إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة الخامسة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم
«إنا أنزلناه في ليلة القدر .. وما أدراك ما ليلة القدر! ليلة القدر خير من ألف شهر .. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر .. سلام هي حتى مطلع الفجر» .. صدق الله العظيم

ثم إنا بعد التبرك بهذه السورة العظيمة نواصل حديثنا في تبسيط الدعوة الإسلامية الجديدة .. وهذا هو حديثنا الخامس .. في حديثنا الرابع وقفنا عند حجاب اللغة عن القرآن .. وقلنا أنُّ اللغة أواني تصب فيها المعاني حسب ممارسة السامع وحسب ممارسة المتكلم ..

استعمال اللغة يكون متقن وجيد ودقيق كلما كان المتكلم على مستوى كبير من العلم .. حتى أن القرآن، لأنه صادر من الله، مستعملة فيه اللغة كأقصى وأعلى وأرقى ما يمكن أن تستعمل اللغة العربية في حمل معاني العلم .. العلم مفرد في اللغة العربية كأحكم وأتم وأبلغ ما يكون في القرآن ..

السامع للقرآن، أيضًا، يحتاج لأن يفهم من الأواني المعاني بقدر ممارسته .. بقدر الممارسة تفهم .. وإذا اعتمدت على اللغة وحدها، فإنك تكون محجوب تمامًا .. وقد تصرفك اللغة عن المعنى .. ودا سقنا لِهُ عبارة بسيطة هي مسألة كلمة «جمل» .. لا يمكن أن تحمل لِك معنى إذا كنت أصلك ما شفت جمل .. وهي تحمل للطفل في شوارع الخرطوم يجوز معنى شاف فيه أنُّ الجمل بيحمل حطب وماشي في الشوارع .. المعنى دا يختلف اختلاف كبير جدًا عن ما تحمله كلمة «جمل» من معنى لطفل زيه في بادية الكبابيش، مثلاً .. فالموضوع دا ما بيحتاج لإطاله .. لكن لأنُّ نحن شايفين أنُّ ناس كتيرين مجهودهن في مسألة فهم القرآن قائم على اللغة، بل ناس كتيرين بيفتكروا أنُّ البيعرف اللغة العربية يعرف القرآن وانُّ يقوم في أخلادهن أنُّ تفسير الأوائل للقرآن هو القرآن، دا طبعًا خطأ كبير جدًا .. فالحاجة النحن عايزين نلفت لِها النظر أنُّ، اللغة العربية إشارات للمعاني، والمعاني تؤخذ من الله .. معاني القرآن تؤخذ من الله بالممارسة في العبادة .. ودا هو نفس المعني اللي يجيء بِهُ القرآن: «واتقوا الله ويعلمكم الله» ..

التقوى هي الطاعة، العمل بالطاعات وترك المخالفات .. وتبتدئ التقوى بالحلال البين والحرام البين، وتجيء للأمور المشتبهات، اللي قال عنها الحديث النبوي: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس .. ومن اتق الشبهات، فقد استبرأ لدينه ولعرضه» .. وبين الحلال البين والحرام البين يجيء خط الاستقامة .. وتكلمنا عنه في: «اهدنا السرط المستقيم» .. ونتكلم عنه في حديث النبي، أنُّ: «شيبتني هود وأخواتها» .. قالوا، العارفون، إنما شيبته، في هود: «استقم كما أمرت» .. فلصعوبة الاستقامة، لأنها الخط الفي الوسط لا يميل يمنى ولا يسرى، لصعوبة هذا الأمر، النبي قال، التكليف دا شيبه، لعلمه بعظم المسؤولية .. الاستقامة هي التقوى .. وتجنب الحرام وإتيان الحلال، تجنب المنهي عنه وإتيان المأمور بِهُ، تقوى .. دي في القاعدة وديك في القمة ..

والتقوى تتفاوت .. وبحسب تفاوت التقوى يتفاوت العلم، «واتقوا الله ويعلمكم الله» .. المتقي في بداية التقوى، في ترك المنهي عنه وإتيان المأمور بِهُ، دا عنده مستوى من العلم .. ثم يتفاوت العلم لغاية ما يجيء في دقائق المعارف العالية جدًا، لمن تكون التقوى هي الاستقامة التي لا تميل يمنى ولا يسرى .. ودي ما قال عنها النبي أنها، شيبته، «استقم كما أمرت» ..

وكون معارف القرآن بتؤخذ من الله، هي واردة في النص، ما محتاجة لأن نكون نحن أصحاب تأويل للموضوع دا .. يجيء القرآن يقول لنبينا: «لا تحرك به لسانك لتعجل به .. إن علينا جمعه وقرآنه .. فإذا قرأناه، فاتبع قرآنه .. ثم إن علينا بيانه» .. وما يكون على الله بيانه، لا يبتدئ ولا ينتهي، إنما هو سرمدي، بيان مستمر، «ثم أن علينا بيانه» .. وهناك، برضو: «ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علما» .. ودا ما كان عليه النبي، ولا يزال عليه .. كل لحظة جديدة هو يرقى مرقى جديد، ويزيد علم جديد .. وأمر القرآن، معاني القرآن نهايتها عند الله .. وهي مضمار السير لي الله، من بدايات الخليقة، قبل أن ينزل القرآن في الأرض وإلى نهاية النهايات .. وليس هناك نهايات لأنُّ السير لي الله سرمدي .. لمن يقولوا: «إن إلى ربك الرجعى»؛ « إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»، كل العبارات دي توري أنُّ ما في نهاية للسير .. السير السرمدي دا كله في مضمار القرآن ..

كلما عقلنا نحن عن الله، نعقل عنه من القرآن .. ودا معاني القرآن البسيطة دي، هي بتظهر لينا في الأول كأنُّ اللغة العربية بتعطينا أياها .. اللغة العربية، في الحقيقة، تعطي بدايات القرآن، الفهم البدائي في القرآن، الفهم اللي يمكن أن تقوم عليه الشريعة .. اللغة العربية تعطينا الشريعة .. والشريعة هي المنهاج اللي بعمله تحصل التقوى .. فالشريعة توجب العمل، وفق علم الشريعة .. مثلاً: «من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم» .. من عمل بما علم، من عبد بما علم من علم الشريعة، التي لا تصلح العبادة إلا بها، علمه الله علم الحقيقة .. وكلما اتقنت السير لي الله في مراق التوحيد، كلما دقت معارفك لغاية ما تمشي لمراتب الشهود الذاتي ودي تكلمنا عنها قبل قليل ..

الشاهد أنُّ اللغة العربية حجاب عن القرآن .. والقرآن عندما استعمل اللغة العربية كأرقى ما تستعمل، انتهى من استعمالها إلى إشارات .. يعني «ألم» دي إشارات، وهي حروف .. وهي نحن بنقول أنها حروف عربية .. لكن الحروف هي اصطلاح محلي، العرب عندهن اصطلاح لحروفهن، والأفرنج عندهن اصطلاح لحروفهن على مختلف أقطارهن ومللهن .. لكن الحاجة المشتركة هي الصوت .. نحن قيدنا «أ» بما سميناه «ألف» والانجليز قيدوه بما سموه «أي»، والأمم المختلفة والملل المختلفة قيدت الصوت .. فهنا نحن عندنا «ألم»، دي حروف .. والحروف وارد عندنا أنها ما عندها معنى، الحرف معناه في غيره .. بمعنى أنُّ «ك» ما عندها معنى؛ «ت» ما عندها معنى؛ «ب» ما عندها معنى .. لكن إذا اجتمعت الحروف التلاتة تبقى «كتب»، تدينا معنى .. فالحرف معناه في غيره، دا في السور الفي القرآن استعملت الحروف الأبجدية في افتتاحياتها، كأنما بتقول، مقصودكن أمامكن، مش في القرآن، هو لسع كمان .. القرآن ما احتمل من معاني المطلق إلا ما تأذنت الحكمة بقيده لنفهم نحن، مش عشان نقف مع الفهم دا، عشان ننطلق باستمرار .. وبعد ما إنت تكمل الأواني الحملت لِك المعاني، بتجيء للإشارات .. والإشارات سهم منطلق نحو الإطلاق .. فإنت إذن ساير، بعد توقف المعاني، بعد توقف العقول، في الحقيقة، زي ما قلنا في كلامنا القبيل .. بعد رفع حجاب العقول، تجيء المعارف الوترية الما ممكن تدخل في حيز العقول ..

القرآن بعدما ضاقت العبارات بِهُ جاء للإشارات .. والعارفين عندهن أنُّ، كلمة يقولوها: «سفن العبارة ليس لها في بحر المعاني مجال، والعارف فوق ما يقول» .. «سفن العبارة، وهي الكلمات، ليس لها في بحر المعاني مجال، والعارف فوق ما يقول» .. هدي تجيء في صورة: «حم .. والكتاب المبين .. إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون .. وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم» .. وقلنا أنُّ «أم الكتاب» هي الذات .. في تناهي الأمر هي الذات .. فالقرآن، في الذات، أعلى من أن يوصف وأن تطيقه العبارة وتقصر عنه الإشارة .. لكن عند التنزل، تنزل إلى أن بقى لغة عربية ..

نحن عندنا ممارسة كتيرة في أنُّ الناس بيدفعوا في وشهنا بالمعاني من القرآن البيأخدوها من اللغة العربية ومحجوبين هم عن حقائقها .. مثلاً، «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» .. ظاهر النص، وما عليه هسع علم العلماء والفقهاء، أنُّ الأمر دا منتهي، ما فيه شيء يُستأنف من جديد .. لأن «اليوم»، الأشار ليه القرآن هنا، دا يوم مضى وانتهى .. هو يوم عرفة في حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة .. «اليوم» كان يوم جمعة نزلت فيه الآية دي .. «أكملت لكم»، «أكملت» فعل ماضي، الأمر بالإكمال انتهى يعني، حسب ما تدي اللغة العربية .. و«أتممت» فعل ماضي، والأمر منتهي، حسب ما تعطي اللغة .. «ورضيت لكم الإسلام دينا»، «رضيت» فعل ماضي .. فالأمر منتهي، ما في شيء مستأنف يجيء من جديد .. ولذلك نحن أمرنا يُرفض من علمهم من الآية دي .. أمرنا أن نقول أنُّ في فهم جديد للدين، في فهم جديد للقرآن، يرفضوه لأنُّ يكون شنو بقت بعد «اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا» .. هم مع اللغة العربية، وليهم حق .. لكن لأنُّ اللغة العربية ما بتعطي المعاني، والمعاني تؤخذ من التوحيد، نحن عندنا مجالنا، وهو المجال اليجب أن يقبلوا عليه الناس منذ اليوم ..

المعنى اليعطيه التوحيد، متعاون مع اللغة، هو أنُّ إكمال الإنزال تم .. الدين المشتمل عليه القرآن، الموجود بين دفتي المصحف، هذا الإنزال في الأرض تم .. والسماء كانت تلم بالأرض في كل حين، من لدن آدم تنزل أقساط من القرآن على مستويات الأمم ومستويات الأنبياء والرسل .. حتى يمكنك أن تقول أنُّ التوراة مرحلة من القرآن نزلت على موسى، والإنجيل مرحلة من القرآن نزلت على عيسى، والقرآن نزل على محمد .. فبإنزال القرآن على النبي تم الإنزال، وجاءت: «اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا» .. أما التبيان فلم يتم، ولم يكمل، وهو لن يتم ولن يكمل .. لأنُّ دا ما قال عنه: «ثم إن علينا بيانه» .. وقلنا بيان القرآن من عند الله سرمدي لا ينتهي، وأنُّ مجال السير إلي الله كله في مضمار معاني القرآن .. لأنُّ الله بيكلمنا وبيعلمنا من كلامه كل لحظة، كل حين: «ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء» .. علمه كله في القرآن .. القرآن هو، في الحقيقة، ذات الله .. لكن نحن لا نعلم من القرآن إلا ما يشاء لِنا هو .. وهو في كل لحظة يشاء لِنا أن نعلم علم جديد .. فإذن التوحيد يقول أنُّ إكمال التبيان لا يتم إطلاقا ..

ونحن قلنا أنُّ علم القرآن ما هو إلا عند الله .. «وما يعلم تأويله إلا الله (دي نهاية كدا) والراسخون في العلم يقولون آمنا به» .. فالراسخون في العلم الأنبياء والرسل والملائكة .. كل المخلوقات من العلماء هم في مرحلة أن يعلموا جزء من القرآن وأن يؤمنوا بجزء، أما الإحاطة بالقرآن فهي ممتنعة، هي عند الله .. وقلنا أنُّ النبي لا يستطيع أن يبين القرآن، لأنه ما أحاط بالقرآن .. علم الله، بالنسبة لِهُ علم النبي جهل .. ثم ما أحاط بِهُ النبي من علم القرآن لا تطيقه الأمة .. فالنبي علم علم كبير جدًا من القرآن هي بالنسبة لعلم القرآن، لا شيء .. والنبي بيَّن للأمة شيء كبير من ما بينه .. لكن ما بينه للأمة بالنسبة لما عنده من علم هو لا شيء .. فالمسائل مراحل زي دي .. فإذن، الآية دي لا تُفهم على حقيقتها إلا بتعاون اللغة مع التوحيد .. التوحيد يعطي المعنى النحن قلناه، واللغة يعطي المعنى اللي بيحاجونا بِهُ أصحابنا من المعارضين .. وهو، في الحقيقة، مش عدم فهم بس، بل حجاب عن حقيقة كبرى جدًا، كانت اللغة فيها حجاب دون معنى القرآن ..

في برضو آية أخرى يسوقوها لِنا، وحجاب اللغة فيها ظاهر: «وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون» .. «وأنزلنا إليك الذكر، (يعني القرآن كله) لتبين للناس ما نزل إليهم» .. حسب ما تعطي اللغة، أنُّ «ما» اسم موصول، بمعنى «الذي» .. كأنه يقول: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس الذكر .. لأنه اسم عائد على الذكر، هنا .. فكأنه قال: أنزلنا ليك القرآن لتبينه للناس .. التوحيد يقول، لا .. دي نفس العبارة اللي قلناها قبيلك، أنُّ الذكر كله النبي لا يستطيع أن يبينه .. وهو ربنا قال لِهُ، في كل يوم بتزيد فيه علم: «وقل رب زدني علما». وهو لم يحط بعلم القرآن .. ثم ما أحاط بِهُ من علم، لو بثاه للناس، لشق عليهم .. وهو مأمور أن يخاطب الناس على قدر عقولهم .. وقال: «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم» .. وجائي في القرآن: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» .. فإذن، الآية دي، برضو، تُفهم بالتوحيد واللغة، الاتنين متعاونات مع بعض .. لأنُّ اللغة ما عبث، لكن البيقتصر على أن يفهم معناه من اللغة، بيكون مصروف عن حقيقة القرآن ومحجوب عنها .. اللغة والتوحيد يقولوا، أنُّ معنى الآية دي: «وأنزلنا إليك الذكر (القرآن كله، أصوله وفروعه، مكية ومدنية)، لتبين للناس ما نزل إليهم» .. لتنبين للناس القدر من القرآن، الاتنزل من الأصول السامقة العالية الكبيرة لمستوى الناس ليطيقوه .. تبين ليهم دا، ما تطيقه عقولهن وتحتاجه حياتهن في حل مشاكلهن .. ودا ما هو مُنصب عليه التبيين ..