إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة السابعة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم
«إنا أنزلناه في ليلة القدر .. وما أدراك ما ليلة القدر! ليلة القدر خير من ألف شهر .. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر .. سلام هي حتى مطلع الفجر» .. صدق الله العظيم

وبعد، فهذا شريطنا السابع .. ولقد ختمنا شريطنا السادس بختام الحديث عن حجاب اللغة .. وكيف أنّ اللغة العربية صارفة عن حقائق معاني القرآن، وأنُّ معاني القرآن لا تؤخذ إلا من الله بالتوحيد، بتجويد التوحيد .. ثم تكون الكلمات إشارات .. تكون الكلمات أوعية تحمل معاني جاهزة بالممارسة في التوحيد، وفي ثقافة العصر .. والقاعدة: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد!» .. التوحيد وثقافة العصر هما السلاحان الوحيدان لتحقيق المعرفة بمعاني وعلوم القرآن .. اللغة تتعاون مع التوحيد لأنها هي أيضًا من ثقافة العصر .. بهذا ختمنا شريطنا السادس، ووعدنا بأننا قد نعود إلى الحديث عن حجاب اللغة إذا رأينا أنّ هناك ضرورة للعودة ..

والأمر في حقيقته واضح .. ولكن لأنّ الناس درجوا على الانصراف إلى الإهتمام باللغة إلى الحدود التي عطلوا بها العمل، أصبح من الجائز أنُّ الأمر يحتاج لتوكيد ولإلحاح من طرفنا .. فإذا بدا لِنا هذا الرأي، بخاصة من الاخوان الذين يستمعون لأشرطتنا هذه، قد نعود لحجاب اللغة مرة تانية ..

موضوعنا في الشريط السابع سيتجه إلى أمرين هامين في الدعوة إلى بعث الإسلام: القرآن، وحياة النبي .. القرآن هو الحقيقة الأزلية كلها، مقيدها و مطلقها، الخلق والحق .. الخلق والخالق كله اشتمل عليه القرآن، وما غادر منه شيء .. وحياة النبى هي مفتاح القرآن .. لأنُّ النبي كان تجسيد للقرآن .. وبالسير في تقليده، في السير خلفه، تنفتح المعاني، معاني القرآن ..

وكلامنا عن التوحيد اللي بِهُ يكون الأخذ عن الله، التوحيد بيعنى أنُّ الإنسان بيبتدئ بالسير خلف النبي لأنُّ النبي هو، هو الباب .. ودا السر في أنه رُشح في الشهادة المثناة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله .. و«محمد رسول الله» ليست شهادة توحيد، وإنما هي شهادة تثنية .. هي شهادة إقرار بوحدانية الله و برسالة محمد .. وهي تجب مرة واحدة في العمر، ويجب بها الاتباع .. قولك «محمد رسول الله»، توجب إتباع محمد، في ثقة وفي تصديق وفي محبة .. وأما «لا إله إلا الله»، فهي شهادة التوحيد: «فاعلم أَنه لا إله إلا اللَّه واستغفر لذنبك» ..

والأمر في القرآن مفتاحه المثاني .. أمر هام جدًا في فهم القرآن أن نستيقن وندرك المثاني .. والأمر في حياة النبي أيضًا مفتاحه المثاني .. فإن حياة النبي فيها ثنائية حجبت عنها .. ثنائيتها القريبة منها، معناها القريب مننا حجبنا عن معناها البعيد .. والقرآن معانيه القريبة مننا حجبتنا عن معانيه البعيدة .. ودا في الحقيقة في حجاب اللغة، فيما يخص القرآن، أوردنا منه طرف عندما قلنا أنُّ القرآن يماشي أوهام الحواس، ويماشي أوهام العقول .. وفي حقيقته بنى شريعته على هذه الظاهرة .. لأنُّ الطريق إلى المعرفة، في أول السلم، الحواس .. والحواس تعطي معطيات الثنائية ..

الحواس نفسها ثنائية، عينين، أُذنين، إيدين، رِجلين .. كأنُّ الحواس والجوارح الثنائية فيها مستمرة .. والإنسان كله مقسوم بين اتنين .. الإنسان في داخله وفي خارجه الثنائية موجودة زي ما هي في ظاهره، الميامن والمياسر، وقوة الميامن غير قوة المياسر .. كذلك هو في داخله روح ونفس .. و ديل الاتنين ضماهن الجسد .. لكنهن موجودتين بهذه الصورة .. والشخصية اللي تمثل الفرد المعين هي مزج بين الثنائية دي تُخرج الثالوث .. الإنسان كأنُّ فيه رجل وامرأة، فى الداخل .. وبين الرجل والمرأة، بلقاء الرجل والمرأة تجيء الشخصية اللي هي بتميز كل فرد مننا .. زى ما تجيء الذرية من لقاء الذكر بالأُنثى، بين الزوج والزوجة في خارج البنية البشرية ..

مسألة الثنائية هي مسألة أساسية في إدراكنا نحن .. عقولنا تدرك بالثنائية .. ومن أجل دا ربنا خلق الوجود، بعد الوحدة تنزل إلى الثنائية .. وتجيء: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء» .. مرتبة الثنائية هي الأصل التاني بعد مرتبة الوحدة، لأنُّ الأصول اللي بندرك بها نحن اتنين برضو .. بأصلين نحن ندرك، بعقولنا وبقلوبنا .. عقولنا أبوابها على العالم الخارجي المدرك الحواس .. والحواس ثنائية، فهي تعطي الثنائية .. تعطي معنيين، معنيين لكل شيء نراه، كل شيء نسمعه، كل شيء نشمه، كل شيء نذوقه .. الثنائية في الحواس موجودة .. فهي تعطي للعقل معطيات ثنائية .. على العقل أن يغربل .. وعلى أحسن حالاته وفي غربلته، في أحسن حالاته يدرك برضو بالثنائية .. العقل ثنائي .. الدماغ نفسه مقسوم إلى قسم شمالي وقسم جنوبي في الرأس، في الجمجمة .. الدماغ مقسوم أيضًا، وهو ثنائي أيضًا .. لكن فيه المراكز البتتلقى عن الحواس .. والعقول الراقية تحاول أن تغربل .. يعني تصفي أوهام الحواس بقدر الإمكان .. دائمًا العقول واقعة فريسة لأوهام الحواس .. فالعقول أيضًا ثنائية وهي تدرك المعاني ثنائية .. والقلوب وحدة وتدرك المعاني وحدة .. وعند الصوفية سُمي الإدراك الشفعي، دا إدراك العقول، والإدراك الوتري، دا إدراك القلوب ..

وإدراك القلوب ليس علمًا وإنما هو ثمرة العلم، حياة .. الإدراك الوتري حياة، والإدراك الشفعي علم .. والعلم وسيلة إلى الحياة .. بمعنى أنُّ العلم بيحررنا من الخوف .. نحن ما بنخاف إلا لأننا بنجهل، والبنعلمه ما بنخاف منه .. وقل: «لو كنت أعلم الغيب، لاستكثرت من الخير وما مسني السوء» .. لو كنت أعلم الغيب لتحررت من الخوف، دا بإيجاز .. قل: «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء» .. فنحن بإدراكات عقولنا ندرك الإدراك الشفعي، اللي هو مرحلة مرتبة الحق .. والحق شفعي لأنُّ ضده الباطل .. والحقيقة، في المرتبة دي لولا الأضاد، ما كان يكون في فهم .. العقول لا كانت تدرك حاجة .. لولا الحلو، لا نعرف المر .. لولا البارد، لا نعرف الحار .. لولا الظلام، لا نعرف النور .. ودي الحكمة اللي جاءت: «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» .. من أجل أن تفهموا، من أجل أن تعقلوا خلقنا زوجين ..

الأشياء خُلقت زوجية لإدراك العقل لِها .. واستعمل «لعلكم تذكرون»، لنقطة معروفة عند العارفين، هي أنُّ نحن ما بنتعلم حاجة، نحن بنتذكر حاجة .. كل الوجود، الوجود المقيد والمطلق، مركوز فينا .. لأنُّ فينا الحقيقة الأزلية، فينا الله في إطلاقه .. «وما وسعني أرضي ولا سمائي وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن»، معناها وسعه معرفة .. هنا، دي نحن نسيناها، الحقائق الفينا نسيناها .. ولذلك جاء القرآن، جاءت العبادة وجاءت الشريعة لنتذكر .. «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» .. ولذلك هنا قال: «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» ..

وعن كون الحقيقة مركوزة فينا جاء قوله تعالى: «وإذ قال ربك للملائكة، إني جاعل في الأَرض خليفة .. قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك! قال: إني أعلم ما لا تعلمون .. وعلم آدم الأَسماء كلها، ثُم عرضهم على الملائكة، فقال: أَنبئوني بأَسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم .. قال: يا آدم، أنبئهم بأسمائهم .. فلما أنبأهم بأسمائهم، قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأَرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون» .. هنا علّم آدم الأسماء كلها .. هي أسماء الله .. والعلم في مرتبة الإسم يصاقب الذات .. وحقيقة، نهاية العلم .. لأنُّ الذات لا تُعلم، وإنما تُشاهد .. في مرتبة الذات ليس هنالك علم، وإنما هنالك شهود .. والشهود أكبر من العلم .. ومن أجل ذلك لم يكن للملائكة في هذا العلم قدم .. علم الأسماء، مما يقف عند عتبة الذات، هو علم أرفع من علم الملائكة .. لأنّ الملائكة لا ذات لهم .. فلاحظ لهم من الذات .. ولذلك الخليفة مجرد أن قال: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأَرض خليفة»، ظهر أنه أكبر من الخلائق كلها .. لأنُّ الخلائق كلها مسخرة له .. وفي الآية التي سبقت قال: «هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعًا، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات .. وهو بكل شييء عليم» .. خلق لكم ما في الأرض جميعًا، من غير استثناء .. وكل ما في الأرض موجود في كل العوالم .. فإن الوجود كله في كل جزء منه .. فكأنّ العوالم كلها مخلوقة للإنسان، والإنسان مخلوق لله، كما سبق أن تحدثنا ..

فى حديث قدسي قال: «جعلت العوالم مطية للإنسان، وجعلت الإنسان مطية لي» .. «جعلت العوالم مطية للإنسان، وجعلت الإنسان مطية لي»، بمعنى أنه هو الوحيد الذي يعرفني كما ينبغي أن أُعرف .. من هنا جاء سماه «إنى جاعل فى الأرض خليفة»، ورشحه للخلافة بالعلم .. «وعلم آدم الأسماء كلها» .. وليست الأسماء كما يُظن وتجد فى بعض التفاسير، أنه علمه أسماء المسميات: القصعة، والقصيعة، إلى آخر ما عندهم .. علمه أسماؤه، وهي أشرف الأسماء .. وهذا العلم هو أشرف العلوم .. وأعلى العلوم علم الأسماء، المعرفة بالله فى مرتبة الإسم .. المعرفة بالله تقع في تلاتة مراتب، العلم بالله في تلاتة مراتب .. المرتبة الأولى العلم بالحكمة في الفعل، فعل الله؛ ثم الصفة؛ ثم الإسم .. وليس هناك مجال للعلم أكبر من علم الأسماء .. ثم يكون الإستغراق في الشهود، وتكون معيشة .. تكون حياة، لا علم ..

الحياة وسيلتها العلم، الحياة الكاملة التامة المحيطة الخصبة العريضة .. ودي لا حظ للملائكة فيها، كما قلنا .. دا من دلائل أنُّ الحقيقة مركوزة فينا .. ويجيء الحديث عن نسيانها .. في بداية الأمر يبتدئ بالصورة دي: «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين .. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون!» .. دي بداية النسيان .. عندما قلنا بلى، قبل أن ينزل علينا حجاب الجسد «ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا»، كنا نرى الحقيقة كلها، ثم انحجبنا عنها بغشاء الجسد، وبمطالب الجسد، وبالتنافس والتناحر الذي يقوم حول تحصيل الرزق .. وجاء: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون» .. دي مراتب النسيان، وجاء فيه بالقول الصريح: «فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربى زدنى علما .. ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما» .. هذا هو الطور كله في مراحل النسيان، ولذلك نحن لا نتعلم أمرًا جديدًا، وإنما نتذكر ما نسينا في رحلتنا في الزمان والمكان، تلك الرحلة الطويلة، السحيقة، من مقام أحسن تقويم إلى مقام أسفل سافلين، «لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين» .. في هذه الرحلة الطويلة نسينا، ونحن الآن نرجع، نقص آثارنا راجعين إلى حيث كنا، وذلك برفع الحجب، وبتذكر ما نسينا، وجاء القرآن ليعيننا: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» .. فنحن الآن في مرحلة من مراحل فهم القرآن لدرجة لم يسبق لها مثيل ..