إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الغـرابة فى الدعوة الإسلامية الجديدة

التقليد والأصالة


وبوصولنا الى هذا الموضوع، موضوع التقليد والأصالة، فإننا نصل الى جوهر الغرابة، والى قمتها في الدعوة الإسلامية الجديدة.. فقلد تحدثنا في بداية سفرنا هذا عن أن التوحيد هو مصدّر الغرابة.. ولقد قلنا إن (قول "الكلمة"، "لا إله الاّ الله" يعنى تحقيقها في الواقع المعاش، وتجسيدها في اللحم والدم.. وتحقيقها في الواقع المعاش، يعنى تغييرها، وتثويرها، وتطويرها للواقع الذي تنزل عليه، حتى يتم تجسيدها في اللحم والدم، وهو يعنى إبراز الكمالات الفردية في كل نفس بشرية، وذلك بتوحيد القوى المودعة في كل بنية بشرية – بتوحيد الجسد، والعقل، والقلب..)).. ولقد تتبّعنا حتى الآن مظاهر الغرابة في تحقيق "لا إله الاّ الله" في الواقع المعاش، ولمسنا لمسا خفيفا موضوع تجسيدها في اللحم والدم حينما تحدّثنا عن موضوع علمية الدعوة الإسلامية الجديدة.. وقد أنى لنا أن نتوسع قليلا في موضوع تجسيدها، لأنه الموضوع الأهم والمتعّلق بالتصوّر الجديد واللائق بالألوهية.. ذلك التصوّر الذي جعل مظاهر التوحيد في خارج النفس البشرية في مقام الوسيلة، ثم عبر بها، وعليها، الى داخل النفس البشرية حتى يتم، كما ذكرنا من قبل، التئامها، بعد أن طال بها انقسامها..
ومسألة التقليد والأصالة مدارها الفردية.. وقد وكد الإسلام الفردية توكيدا بوأها مكان الغاية من كل سعى في الحياة.. ولقد استفاض القرآن في توكيدها أيضا.. فالله تعالى يقول: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)).. ويقول عزّ من قائل: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)).. ويقول: ((ونرثه ما يقول ويأتينا فردا)).. ويقول: ((ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)).. ويقول: ((إن كل من في السموات والأرض الا آتى الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدّهم عدّا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)).. وقد لفّت كل تشاريع الإسلام حول الفردية لتجعل تحقيقها ممكنا.. والفردية، في الدعوة الإسلامية الجديدة، تعنى تحقيق الحرية الفردية المطلقة.. والحرية الفردية المطلقة تعنى أن يفكر الفرد كما يريد، وأن يقول كما يفكر، وأن يعمل كما يقول، بشرط أن لا تكون عاقبة قوله أو فكره أو عمله الاّ الخير والبر بالأحياء والأشياء..
وتحقيق الفردية هو أيضا ما يعبر عنه بتحقيق الأصالة، وبالحصول على الشريعة الفردية.. والسبيل الى تحقيق الأصالة هو تقليد النبي العظيم في عبادته وفيما تيسر من عادته بتجويد واتقان، حتى يعيد المقلّد صياغة شخصيته وذلك بصبها في القالب النبوي الكامل، فيتهيأ للأخذ من الله بلا واسطة النبي وذلك بتوحيد ذاته الحادثة لتصلح لمواجهة الذات القديمة الموّحدة توحيدا مطلقا.. ومسألة التقليد والأصالة تحكيها، أبلغ حكاية، قصة المعراج حينما سار النبي خلف جبريل حتى سدرة المنتهى، ثم واصل النبي، منفردا بعد ذلك، ليشاهد ربه..
يقول الأستاذ محمود محمد طه في كتابه "رسالة الصلاة" عن التقليد والأصالة ما يلي: ((الله تبارك وتعالى هو الساير أمامنا جميعا، ولكن مواضع أقدامه خفية لا ترى إلا بنور قوي، لم يكن يملك هذا النور غير جبريل فسار يضع أقدامه على مواضع أقدام الله تماما وبدقة.. ومواضع أقدام جبريل خفية أيضا، لا ترى إلا بنور قوي، لم يكن يملكه غير محمد، فسار محمد يضع أقدامه على مواضع أقدام جبريل تماما، وبدقة، ويحاول جاهدا أن يوضح مواقع أقدام جبريل بضغط أقدامه هو عليها، فأصبحت واضحة لكل منا على صور متفاوتة.. وأدنى هذه الصور وضوحا، واضح بشكل كاف، ليتبعه من هذه الأمة أقلهم نورا، ولكن بعض الناس اكتفى بالسير خلف النبي، من غير أن يهتم بمواقع الأقدام، فذلك هو المقلد العادي، وبعضهم اهتم بأن يسير خلف النبي، وبأن يضع أقدامه في مواضع أقدام النبي، بضبط وإتقان، حتى لا يزيد أثر قدمه على أثر قدم النبي، ولا ينقص عنه، حيث أمكنه ذلك، فذلك المقلد المجود للتقليد.
ثم إنه، بفضل هذا الاتباع، انعكست الأنوار المحمدية على المقلدين، كل على حسب بلائه، فأصبح نظره يقوى حتى استطاع أن يرى مواقع أقدام جبريل، التي كانت خفية عنه في أول أمره، ثم سار في إتقان تقليده، حتى رأى مواقع أقدام الله التي كانت خافية على محمد، فأخذ يوضحها له جبريل بسيره عليها، وسار محمد بسير جبريل، حتى قوي، فاستقل بالرؤية والاتباع.
فإذا رأى المقلد، المجود لتقليد النبي، مواضع الأقدام الإلهية فإنه يستقل بالرؤية وبالاتباع. فيكون في آخر أمره، وبفضل إتقان تقليد النبي، مقلدا لله بلا واسطة النبي.
وتعالى الله عن الأقدام الحسية، بالصورة التي نعرفها نحن وإنما مواضع أقدامه مرامي الحكمة الخفية، الباطنة، في إرادته، تلك الحكمة، التي خفيت ودقت، ولطفت، حتى أصبحنا نسير أمامه تبارك وتعالى، وننتظر منه أن يتبعنا هو، لفرط جهالتنا وغفلتنا، وذلك حين نختار إرادتنا على إرادته، ونسخط، في سبيل ذلك الاختيار، على إرادته هو (( سبحانه وتعالى عما يشركون)) إن تقليدنا لله تعالى، معناه سيرنا على مواضع إرادته بتبعية، واستسلام، وتلك هي العبودية)) انتهى..
والعبودية هي، تكليفنا الأصلي، حين تكون العبادة هي تكليفنا الفرعي.. والعبودية لله تعنى الحرية الفردية المطلقة، وما ذاك الا لأن العبودية تعنى انعتاقنا من أسر كل العناصر، ومن أسيادنا التقليديين.. وهي تعنى أن نطيع الله حتى يطيعنا الله فيصبح سمعنا الذي نسمع به، وبصرنا الذي نبصر به ويمدّنا بكل قواه ويورثنا علمه.. وكل هذه المعاني التي ذكرناها هي من مظاهر الغرابة... إذ أليس من الغريب أن يحقق الإنسان حريته الفردية المطلقة عن طريق العبودية؟ أو ليس من الغريب، أيضا، أن يحقق أصالته وفرديته عن طريق إنكار فرديته في التقليد؟

الصلاة وسيلة وليست غاية


إن من النتائج الأساسية التي تنبع من مسألة الأصالة والشريعة الفردية، هي أن الصلاة الشرعية ذات الحركات هي وسيلة وليست غاية.. وهذه، أيضا، من أكبر مظاهر الغرابة التي صحبت الدعوة الإسلامية الجديدة.. وكون الصلاة الشرعية وسيلة يلتمسه كل من تمعّن النظر في الآيات التي تخص مسألة الصلاة في القرآن.. فالصلاة مثلا وسيلة الى الرضا.. يقول تعالى: ((فاصبر على ما يقولون، وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن آناء الليل فسبّح وأطراف النهار.. لعلك ترضى)).. وهي أيضا وسيلة الى ذكر الله، وهو يعنى الحضور مع الله بلا غفلة عنه.. يقول تعالى: ((وأقم الصلاة لذكرى)).. والصلاة وسيلة للاستعانة على ترك دواعي الجبّلة للغفلة عن الله.. يقول تعالى في ذلك: ((واستعينوا بالصبر والصلاة.. ان الله مع الصابرين)). وكون الصلاة الشرعية وسيلة يمكن أن يلتمس في السيرة النبوية، إذ كان النبي، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، كلما حزبه أمر فزع الى الصلاة، وكان يقول عن الصلاة: ((أرحنا بها يا بلال)).. كما كان يقول: ((حبّب الى من دنياكم ثلاث، النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة..))