إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة الرابعة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم
«إنا أنزلناه في ليلة القدر .. وما أدراك ما ليلة القدر! ليلة القدر خير من ألف شهر .. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر .. سلام هي حتى مطلع الفجر» .. صدق الله العظيم

ثم إنا نواصل أحاديثنا .. هذا حديثنا الرابع .. كنا ختمنا حديثنا التالت بالحديث عن ختم النبوة .. وقلنا أنُّ النبوة ختمت بنص صريح .. وأوردنا النص: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين» .. وأنُّ ختم النبوة خير أريد بمن في الأرض .. وهو طلوع شمس كرامة العقل البشري .. العقل البشري مكرم في جميع الملل وفي جميع الفلسفات، ولكن تكريمه في الإسلام، ما بتدانيه أي كرامة عند أي ملة أو أي نحلة ..

وقلنا وارد الكلام في: «ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير من ما خلقنا تفضيلا» .. التفضيل لبني آدم جائي بالعقول .. وأنُّ في الآية ما يدل على أنُّ بني آدم لم يفضلوا على جميع خلق الله، وإنما فضلوا على كثير من الخلق .. في استثناء واقع على الملائكة العلويين .. كأنُّ بني آدم لم يفضلوا عليهم .. لكن هناك سر، وأشرنا ليه هناك، في أنُّ في فرق بين ابن آدم والإنسان ..

وارد الكلام عن الإنسان بـ: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا!» .. «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا! إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعا بصيرا .. إنا هديناه السبيل، إما شاكرا وإما كفورا» .. الإنسان تطوُر على ابن آدم .. الإنسان مفضل على جميع الخلائق، علويها وسفليها .. كل ما خلق الله، الإنسان مفضل عليه .. وكل ما خلق الله، إنما خلقه من أجل الإنسان ..

وفي حديث قدسي: «خلقت الأكوان للإنسان، وخلقت الإنسان لي» .. وفي حديث قدسي، يشير إلى مرتبة الإنسان أيضا: «ما وسعني أرضي ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن» .. فالإنسان مطيته الأكوان، والإنسان مطية لله—الأكوان مطية للإنسان، والإنسان مطية لله ..

وارتفاع الإنسان على ابن آدم، قفزة كبيرة، زي ارتفاع ابن آدم على الحيوان .. لمن قال: «لقد كرمنا بني آدم»، قلنا أنُّ كرامة بني آدم لم تجيء إلا بالعقل .. ولمن قال: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا!»، قال، قد أتى على الإنسان زمن سحيق وطويل ما كان عنده وزن، ما كان مذكور في ملكوت الله لأنه ما كان عنده عقل وما كان مكلف .. كان في مستويات دنيا من الحيوات البتعج بيها الأكوان .. وقلنا أنه ارتفع من أسفل سافلين، ساير إلى أعلى عليين. «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين» .. أسفل سافلين، الإنسان ساير إلى الله: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه» ..

ولا تكون ملاقاة الله في المكان ولا في الزمان وإنما هي بقرب صفات الإنسان من صفات الله .. إنما هي بالترقي في المعارج .. في معارج القرب من الله، ووسيلتها العقول .. ما في هناك أي وسيلة لمعرفة الله ولا لقاء الله ولا السير إلى الله، إلا عن طريق العقول .. وفي هذا المضمار يجيء قوله تعالى: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون» .. وأنزلنا إليك الذكر (القرآن كله) لتبين للناس ما نزل إليهم (توضح للناس ما نزل من القرآن لمستواهم) .. ذلك بالشرح وبالتفسير وبالتشريع .. العلة في دا كله، «لعلهم يتفكرون» .. فكأنُّ ربنا ما أرسل الرسول ولا نزل القرآن ولا شرع الشريعة، إلا من أجل ترويض الفكر في الإنسان .. العلة وراء كل العمل دا، هو الفكر، «ولعلهم يتفكرون» .. فالقرآن، بطبيعة الحال، مليء بالدعوة إلى الفكر .. لكن الفكر ليس عمل جزاف ولا عمل بطالة ولا عمل أغراض وأحقاد وضغائن .. الفكر عمل مصفى ومروض ومهذب ..

ونحن بنقول، الفكر هو حركة العقل بين طرفين .. حركة العقل بين طرفين، هي الفكر .. والعقل هو القوة الدراكة فينا .. وإدراكنا بالعقول في مستوى الشفعية لا الوترية .. ونجيء تاني مرة لكرامة العقل في معنى الله ما خلق الخلق ولا ظهر لِنا وتجلى لِنا وعلمنا، إلا لتقوى عقولنا ولنسير ليه .. يجيء الكلام، برضو آية وردت في حديثنا التالت: «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» .. ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ..

حركة العقل بين الطرفين، هي الفكر قلنا، وهي عملية الإدراك .. هي عملية الوصول إلى نتيجة .. ودي، في الحقيقة، تجيء في «أم الكتاب» عندنا، لمن قال: «أهدنا السراط المستقيم، سراط الذين أنعمت عليهم»، قال: «غير المغضوب عليهم .. ولا الضالين»، جاءوا الطرفين البينهن الحركة تكون هي الفكر .. واستواءها في خط الاستقامة، «أهدنا السراط المستقيم، سراط الذين أنعمت عليهم»، اللي هم المسلمون، «غير المغضوب عليهم» .. ويجيء في بعض التفاسير، ويجوز في سائر التفاسير، المغضوب عليهم (اليهود) ولا الضالين .. الضالين (النصارى) .. وممكن المعنى يجيء بالصورة دي، في طرف مادي وفي طرف روحاني .. اليهود في الطرف المادي وفرطوا في الروحانية، والنصارى في الطرف الروحي وأفرطوا في الروحانية .. المسلمين وسط بين الاتنين ديل: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا» .. هنا «أهدنا السراط المستقيم»، الاستقامة دي هي الفكر المقصود ..

ما كل فكر هو المكرم عند الله، لكن كل فكر في عنصره هو المادة الخامة إذا تهذب ليصل لخط الاستقامة البها نعرف الله المعرفة اللي يكون فيها معرفته في منازل أسماؤه وصفاته وأفعاله .. وبفضل الله نتجاوز العقل أو نوقف حركة الفكر، ونرفع حجاب الفكر، ليكون الشهود الوتري اللي هو أداته القلوب .. القلوب تشاهد الله والعقول تعرف الله ..

وعندما ورد الحديث في القرآن، وقراناه في مضمار حديثنا التالت: «إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى»، جاءت أيضا حركة الفكر بين الطرفين في «ما زاغ البصر وما طغى» .. إذ يغشى السدرة (محمد) ما يغشى (من التجلي الذاتي، من أنوار الذات)، استُغرق في اللحظة ديك فلم يكن مشغولاً بالماضي ولا بالمستقبل، ما انشغل بمكة فيها شنو، ولا خاف من المستقبل اللي هو مقبل عليه في المكان الموحش المجهول، وإنما من استغراق الشهود الذاتي لِه عاش في اللحظة الكان فيها، فكان وحدة زمانية في وحدة مكانية في وحدة ذاتية فرأى الله، لأن الله لا يحويه الزمان ولا المكان .. فحيث يكون الإنسان مقيدًا بالزمان والمكان، فهو في مراتب دون مرتبة شهود ذات الله .. وإذا تخلص من ربقة، من سيطرة، الزمان والمكان، أصبح حرًا الحرية المطلقة ويرى الحر حرية مطلقة .. أصبح وحدة ويرى الواحد ..

والحقيقة أنُّ المسألة دي يعني نحن عندنا منها تجارب في الحياة المعاشة .. برضو بنضرب بِهُ مثل ليقرب للناس .. إذا كنت أنت، مثلاً، من هواة الكُرة، مثلا .. لعبة الكُرة .. ومشيت في إستاد لتشهد كرة القدم وكانت من أتيام في القمة وكانوا في لاعبين مبدعين جدًا .. أنت بتجلس وبمر الزمن عليك بدون ما تشعر .. لأنك بتكون مشدود لمشاهدة اللعبة الممتعة الإنت شايفها والفن الراقي الرفيع البيبدو من اللاعبين المجودين .. المسألة دي برضها الناس البيمشوا السينما ممكن أن يكون عندهم مشهد منها .. إذا كنت أنت مشيت لفيلم سينمائي جيد جدًا، إنت ما بتكون مشغول بالماضي ولا بالمستقبل في لحظة ما الشاشة بتفر عليك الممثلين المجودين الإنت بيستغرقك فنهن، لتكون مستغرق في اللحظة الحاضرة .. وحتى تمر الساعتين وإنت ما تكون شعرت بيهن، لأنك عائش في اللحظة الإنت فيها من شدة انجذابك للمشهد الأمامك ..

وعندما ظهرت الأنوار الذاتية للنبي استُغرق بهذه الصورة حتى خرج من الزمان والمكان فكان في اللحظة اللي هو فيها .. واللحظة دي تدق حتى تكاد تكون جزء من بليون جزء من الثانية، حتى تكاد تكون لا زمن .. ودا ما قال عنه: «ما زاغ البصر وما طغى»، ما تحرك الفكر بين الماضي ولا المستقبل ..

في الحقيقة، الدين يجيء يهذبنا في الناحية دي، في أننا نعيش في اللحظة الحاضرة .. ويجيء ليوكد لِنا المعنى دا، عشان ما ننشغل .. نحن مشدودين للماضي مشدودين للمستقبل ودائمًا عائشين في الماضي والمستقبل وما بنعيش في اللحظة الحاضرة .. لأننا زي خائفين .. خائفين من المستقبل يجيب لِنا شنو .. يجيء القرآن ليطمئنا على الناحية دي، ناحية الخوف، يقول لِنا: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها .. إن ذلك على الله يسير، لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم .. والله لا يحب كل مختال فخور» .. فإذا كان الأمر فُرغ منه، يبقى كأنُّ بيقول لِنا، من الخطأ أن تهتموا بالماضي وبالمستقبل، لأنُّ الماضي، على قربه، ما بتقدروا ترجعوه .. أبو العلاء يقول: أمس الذي مر على قربه يعجز أهل الأرض عن رده .. الماضي ما بتقدر ترجعه والمستقبل لمن يجيء ما بتغيير فيه شيء، يبقى اشتغالك به خطأ ..

كأنُّ القرآن عائز يوكد لِنا الخلق دا عشان نقدر أن نعيش في اللحظة الحاضرة .. والحقيقة الصلاة كلها وظيفتها هي دي .. الصلاة موضع الصلة منها هو النقطة الإنت بتكون حاضر فيها .. معروف طبعا عندك أنُّ الصلاة بلا حضور باطلة .. الحضور إنما هو المعيشة في اللحظة الحاضرة .. والصلاة نفسها منهاج ليزيد تنميتنا لمعيشتنا في اللحظة الحاضرة ..

نحن بالمران الطويل وبالرياضة وبالحيل وبالزهد في الرغائب والزهد في التوسع في الدنيا بنخلي آمالنا قصيرة ومجالنا في جولان فكرنا قريب، عشان لمن نقول «الله اكبر» في تكبيرة الإحرام نخلي الأكوان كلها وراءنا، وننشغل بمن هو أكبر كبير .. بالصورة دي نوشك أن نحضر في اللحظة الحاضرة ..

الصلاة الصلة أو روح الصلاة في معراجك ياها دي، اللحظة البتحضرها .. بعدين بالمران الطويل وبالحيل الطويلة وبالصيام وبالقربات كلها والطاعات كلها نحن ننمي اللحظة دي .. اللحظة البنكون فيها حاضرين، ما مشدودين للماضي ولا مشدودين للمستقبل البيكون فيها جولان بندول فكرنا فيها ثابت في خط الاستقامة، «أهدنا السراط المستقيم» .. كل الحيل في العبادة اللي هي دي .. هو دا الفكر .. الفكر هو استقامة العقل على غير رغبة ولا رهبة .. العقل المتخلص من الرغبة، هو دا الفكر، الباقي ما فكر .. الباقي وساوس وهلاويس وخواطر .. والعُبّاد كلهن محاولتهن أن يتخلصوا من الخواطر دي ليثبتوا في الخط دا، البتتصفى فيه الخواطر حتى تقيف ..

الشاهد أنُّ كرامة الإسلام للفكر ما عندها شبيه بالمرة .. ومن أجل دا، من أجل أنُّ وكت الفكر جاء ووكت استحصاد العقل البشري وقوته واستقامته جاء، ومن أجل دا ختمت النبوة لنتلقى عن الله، بلا واسطة، العلم اللدني .. فالعلم اللدني بيحتاج إلى مران طويل .. وهو زي ثمرة من ثمرات العبودية، ولذلك لمن تكلم عن الخضر، في سياحة موسى وغلامه بحثًا عن الخضر، قال: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما» .. فالعبودية هي المقام الما فوقه مقام .. المقامات كلها مراتب ينزلها العابد الساير نحو العبودية ..

العبودية عندها بداية وما عندها نهاية .. العبودية سرمدية زي الربوبية يمشن مع بعض ما بيتناهن .. الربوبية لا تتناهى، مطلقة، والعبودية لا تتناهى، مطلقة .. هي سير موازي للربوبية .. العبودية، تصحيح حالك من رضاك بالرب ..