إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الغـرابة فى الدعوة الإسلامية الجديدة

تطوير التشريع


ذكرنا أن الجماعة المعينة للأفراد لتحقيق مرحلة العلم من الإسلام هي الجماعة المنظمة على أساس التشريع القائم على آيات الأصول.. وليقوم التشريع على آيات الأصول فلا بد من تطوير الشريعة الإسلامية، وذلك بالانتقال من نص فرعى، في القرآن، خدم غرضه، خدمه حتى استنفذه، الى نص أصلّى مدّخر، في القرآن، الى أن يجيء وقته، ويحين حينه.. وفكرة تطوير الشريعة الإسلامية هذه من مظاهر الغرابة في الدعوة الإسلامية الجديدة.. وسبب الغرابة، ها هنا، هو أن الناس قد ألفوا أن يقولوا إن الشريعة كاملة، ويعنون بذلك أنها ثابتة على صورة واحدة.. والذي لا شك فيه أن الشريعة كاملة، ولكن كمالها لا يكمن في ثباتها على صورة واحدة وإنما يكمن في مقدرتها على التطوّر المستمر لتواكب الحياة في اندفاعها وسيرها الحثيث نحو الكمالات المبتغاة، وذلك باستيعاب الطاقات الهائلة الجديدة، وبإشباع الحاجات الأصيلة والمتجددة.. ومقدرة الشريعة الإسلامية على التطور هي ما يجعل القرآن صالحا لكل زمان ومكان.. وجاهل من ظن أن مشاكل بشرية القرن العشرين يمكن أن يستوعبها، وينهض بحلها، نفس التشريع الذي استوعب، ونهض بحل مشاكل بشرية القرن السابع، دون أن يتطوّر لمستوى مجابهة المشاكل الجديدة..

التوفيق بين الاشتراكية والديمقراطية


وتنظيم الدعوة الإسلامية الجديدة للجماعة، والذي تحدّثنا عنه فيما سبق، يظهر، أكثر ما يظهر، في ميداني السياسة والاقتصاد.. وهنا تظهر غرابة الفكرة الاجتماعية التي جاءت بها الدعوة الإسلامية الجديدة، ويظهر تفوقها، على سائر الفلسفات الاجتماعيات السالفات، والمعاصرات.. فلقد استطاعت الدعوة الإسلامية الجديدة أن توفق، ولأول مرة في تاريخ الأفكار، بين حاجة الفرد الي الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة الي العدالة الاجتماعية الشاملة... وهذا التوفيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة هو الذي يظهر فضيلة الإسلام بصورة يقصر عنها تطاول كل متطاول، وهو الذي يرشحه لإقامة المجتمع الديمقراطي الاشتراكي الذي أصبحت الحاجة إليه ماسة، والضرورة اليه ملجئة.. ومقدرة الدعوة الإسلامية الجديدة على الجمع والتوفيق بين الاشتراكية والديمقراطية في جهاز واحد، يرجع الفضل فيها الى التوحيد الذي استطاع أن يفض التعارض البادي، لدى النظرة الأولى، بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة، وذلك لأن تشريعه يقع على مستويين: مستوى الجماعة "تشريع المعاملات"، ومستوى الفرد "تشريع العبادات"..
وكاستطراد مناسب، في هذا المقام، فإن المقدرة على التوفيق بين حاجة الفرد الي الحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة الي العدالة الاجتماعية هي جوهر دستورية القوانين في الدعوة الإسلامية الجديدة، لأن القوانين الدستورية في هذه الدعوة هي تلك القوانين التي توفق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة على الصورة التي ذكرناها..