إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
تحقيق مع الأستاذ محمود محمد طه
أجراه الصحفي عبد الله جلاب

الاثنين 11 ديسمبر 1972م

نص الحوار


محمـــود محمـــد طــــه يقــــول:


  • هناك فرق بين الشريعة الاسلامية وبين الدستور

  • في القرآن الكريم آيات اشتراكية وأخري رأسمالية

  • وهناك أيضا آيات للوصاية وأخري للمسئولية

  • الدستور لا يوجد الا في الاسلام


  • تحقيق عبد الله جلاب - الاثنين 11-12-1972م

    ذهبت الي الاستاذ محمود محمد طه في منزله بالثورة .. لأجري معه هذا الحديث ، لم يذهلني المنزل البسيط الذي يسكن فيه ، اذ أن البساطة شيء عرف به محمود أصلا ، كما لم يذهلني مظهره البسيط ومجلسه بين من معه .. يخدمهم ويصب لهم الشاي دون أدني تكلف .. فكل ذلك من صميم صفات الرجل .. بل كنت مشدودا الي مقابلة أجريتها معه سنة 1968 ابان محكمة الردة كما يقول ..
    وجدت أن الزمن يكاد يكون متقاربا. اذا ماذا فعلت تلك الأربع سنوات في الرجل وفي تفكيره؟ الاجابة ربما تكون صعبة جدا .. ولا يمكن الوصول اليها في جلسة واحدة .. وكما دخلت ذلك المنزل وفي رأسي عديد من الأسئلة خرجت وفيه أسئلة أكثر.

    (س) قلت : أنت تفرق بين الشريعة والدستور الاسلامي ؟؟

    (ج) الاسلام هو المعني الكبير الذي يحتويه القرآن. والقرآن يحتوي الاسلام في مستويين .. مستوى العقيدة .. ومستوى العلم .. أو مستوى الأيمان ومستوى الايقان .. وشريعته في البعث الأول أو الرسالة الأولي تنزلت لمستوى الايمان لتخاطب أمة المؤمنين .. وأدخر شريعته في المستوى الثاني لتفصل في حينها فتكون كافية لتطلعات أمة المسلمين .. وشريعته في البعث الأول قامت على جزء من القرآن هو الآيات المدنية وأعتبرت هي صاحبة الوقت يومئذ ونسخت الآيات المكية …
    والفرق الأساسي فيما نحن بصدده من الدستور الاسلامي هو أن الآيات المدنية هي آيات وصاية والآيات المكية هي آيات مسئولية ، وانما يلتمس الدستور في آيات المسئولية وليس له وجود على الأطلاق في آيات الوصاية.

    (س) ولهذا السبب أنت تقول ليس هناك دستور اسلامي في الشريعة الحاضرة ؟؟

    (ج) اذا أردنا الدستور الاسلامي فان علينا أن نبعث آيات الأصول - الآيات المكية - التي كانت منسوخة في البعث الأول وننسخ آيات الفروع التي كانت عاملة يومئذ ويجيء من هذا الصنيع تطوير التشريع الاسلامي فيما يخص أمر المال وأمر السياسة .. بمعنى أن يفتح هذا الطريق لتطوير الزكاة من الآية الصغري "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم" وهي آية رأسمالية ملطفة .. الى آية الزكاة الكبرى "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو" وهي آية اشتراكية .. وسيكون بهذا التطوير من حق المشرع الاسلامي أن يحرم ملكية وسائل الانتاج علي الفرد الواحد أو الأفراد القليلين في صورة شركة. وهذا التحريم يعتبر أول منازل الاشتراكية .. أما في السياسة فسيكون الانتقال من آية الشورى "وشاورهم في الأمر .. فاذا عزمت فتوكل علي الله .. ان الله يحب المتوكلين" وهي آية وصاية الي آيتي "فذكر انما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر" وهما آيتا مسئولية .. ومن ثم آيتا حرية .. ومن هاهنا الدستور.
    هذا الأمر يخضع للتطوير وهو مطلوب اليوم .. ولا يخضع للتطوير تشريع العبادات ولا تشريع القصاص ولا تشريع الحدود.

    (س) وحتى يأتي طور الدستور الذي تقول عليه ، ما العمل ؟؟

    (ج) العمل اليوم يجب أن يتجه الي اعداد الشعب ليكون في أدني مراتب الأهلية للحكم الديمقراطي .. فان هذا الشعب لم يحكم حكما ديمقراطيا في جميع عصوره. ويجب أن يكون واضحا، فان ما كان عليه العمل في عهود الأحزاب المختلفة من أنتخابات تعقد ومن دستور مؤقت ومن محاولات لوضع الدستور الدائم (والدستور الاسلامي بالذات) انما كان سلسلة من التضليل. فقد كان هذا الشعب تتقسمه الطائفية في محورين كبيرين: الأنصار والختمية. وكان يوجه من زعماء الطائفية توجيها جعله تحت أسوأ انواع الوصاية .. الوصاية التي ترى مصلحتها في أن يظل الناس جهلاء .. ولذلك فقد كانت الأجهزة الديمقراطية نوعا من التضليل الذي يحاول أن يضفي على نفسه صفة المشروعية .. ان هذا الشعب يحتاج الى وصاية على أن تكون وصاية مخلصة رشيدة .. وما ينبغي لهذه الوصاية أن توهم الشعب بأنه يعيش في ظل ديمقراطية. لأنها ان فعلت ذلك تورطت في أسلوب من التضليل للشعب لا يليق بالأوصياء الرشدة. ومن هذا المنطلق أجدني غير موافق علي المحاولة المبذولة اليوم لوضع دستور وبالذات على مسودة الدستور المطروحة علي مجلس الشعب اليوم.
    ان النظام الحاضر يجد تبريره الكافي في انه منذ البداية سار في اتجاه تصفية الطائفية بصورة لم يسبق لها مثيل في العهود السابقة ولا يمكن لهذا الشعب أن يدخل عهد كرامته ومن ثم ديمقراطيته الا اذا تخلص من النفوذ الطائفي ، وليست الطائفية تنظيما فحسب وانما عقيدة .. ولا تحارب العقيدة بالسلاح وان حورب التنظيم بالسلاح. وانما يجب أن يسير مع السلاح الذي أضعف التنظيم "الطائفي" نشر الوعي بالدعوة الي الاسلام الصحيح المفهوم فهما متجددا ومتواكبا مع بشرية اليوم .. وما يجب عمله اليوم هو استيقان الوضع القائم من انه مرحلي يعد الشعب لأن ينهض نهضته المرتقبة التي تجعله أهلا للدستور الاسلامي الصحيح .. الذي يقوم علي بعث آيات الأصول ونسخ آيات الفروع ويقوم علي المنهاج التربوي الذي به يكون الأفراد أحرارا ديمقراطيين. ذلك بأن الدساتير والقوانين والأجهزة الديمقراطية من مجالس نيابية وسلطات مستقلة وحدها لا تجعل الناس أحرارا ولا تجعلهم ديمقراطيين ولا حتى أهلا للديمقراطية. وانما التربية وحدها هي التي تغير الناس وتجعلهم في طريق التغيير المستمر وثم تخرجهم من طور الوصاية الى طور المسئولية.
    عندي أن هذا النظام القائم مبرر بما يكفي ان سار علي هذين الأسلوبين وهو لا يحتاج الي اصطناع دستور ولكنه يحتاج الي ما يمكن أن يسمى ميثاقا وطنيا يهيئ مرحلة الإنتقال لأن تسلم الأمور إلي مرحلة الإستقرار حيث يتم وضع الدستور الإسلامي الصحيح.

    (س) ماذا تعني بالديمقراطية ؟؟

    (ج) الديمقراطية هي حق الخطأ. ان تملك أن تقول وأن تعمل ثم تتحمل مسئولية قولك وعملك وفق قانون دستوري ، والقانون الدستوري هو الذي يملك أن يوفق في سياق واحد بين حق الفرد للحرية وحق المجتمع للعدالة والأمن. فإنك بهذا الحق "حق الخطأ" تحرز الحرية وتفلح في تقريرها وهي أن ليس هناك دستور على الإطلاق إلا في الإسلام ..
    وما يلفت النظر في ديمقراطية الإسلام انها تنزلت إلي أرض الناس ووضعت البدايات وليس لنهايتها آخر .. وهذا الحديث إنما يؤخذ من أن الإسلام هو دين الأميين نبيه أمي وأمته أميه .. بمعنى أنه لا يشترط فيمن يدخل مداخله ويسير في مراقيه أن يكون علي تحصيل مسبق وإنما هي لا اله إلا الله تستقبل بقلب سليم وفطرة نقية .. وشعبنا يملك من ذلك ذخيرة طيبة.

    (س) هل يمكن أن توضح مرحلة الإنتقال ؟؟

    (ج) إن العهد الحاضر هو خير عهود الحكم الوطني التي مرت بهذه البلاد ، ويجب أن يعرف لنفسه هذه الميزة وأن ..؟؟؟ تستغل الشعب بإسم الدين لتصرفه عن مصالحه وتسخره لمصالحها هي وتحتفظ له بالجهل والغفلة. لقد كانت هناك نظم ديمقراطية في مظهرها توجه الطائفية فيها المواطنين ليصوتوا بالإشارة لنائب لا يعرفهم ولا يعرفونه .. إن هذا العهد قد قوض نظام الأحزاب الفاسدة ، وهو قد ضرب الطائفية ضربة كسرت شوكتها ولكنها لم تقتلع جذورها ، ولاتزال الطائفية قائمة في عقول بعض الناس وفي قلوبهم. ويمكن لهذا النظام أن يجد تبرير إستمراره في كونه حائلا بين الشعب وبين عودة النظام الطائفي الفاسد إلي الحكم ويجب أن يتصف رجاله بالشجاعة والإخلاص والصدق الذي يكسبهم إحترام الناس ويجب أن يلتمسوا المقدرة علي حلول مشاكل المواطنين الإقتصادية والسياسية بالقدر الذي يمكن لإستمرارهم حتى يفصل الزمن بين عهد تسلط الطائفية وما يكون عليه مصير هذا الشعب في مقبل أيامه.
    نحن لا نعتقد أن الإنتقال يمكن أن يتم من عهد الوصاية إلي عهد المسئولية بغير التوعية الرشيدة .. ولا نظن أن الطائفية يمكن ان تجتث من اصولها الا بنشر الفكر الاسلامي الصحيح وهذا ما ظللت اعمل له واخواني منذ عهد وقد اخذت امور الوعي تستقيم نوعا ما واصبحت دائرة من يعيشون الاسلام بصدق واخلاص تتسع كل يوم وستكون نهاية المرحلة يوم يظهر الجيل الاسلامي ظهورا يجعله لا يرضي بغير الدستور الاسلامي الصحيح والتشريع الاسلامي المتطور المتجاوب مع قامة المجتمع الكوكبي الحاضر..