إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الغـرابة فى الدعوة الإسلامية الجديدة

القرآن: الأصول والفروع


إن القرآن ينقسم الى أصول وفروع.. أصول يمثلها القرآن المكي، وفروع يمثلها القرآن المدني.. هذه المقولة هي مفتاح الدعوة الإسلامية الجديدة، لأن عليها يقوم الحديث عن أن الإسلام رسالتان، ويقوم التمييز بين السنة والشريعة، وبين مرحلة العلم في الإسلام، ومرحلة العقيدة، وهي، أيضا، بتمديدها، تؤشر الى مسألة التقليد في العبادة، والأصالة فيها..
والقول بأن القرآن أصول وفروع قول جديد، وغريب، لأنه يميز، بصورة محددة، بين مستويين في القرآن، وهذا، بالطبع، يصادم ما عليه مألوف الناس من أن القرآن مستوى واحد.. فكون القرآن مستويين تسنده الآية: ((الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها، مثاني، تقشعّر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله.. ذلك هدى الله يهدى به من يشاء.. ومن يضلل الله فما له من هاد))
وخلاصة الأمر في أن للقرآن مستويين هي أن القرآن قد نزل، ولمدة ثلاث عشرة سنة في مكة، بالدعوة للإسلام بالإسماح، وبالمساواة بين الناس، في كل المجالات، باعتبارهم مسئولين أمام الله مسئولية تامة، ومباشرة، وفردية.. ولقد استجاب للدعوة الإسلامية، في مرحلتها المكية.. النفر المصطفون.. أما عامة الناس، ووجهاؤهم، فقد عارضوا الدعوة الجديدة آنذاك، وحاربوها الى درجة التآمر على حياة النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. فأمر النبي بالهجرة للمدينة، فانغلقت بذلك المرحلة المكية، وانفتحت المرحلة المدنية.. فجاء القرآن المدني الذي أمر بالدعوة للإسلام بالإكراه، بالسيف، كما جاء بالتشاريع التي تميّز بين الناس على أساس العقيدة، والجنس، (من رجل وامرأة)، وتميّز بينهم في السياسة وفى الاقتصاد.. وقد نسخ القرآن المدني القرآن المكي.. وكمثال للفرق بين القرآن المكي والقرآن المدني فإنا نكتفي بإيراد الآية التي حكمت أسلوب الدعوة في مكة، وهي الآية التي تقول: ((أدع الي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.. ان ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين))، وبإيراد الآية التي حكمت اسلوب الدعوة في المدينة، وهي الآية التي تقول: ((فاذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، واحصروهم، وأقعدوا لهم كل مرصد، فان تابوا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم، ان الله غفور رحيم..))..

القرآن: الناسخ والمنسوخ


لقد ذكرنا، فيما سبق، أن القرآن المدني قد نسخ القرآن المكي... ولقد بيّنا أن القرآن المدني هو قرآن الوصاية والتمييز، والقصور، وأن القرآن المكي هو قرآن الحرية، والمساوة، والمسئولية.. ومن ثمّ، فإنه يحق لنا أن نقرر أن القرآن المكي، لدعوته للحرية والمسئولية والمساواة، أرفع من القرآن المدني الذي جاء مشدودا لمستوى طاقة بشرية القرن السابع الميلادي.. فإذا صحّ هذا، وهو دون أدنى شك صحيح، فماذا يعنى نسخ القرآن؟
يعتقد عامة المسلمين، وفقهاؤهم، أن نسخ الآيات يعنى إلغاء حكمها، وتعطيلها تعطيلا سرمديا.. وهذا الاعتقاد، بالإضافة الى عدم توقير الألوهية الذي يتسم به إذ يتهمها بالتراجع عن رأيها، وبتعديله، وبتغييره، يعنى أن أحسن ما في قرآننا منسوخ، والى الأبد، بما هو دونه.. أما، نحن الجمهوريين، فإننا نرى أن نسخ الآيات يعنى إرجاءها الى يوم تحتاجها البشرية فيه، وذلك حين تطيقها.. وحينها تنسخ الآيات المحكمة في المعاملات، لتحل محلها الآيات المنسوخة مما يمكن من إقامة مجتمع الحرية والمساواة والمسئولية، وهو المجتمع الذي دعا له الإسلام بالأصالة، وحينما عجز الناس عن اقامته جاءهم بالبديل المرحلي ليعد الناس له..
وفكرة تداول النسخ هذه، بين آيات الأصول، وآيات الفروع، وبين القرآن المكي والقرآن المدني، هي، أيضا، من مظاهر الغرابة في الدعوة الإسلامية الجديدة.. وهي هي التي تعيد أحسن ما في قرآننا ليوجه الحياة المعاصرة، ويخرج بها من تيه الشك والحيرة والتخبّط..