم بذاته، ويقدر بذاته، متخلقا في ذلك بأخلاق الله.. فهو الذي بيده الملك، المشار إليه بقوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير) فهو مبارك من قبل الذات المطلقة.. وهو صاحب الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، وهو ملك النفوس.. فهو لما ملك نفسه، وتحقق بالعبودية الكاملة، حاز الملك الذي لا يبلى، فأقيم مقام الخلافة، فأصبح خليفة الذات، النائب عنها في تصريف شئون جميع الخلائق.. فهو الملك في مملكته.. وهو (ملك يوم الدين).. ويوم الدين هو يوم الحساب، وهو اللحظة الحاضرة لأن الحساب جارى في كل لحظة.. وهو اليوم الآخر.. ويوم الدين، هو اليوم الذي تتم فيه إقامة الدين على الأرض، بظهور المسيح، فهذا هو يوم استوائه على عرش مملكته، وهذا اليوم هو الساعة، كما ذكرنا.. وهو يوم الحمد، لأنه اليوم الذي تتم فيه النعمة المعنوية والحسية، وتتحقق فيه جنة الأرض المشار إليها بقوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرض نتبوَّأ من الجنة حيث نشاء، فنعم اجر العاملين) فهم لما كانوا محاطين بالنعمة من كل جانب وفتح لهم في العلم، فقد ألهموا الحمد، فأصبح هو خلاصة عبادتهم.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده).. وإليه أيضا الإشارة بقوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).. وحمدهم، إنما هو مستمد من حمد (الله) الإنسان الكامل، فهو الذي له الحمد، وهو الذي منه الحمد، بل إنه لهو أحمد الحامدين.. وهو قد حقق من الحمد لله، ما استحق به معاوضة أن يصبح محمودا، ولذلك فهو صاحب المقام المحمود.. ومملكته مملكة الحمد، لأنها مملكة الإنسان، مملكة العارفين بربهم - الناس.. فهو ملك الناس.. ملك الناس هو الملك على جميع الخلائق، فالناس هم قمة المملكة وخلاصتها، فهم مفضلون على جميع الخلق في حين أن بني آدم مفضلون على كثير من الخلق..
وتحقيق هذه المملكة يتم بظهور المسيح، وعن هذا الظهور جاء في حديث المعصوم الذي يرويه أبو هريرة، قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم، حكما عدلا، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها).. قوله (فيكسر الصليب) إشارة إلى حل التعارض القائم بين العقل الواعي والعقل الباطن، وتوحيد البنية البشرية، عن طريق تجويد التوحيد.. (ويقتل الخنزير) إشارة إلى قتل النفس الأمارة بالسوء، التي تحكى في شراهتها الخنزير، وتحويلها من نفس حيوانية إلى نفس إنسانية، لا تأمر إلا بالخير، وبهذا القتل يتم إحياؤها.. وقوله: (ويضع الجزية) إشارة إلى إبطال الجهاد بالسيف، وإقامة الجهاد الأكبر، جهاد النفس.. وهو أيضا إشارة إلى انتهاء الحرب، وإقامة السلام.. وقوله: (ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) يعنى يعم الخير حتى يجد كل فرد حاجته، ووقتها ينتهي الانشغال بأمر الدنيا، وتتفرغ العقول والقلوب لعبادة الله، (فتصبح السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها)!!

افتتاح دورة جديدة من دورات الحياة


لقد أشرنا إلى أن مقام (الأصيل)، المقام المحمود هو مقام الحياة الخالدة التي لا تؤوفها آفة النقص، أو المرض، أو الموت.. وفي هذا المعنى يجيء قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه).. (فإن البيوت التي يذكر فيها اسم الله، في الحقيقة هي أجساد العارفين.. وفي طليعتهم الإنسان الكامل.. فإن جسد العارف قد أذن الله له أن يرفع من الأموات.. فهو إنما يجيء إلى هذه الدنيا من العالم الآخر.. وإلى ذلك إشارة النبي عن أبى بكر حيث قال: (من سره أن ينظر إلى ميت يمشى في الناس فلينظر إلى أبى بكر..).. وجسد الإنسان الكامل أذن الله له أن يرفع، من مرتبة النباتية، إلى مرتبة الحيوان، إلى مرتبة الإنسان، وهي أعلى المراتب.. ومرتبة الحيوان هنا لا تعنى مجرد الحيوان الأعجم، وإنما تعنى أيضا مرتبة البشر الحاضر، القاصر، عن تحصيل المعارف الإلهية.. ذلك بأن الإنسان الكامل يأذن الله له (لبيته) أو قل (لجسده) أن يرفع، فيفتتح، بهذه الرفعة دورة جديدة، من دورات التكوين على هذه الأرض.. فإنه هو يرتفع - بهذه الدورة الجديدة، فوق البشر المعاصر، كما ارتفع البشر المعاصر فوق الحيوان الأعجم، عند افتتاح الدورة البشرية المعاصرة، هذه الدورة التي نعيش الآن في أخرياتها، إن شاء الله.. والإنسان الكامل عندما يرتفع إلى هذا المستوى من الحياة، يفيض الحياة على غيره.. فيبعث موتى القلوب، من موتهم.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير).. فالأرض هنا، هي أرض الجسد، والماء هو العلم، الذي عندما ينزل على أرض الجسد، تدب فيه الحياة، وتنمو، وإلى ذلك الإشارة بقوله: (اهتزت وربت).. (وأنبتت من كل زوج بهيج) إشارة إلى الحواس عندما تقوى وتكتمل.. والآية التي تهمنا هنا هي: (ذلك بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير) فالله، الإنسان الكامل، يحيي موتى القلوب، بما يفيضه عليهم من العلم بالله، ذلك العلم الذي نفخته فيه الذات المطلقة بعد أن صار بوقا - (صار صورا)، وقد وردت إلى ذلك الإشارة.. وهو يفتح أبواب بركات السماء والأرض، ويحيي الأرض، فتكتسي بالخضرة.. وعند ظهوره لا تدع السماء شيئا من مائها إلا أنزلته، ولا تدع الأرض شيئا من نبتها إلا أخرجته..
هذا، ونحن عندما نكتب عن مقامات النبي الثلاثة، بالصورة التي كتبناها، وركزنا فيها على تجسيد المقام المحمود، مقام ولاية النبي، إنما يهمنا أن نستعين بمعرفته، على محبته، والأدب معه، إذ لا سبيل للاستفادة من العمل الديني إلا بمحبة النبي..

قيمة النبي لنا وفضله علينا


لقد قلنا إنه لا سبيل إلى الأدب مع الله، إلا بالأدب مع النبي، ولا سبيل إلى الانتفاع بمنهاج طريق محمد، إلا بالثقة في النبي، ومحبته، والأدب معه، ولذلك فإن الأدب مع النبي هو المحك العملي للأدب، وهو شرط الانتفاع بالعمـل.. فتقليد النبي بغير وعي، وبغير محبة وأدب، عمل قليل الجدوى، وقد يكون عملا آليا لا روح فيه قصاراه التعب، ولذلك قد قلنا في كتابنا: (طريق محمد) ما نصه: (لكي يكون التقليد موصلا للثمرة المرجوة منه وجب أن ينبعث عن ثقة بالمقلَّد، وطمأنينة إليه، وتوقير، وتقديس، ومحبة له.. وأيسر ما يقوم عليه التقليد النافع أن يكون صدر المقلد منطويا على قدر كبير من التقديس، والتوقير للنبي، وهذا ما من أجله أخذ الله الأصحاب بالأدب معه، وأمرهم بالصلاة عليه، فقال عز من قائل: ((إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه، وسلموا تسليما)).. وحالة التقديس والتوقير للنبي والأدب معه تكتسب بالمعرفة به، وبقيمته لنا، وفضله علينا.. فما من خير إلا والنبي بابه، ووسيلته.. فالخير كل الخير نزل في القرآن، ففيه الحياة الكاملة، الحياة الخالدة، التي تتسامى في قمتها، كما رأينا، عن أن تؤوفها آفة النقص، أو الجهل، أو المرض، أو الموت.. وحياة النبي هي مفتاح القرآن.. وعن هذا الأمر جاء من أقوال الأستاذ محمود محمد طه، ما نصه: (أمران مقترنان، ليس وراءهما مبتغى لمبتغ، وليس دونهما بلاغ لطالب: القرآن، وحياة محمد.. أما القرآن فهو مفتاح الخلود.. وأما حياة محمد فهي مفتاح القرآن.. فمن قلد محمدا، تقليدا واعيا، فهم مغاليق القرآن.. ومن فهم مغاليق القرآن حرر عقله، وقلبه، من أسر الأوهام.. ومن كان حر العقل، والقلب، دخل الخلود من أبوابه السبعة..).. وأبواب الخلود السبعة هي مراتب النفوس السبعة، التي تنتهي بالنفس الكاملة، حيث الحياة الكاملة، التي تحدثنا عنها.. فحياة محمد عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، هي سبيلنا إلى تحقيق حياتنا الكاملة، عن طريق العلم بالله، والتأدب بأدب العبودية..
والنبي قد بعث رحمة للعالمين، وفي ذلك يقول القرآن: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).. وهو الرؤوف الرحيم، فهو في مقام ولايته، مقام الاسم الأعظم (الله)، بجميع الناس رؤوف رحيم، وفي ذلك يقول القرآن: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم).. وهو في مقام رسالته بالمؤمنين رؤوف رحيم، ويقول القرآن في ذلك: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم).. ومما يبين مدى رحمته بنا، وحرصه علينا، قوله: (لا يشتاك أحدكم الشوكة، إلا وجدت ألمها).. وعن فضل الله علينا ببعث النبي يقول تعالى: (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب، والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين)..
وقد كان مجرد وجود النبي بين الأصحاب سببا لرفع العذاب عنهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).. وعبارة (وأنت فيهم) تأخذ دلالتها اليوم بأن يكون النبي في عقولنا وقلوبنا، عن طريق محبته واتِّباعه.. وهي أيضا تأخذ دلالتها بأن يكون النبي فينا حسا، فهو ليس بغائب، وإنما نحن الغائبون عنه، بسبب الغفلة، وهذا ما سنبينه في موضعه..
ومن فضل الله علينا أنه جاء بأكمل منهاج، وأيسره، وأكثره تحقيقا للكمالات البشرية، خصوصا منهاج الصلاة.. فمنهاجه، صلى الله عليه وسلم، هو خلاصة تجربة الأديان، منذ أن كانت الأديان.. والسير في طريق النبي هو سير مؤمن دائما، فالسائر في طريق النبي، الله معه، يحفظه، ويرعاه، ويسدد خطاه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).. وإلى ذلك الإشارة أيضا بقول النبي لسيدنا أبى بكر: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)..
وأجور العمل وفق منهاج السنة - طريق محمد - أجور مضاعفة، نامية، متصلة النماء، بالبركة المفاضة عليها من الله، ومن النبي، ومن بركة المنهاج.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كمثل حبة، أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم).. فمجرد النية الصالحة تكتـب حسنة، وهي قد تكتب عدة حسنات، إذا استطاع السالك أن يعدد النوايا، فالمعصوم يقول: (لكم أجر ما عقلتم).. ولذلك القول الصالح يكتب في ميزان الحسنات.. أما العمل الصالح فهو يضاعف أضعافا مضاعفة كما تشير الآية، فالحسنة الواحدة قد تضاعف إلى سبعة أضعاف، أو سبعين ضعفا، آو سبعمائة ضعف، أو سبعة آلاف ضعف، وهكذا إلى أن تخرج عن الحصر، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (والله واسع عليم).. فالعمل في نهج السنة عمل مبارك، سريع النماء، وإنما تأتى سرعة نمائه من فضل الله، ثم من بركة النبي، ومن العلم، فهو عمل يقوم على العلم، وعلى الأدب.. وقد قال المعصوم: (تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة).. وهو قد قال أيضا: (فضل العالم على العابد، كفضلى على الرجل من سائر أمتي).. فنهج السنة يقوم على الفكر، في كل جزئية من جزئياته، في العبادة، وفي المعاملة، ابتداء من تقديم الميامن على المياسر، وإلى أعلى مستويات الفكر.. وقد كانت حياة النبي الكريم كلها فكر، وذكر، فهو لا يعمل عملا، أو يتركه، إلا بفكر.. فالسلوك في طريقه يقوم على محاربة العادة، وإدخال الفكر في العمل، ولذلك جعل الفكر المستقيم هو الغاية، وفي ذلك يقول تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون).. وعبارة (ولعلهم يتفكرون) جعل العلة من إنزال القرآن، ومن تشريع الشريعة، أن نفكر التفكير المستقيم - راجع كتابنا: (طريق محمد)..
والخير الذي يصلنا من النبي، خير متصل، في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.. وقد ذكرنا أنه، صلى الله عليه وسلم، وهو في برزخه، مصدر المدد لجميع الولايات على الأرض، وهو يرعاها ويرشدها.. كما ذكرنا أنه يعد الأرض للمقام المحمود، ويعمل على إنزاله من الملكوت إلى الملك.. والنبي قد قال: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم).. فهو في حياته، وفي مماته يستغفر لنا الله، وفي ذلك يقول تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله توابا رحيما).. ثم هو في الآخرة له الشفاعة، حتى بالنسبة للمذنبين من أمته.. وعن الشفاعة جاء في الحديث الشريف، عن أبى موسى عن النبي قال: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، لأنها أعم، أترونها للمتقين؟ لا، ولكنها للمذنبين الخطائين)..
فمن كل ذلك يتضح أنه ما من خير، أو كمال، في الدنيا أو البرزخ، أو الآخرة، إلا والنبي سبيله، ووسيلته، فهو الرحمة الواسعة، والخير العميم، وهذا من أكبر موجبات محبته، والأدب معه..

عدم الأدب مع النبي يذهب الإيمان ويحبط العمل


لقد رأينا أهمية الأدب مع النبي، وقيمته، وموجباته، فهو روح العمل، ومحط الرجاء والأمل.. ولكي تكتمل الصورة علينا أن نبرز الطرف الآخر للقضية، وهو خطورة عدم الأدب، فإن ذلك مما يزيد من توكيد قيمة الأدب.. فعدم الأدب يبطل العمل، وفي ذلك يقول المعصوم: (رب مصل لم يقم الصلاة)، فهو مصل في الظاهر، في الهيئة، ولكن لما كانت صلاته هذه، بغير حضور- وقد بيّنا أن الحضور هو جماع الأدب.. فهي صلاة لا قيمة لها، لا عبرة بها، فصاحبها كأنه (لم يقم الصلاة).. وعن عدم الأدب في الصوم، وإحباطه للعمل، يقول المعصوم: (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش).. وقد أوردنا حديث (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه).. أكثر من ذلك فإن سوء الأدب قد يؤدى إلى الطرد من الحضرة، وفي ذلك يقول المعصوم: (رب مصل لم تزده صلاته من الله إلا بعدا).. فالصلاة، وهي أكبر عمل يقرب العبد إلى ربه، بسبب سوء الأدب فيها، تصبح من أسباب الطرد والبعد عن الله!! وفي معنى هذا الحديث، يجيء قوله تعالى: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون).. (الذين هم عن صلاتهم ساهون) يعنى الذين هم عن حقيقة صلاتهم، في صلاتهم، وهي الحضور، غافلون.. و(يراءون) يعنى يظهرون غير الذي يبطنون، فهم في الظاهر مصلون، ولكنهم في الباطن قلوبهم مشغولة بغير الله، وهذا هو نفس معنى (ويمنعون الماعون) أي يمنعون القلب من أن يكون فيه الله.. والويل، هو البعد والطرد.. ف(المصلين) الذين ينشغلون في صلاتهم بغير الله، هؤلاء أساءوا الأدب مع الحضرة الإلهية، فاستحقوا الطرد.. ولقد أخذ حديث المعصوم سالف الذكر من هذه الآية: (رب مصل لم تزده صلاته من الله إلا بعدا)..
وسوء الأدب مع النبي يذهب الإيمان، وإذا ذهب الإيمان ذهب الدين كله، وفي ذلك يقول تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليما).. فمجرد عدم الأدب مع النبي بالاستغناء عنه أو بعدم الاحتكام إليه فيما يثور من مشاكل بينهم أو بالاعتراض على ما يقضي به، أو حتى الشعور الداخلي بالحرج مما يقضي به، وعدم التسليم له، يذهب الإيمان.. وقد وصف الله الذين يسيئون الأدب مع النبي بمناداته من وراء الحجرات، بأن (أكثرهم لا يعقلون).. فقد قال تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات، أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم، والله غفور رحيم).. فمجرد مناداة النبي من وراء الحجرات دليل على عدم الأدب، ودليل على عدم العقل..
وتتضح الخطورة الكبيرة لعدم الأدب مع النبي، إذا علمنا أن مجرد رفع الصوت فوق صوته، أو الجهر له بالقول، يحبط العمل!! ففي ذلك يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول، كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون).. وهذه الآية تدل دلالة قوية على مدى خطورة عدم الأدب مع النبي، فهو يحبط العمل، دون أن يشعر صاحب العمل.. والآية تدل دلالة واضحة على أن العبرة ليست بالعمل، وإنما هي بالأدب في العمل..

محبة النبي والأدب معه


من كل ما تقدم تتضح الأهمية، والقيمة الكبيرة للأدب مع النبي، فهو روح العمل.. فعدم الأدب مع النبي، كما بيّنا يذهب الإيمان ويحبط العمل.. هذا في حين أن الأدب معه، صلى الله عليه وسلم، هو الوسيلة لكل خير، ولكل كمال، نرجوه.. وإذا كان النبي من الكمال بحيث ذكرنا، وبأكثر مما ذكرنا بكثير، فإن ذلك مما يجعل محبته، ميسرة، فإن النفس بطبعها تتعشق الكمال.. وإذا كان النبي هو المصدر، والوسيلة، لكل خير، ولكل كمال نرجوه، بالصورة التي أشرنا إليها، وبأكثر مما أشرنا، فإن ذلك أيضا مما يعين على محبته، والأدب معه، فكل نفس بطبعها تحب خيرها، وما يعينها على خيرها..
وعن أهمية محبة النبي، وقيمة محبته، ترد العديد من النصوص، فطريقه، صلى الله عليه وسلم، هو طريق المحبة الخصبة الخلاقة، وفي ذلك يقول تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، يحببكم الله).. فالطريق يقوم على المحبة.. المحبة لله، والمحبة للنبي، ثم المحبة لكل الناس، ولكل الأحياء والأشياء.. وعن محبة الله، ومحبة النبي، جاء قول المعصوم (أحبّوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني لحب الله لي، وأحبوا آل بيتي لحبي لهم).. وقال النبي عن سيدنا أبي بكر: (ما فضلكم أبو بكر بكثير صلاة، ولا بكثير صيام، وإنما بشيء وقر في صدره).. وهو يشير بذلك إلى الإيمان، وإلى محبة النبي.. وقد رُوى أن أحد الأصحاب سأل النبي: (متى الساعة يا رسول الله؟؟ قال: وما أعددت لها؟؟ قال: والله ما أعددت لها كثير صلاة، ولا كثير صيام، ولكني أحب الله ورسوله.. قال النبي: المرء مع من أحب).. وهكذا رفعته المحبة لأن يكون مع الله ورسوله، رغم أنه لم يعد كثير صلاة، ولا كثير صيام.. ولما كانت محبة النبي على هذا القدر الكبير من الأهمية، ومن النفع، فقد كان السادة الصوفية شديدي الحرص عليها، يستعينون على استجلابها بشتى الوسائل.. وقد روي عن الولي الصالح الشيخ العبيد ود بدر أنه قال: (الما عنده محبة ما عنده الحبّة).. وهو يعني أنه من ليست له محبة للنبي، ليس له من الدين شيء.. ومن أكثر الأشياء المعينة على محبة النبي، معرفته، وإدمان الاطلاع على شمائله، والعمل على تقليده في أسلوب عبادته، وفيما يطاق من أسلوب عادته.. والصلاة عليه، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. والسماع لمدائحه.. والتعلق بآل بيته، إلى غير ذلك من الوسائل والحيل..
ومعرفة كمالات النبي، وحرصه على خيرنا، ومقدرته على توصيل الخير لنا، تجعله أولى بنا منّا، وفي ذلك يقول تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم).. ومعرفة كمالات النبي وقيمته ونفعه لنا، لا تقتضي محبته فحسب، وإنما تقتضي الفرح به.. وفي ذلك يقول تعالى: (قل بفضل الله، وبرحمته، فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).. ففضل الله يعني الإنسان الكامل، مقام الاسم الأعظم (الله)، مقام ولاية النبي.. (ورحمته) يعنى النبي في مقام رسالته، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).. وفضل الله ورحمته هما النبي في مقام ولايته، وفي مقام رسالته، هما محمد والمسيح.. وقوله (هو خير مما يجمعون) يعنى خير مما يجمعون من الحسنات ومن الأعمال الصالحة، ومن حطام الدنيا بالطبع ومن باب أولى.. فالنبي خير لنا من أعمالنا الصالحة، وأكثر نفعا لنا منها، وهذا ما يستوجب، لا مجرد محبته وإنما الفرح به..

الحضور هو جماع الأدب مع النبي


والأدب مع النبي، كالأدب مع الله، جماعه الحضور معه.. فالنبي حاضر، وإنما نحن الغافلون عنه.. وقد رُوي عنه أنه قال: (أنا جليس من صلى علي).. وهو قد قال عن رؤيته في الحديث الذي يرويه أنس (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي)، رواه البخاري والترمذي وأحمد.. وعن رؤيته يقظة جاء في الحديث عن أبى هريرة، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) رواه الشيخان، وأبو داؤود.. فرؤية النبي حق، وهو حاضر، وإنما نحن عنه غافلون.. والرؤية الحقيقية له، إنما هي رؤية المعرفة به، وبمقامه، ففي حديث أويس ورد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أوصى بعض الأصحاب بقوله: (إذا لقيتم العبد الصالح أويس فاسألوه الدعاء) وقد كان أويس في اليمن، وهو معاصر للنبي، إلا أن ملازمته لأمه حالت دون اجتماعه بالنبي بالصورة المألوفة.. وعندما التقى بعض الأصحاب بأويس سألهم هل رأوا النبي، فلما أجابوا بنعم قال: (والله ما رأيتموه إلا كالسيف في غمده)، وهو يعني أنهم لم يروا منه سوى مقام الرسالة، وأنهم قد حجبوا بهذا المقام عن مقام النبوة.. الشاهد أن اختلاف المكان لم يحجب أويس من رؤية النبي، رؤية أوكد، وأكبر من رؤية الملازمين له.. ونحن نريد أن نخلص من ذلك إلى أن الالتحاق بالرفيق الأعلى، والزمان والمكان، أمور لا تحجب النبي، وإنما الحجاب الحقيقي هو الغفلة.. فرؤية النبي حق، وهو حاضر، وإنما نحن عنه غافلون.. وجماع الأدب أن نكون حاضرين معه، وهذه هي (الحضرة النبوية) والحضور معه هو حضور عقل، وقلب، حضور فكر وشعور.. وبداية هذا الحضور أن نتمثله في كل أعمالنا، في العبادة، وفي المعاملة، نعرف كيف كان يعمل، ثم نقلده، بوعي، وبإتقان، أن نقدمه علينا ونسير خلفه، أن نقدم أوامره وتوجيهاته، على رغائبنا، وأهوائنا، في تسليم، وفي ثقة.. وبداية الحضور معه أيضا، أن نصلى عليه كلما ذكر اسمه، الصلاة اللفظية، على ألا يتم ذلك بصورة آلية، وذهن شارد، كما هي الحالة عند الناس اليوم، وإنما تتم الصلاة عليه، ونحن نستشعر مكانته، وقدره، في خشوع وفي تجلة، وذهننا حاضر..
والأدب مع النبي يجب أن ينعكس على جميع أعمالنا في تقليده، في العبادات، وفي المعاملات، في مستوى الشريعة، والطريقة، والحقيقة.. فجميع هذه الأعمال يجب أن يراعى فيها الأدب، فهو روحها، التي إذا خرجت أصبحت الأعمال باطلة..