إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

خَمْرُ المَعَانِي

والقصيدة الثانية التي نقدمها للقارئ الكريم هي للأخ الجمهوري محمد احمد البيتي، وهي قصيدة معاصرة تنزلت فيها المعاني الصوفية العميقة، حتى دنت، وصُبّت في لغة العصر وقد جاءت كما يلي:

فنى الوهم



فنى الوهم وزالَ لم يكن الا ّضلالا
ليس للفاني وجود إنما كان خيالا

يا "أنا" يا وهم يا من كان لولاه محالا
وجهك الفاني ويبقى وجهه الحقّ تعالى

عشيت عينك قد عاينت يا مفتون آلا
مقتضى الحق فناء الخلق حالا ومآلا

إنه المشهود من قد ملأ العين جمالا
كوننا لمعة برق من حمى الغيب تلالا

وحروفا قد قرأناها جمالا وجلالا
وكتابا قد شهدناه صفات وفعالا

وعرفناه وجودا ليس يفنى وكمالا
أزليا سرمديا عن حدوث يتعالى

أيها الساري رويدا لا تقل ليلي طالا
طلع الفجر فعرس ان صبغ الليل حالا

هذه شمسك عند الأُفق تعلو فتعالَ
والضحى قارب فاقرأه تجد فيه مثالا

ونهار الفتح إن جلّ ضياها فاستحال
ليلك الداجي نهارا والسوى بان وزال

وتوحدت به ذاتا ووصفا وفعالا
فابق بالله فإن قلت فما قد قلت قال
طلع الفجر به فانعم فقد أوتيت بالا

فنى الوهم وزالَ لم يكن الا ّضلالا
ليس للفاني وجود إنما كان خيالا

لقد انكشف الغطاء للعارف، وعلم علم يقين، أن هذه الدنيا وهم، وأن نسيان هذه الحقيقة ظلال.. فالفاني هو هذه الحياة الدنيا، فهي في الحقيقة لا وجود لها، وانما هي خيال.. والعاقل من عمل على خلاص نفسه، بأن سار في الطريق الذي يعده للحياة الباقية، فتاب من غفلته، واقبل على ربه بحضور وخضوع.
ومراد العارف من بيته هذا، أن يلفت نظر "العابد" إلى حقيقة يجب أن لا يغفل عنها، وتلك هي أنه لا إرادة له مستقلة عن إرادة الله، فإن الله هو المسيّر لكبير الأشياء وصغيرها: ((وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)).. وغرض العبادة أن تعيننا على إدراك هذه الحقيقة واستيقانها.. لأن العبادة روحها العبودية، والعبودية معناها تخلّى العابد عن ارادته، وتسليم أمره لله.. فهو لا يعترض على قضاء الله وقدره، وإنما هو يرد النفس الى الرضا، كلما جنحت نحو السخط على الارادة الالهية عندما تلقى منها ما تكره.. مذكرا إياها: - ((إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون))..
إن تسليم الارادة يكون بالموت الحسي عادة، حيث ينكشف الغطاء، ويواجه الميت بالحقيقة، ولكن الدين يريدنا أن نستيقن هذا الأمر، في الدنيا قبل الآخرة، فنموت قبل أن نموت بأن نكسر شوكة شهوات نفوسنا.. وقد جاء في الحديث: ((موتوا قبل أن تموتوا)) أي تواضعوا، واخشعوا، وروضوا نفوسكم الأمارة بالسوء، فلا تدعوها تسترسل في الشهوات كالحيوان..
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((ان الشيطان يجرى من احدكم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالصوم)).. وقال ايضا ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت)).. فأول ما يجب أن يتجه اليه العابد بعد توجهه، وتوبته هو أن يقلّل كم الطعام فلا يملأ بطنه: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه))، وأن يقلل المنام، ويقلل الكلام، ويترك الفضول من كل شيء.

يا أنا يا وهم يامن كان لولاه محالا
وجهك الفاني ويبقى وجهه الحق تعالى

يا "أنا": يا نفسي التي تشعر بوجودها، وتدّعى أن لها إرادة مع إرادة الله، فلولا الله لم يكن لك وجود.. ووجودك نفسه فان، يعني أنك متغيرة، ومتطورة.. فانية لا يبقى منك الا وجه الله: "روح الله" الكامن فيك، فهو الحق وهو الباقي..

عشيت عينك قد عاينت يا مفتون آلا
مقتضى الحق فناء الخلق حالا ومآلا

عشيت عينك، يعني طششت.. يا مفتون.. يا مغرور، فان هذه الدنيا التي تتشبث بها، وهذه الإرادة التي تشعر بها كلها سراب، كالسراب الذي يراه السائر العطشان في الصحراء ويظنه ماء: ((والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الله عنده، فوفاه حسابه والله سريع الحساب))
إن الحق هو الله، وهو الباقي، وهذا يقتضي أن الخلق في الدنيا فانون، وفي الآخرة فانون أيضا.. فناء بالموت الحسي، وفناء بالموت المعنوي الذي هو بترويض شهوات الجسد، واستغلال الدنيا لتكون رفيقة لنا في سفرنا، نأخذ منها زاد المسافر..
فإن الدنيا ليست باطلا مطلقا، وانما الباطل الاستغراق فيها، والغفلة بها عن الله.. وهي حق عندما نستعملها كما كان يستعملها النبي.. صلى الله عليه وسلم وقد قال عنها: ((الدنيا مطية الآخرة)) يعني وسيلتنا الى الآخرة وقال: ((إنني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، واتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) ... فالدنيا بهذا الفهم هي دين..

انه المشهود من قد ملأ العين جمالا
كوننا لمعة برق من حمى الغيب تلالا
وحروفا قد قرأناها جمالا وجلالا
وكتابا قد شهدناه صفات وفعالا
وعرفناه وجودا ليس يفنى وكمالا
أزليا سرمديا عن حدوث يتعالى

إن هذا الكون الذي نعيش فيه – ونحن ضمنه – قد أتى من الغيب.. فهو مظهر إرادة الله، وهو اشارة إلى الله، إلى الغيب الذي منه أتى، وأن الله مشهود لمن تفكر في خلق هذا الكون: ((ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)) ومن ير وجه الله في الخلق، فإن عينه تمتلئ بجمال الله وحسنه..
إن هذا الكون كتاب "حروفه" وكلماته افعال الله التي تجرى فيه، على أيدي خلقه، من خير وشر، والكون معمور بروح الله التي نفخها في الإنسان.. وروح الله قديم.. "عن حدوث يتعالى" وهو لا ينعدم: "ليس يفنى": ((كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام))..
روح الله فينا.. علينا أن نغذي وجودنا بها، فهي كامنة في كل نفس.. وغذاؤنا بها يتم بالسلوك، والعبادة.. بالصلاة لترضى عن الله ((رضى الله عنهم، ورضوا عنه، ذلك الفوز العظيم)) الصلاة هي وسيلتنا للرضا: ((فاصبر على ما يقولون، وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن آناء الليل، فسبّح، وأطراف النهار لعلك ترضى..)) الصلاة على النهج النبوي.. الصلاة في الثلث الأخير من الليل.. ولو مقدار "حلبة شاة" كما جاء في الحديث.. وقيام الليل سنّة، ثلاث ركعات، أو خمس ركعات، أو ثلاث عشرة ركعة.. لا يزيد عليها، حتى في رمضان، ولا يتركها، حتى في السفر.. ويمكن لنا أن ندرّج أنفسنا، في صلاة الثلث، قليلا قليلا، نبدأ بثلاث ركعات ونزيد عليها، كلما قويت نفوسنا، وطابت بالصلاة، حتى تصبح لذتها فيها، تشتاقها نفوسنا وتحبها.. فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان كلما حزبه أمر فزع الى الصلاة، وكان يقول ((أرحنا بها يا بلال))، أي روّح عن النفس بالصلاة.. وقال: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)).. ومن أكبر ما يعين على الصلاة أكل الحلال.. وعدم التوّسع في حاجات النفس، من أكل، وشراب، ومتاع، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم ((اللهم أجعل قوت آل محمد الكفاف)).. أي لا تجعلهم ينشغلون من الدنيا بأكثر مما يعينهم على الآخرة: ((الدنيا مطية الآخرة))..

أيها الساري رويدا لا تقل ليلى طال
طلع الفجر فعرس ان صبغ الليل حال
هذه شمسك عند الافق تعلو فتعالَ

"الساري" هو المسافر بالليل.. أيها السالك، المجاهد، في طريق الله، على النهج النبوي، لا تفتر همتك من طول السير.. فقد أوشكت على بلوغ غايتك.. من تجديد نفسك، وكشف حجاب الرين عن قلبك، ورؤية ربك.. وها هو الظلام أوشك على الزوال "إن صبغ الليل حال"، والفجر قد طلع: "فعرّس": أقم لترتاح من عناء المجاهدة.

والضحى قارب فاقرأه تجد فيه مثالا

((والضحى * والليل إذا سجى * ما ودّعك ربك، وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى)) اقرأ تجد أن لك في رسول الله أسوة حسنة.. وأن مجاهدتك وتعبك خير لك من الراحة والنوم الذي تسترسل فيه النفس، وتخسر أخراها به... فاصبر على تعبك في العبادة، فسيجزيك الله حتى ترضى..

ونهار الفتح ان جلّ ضياها فاستحال
ليلك الداجي نهارا والسوى بان وزال
وتوحدت به ذاتا ووصفا وفعالا
فابق بالله فان قلت فما قد قلت قال
طلع الفجر به فانعم فقد أوتيت بالا

إذا أشرق بقلبك نور الله، وزال ظلام نفسك وأصبحت ترى وجه الله، ولا تنشغل بسواه، وتوّحد بذلك باطنك وظاهرك، فسيرتك خيّرة، وسريرتك أخير، لا تضمر فيها شرا لأحد، ولا يملأها الاّ الله، فإنك تكون موافقا في فعلك وقولك إرادة الله، ما تقوله، أو تفعله يرضى عنه الله لأن نفسك قد انصلحت بالعبادة، وأصلح الله لك بالك..
فجاهد أيها العابد.. كف اذاك عن الناس، واحتمل أذاهم.. وانوِ بهم الخير ووصلّه إليهم.. وتأس بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فقد قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).. تأس به في عمله، فاعبد كما كان يعبد، واتبع قوله: ((صلّوا كما رأيتموني أصلي)) ... وتعشّق شمائله، وحاول تقليده فيها، فقد كان أرأف الناس بالناس، وأنفع الناس للناس.. وهو القائل ((الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله، أنفعهم لعياله))..