إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة الثالثة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الثاني

والأحاديث في الباب دا تمشي في مجال التبشير بأمة الإخوان على تمييز لِها من أمة الأصحاب .. دي بشارة بمجيء الأمة المسلمة .. وهم إنما قال عنهم أنه، «إخوانه» في الوكت البيقول عن أصحابه الذين آمنوا بِه ونصروه وعزروه ونشروا معه الدعوة، يقول: «أنتم أصحابي» .. ودا يمشي في باب ما قلناه من أنُّ هو كان المسلم الوحيد بين أمة المؤمنين .. النبي كان المسلم الوحيد بين أمة المؤمنين .. أبو بكر كان أعلى الأمة المؤمنة .. والنبي الفرقة بينه وبين أبو بكر ما بتنقاس، بعيدة .. فكان هو المسلم، بمعنى الإسلام الأخير، وكانوا هم المؤمنين .. ونحن قلنا بيُطلق عليهن، على أمة المؤمنين، أمة «المسلمين» زي ما هو شائع عننا اليوم .. لكن من الإسلام الأول وليس من الإسلام الأخير .. من الإسلام الأخير لم يكن مسلمًا غير النبي ..

الأمة المؤمنة قامت على الرسالة الأولى، أو على الشريعة .. الأمة المسلمة ستقوم على الرسالة الثانية، على السنة .. ودا يستقيم مع موعود البشارة: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء .. قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي» .. الأمر هو بهذه الصورة، أنُّ نبينا كان عنده تكليف خاص بِهُ، تكليف في خاصة نفسه يعمل بِهُ .. الأمة ما مفروض عليها التكليف دا وإن كانت مندوبة لِهُ .. الأمة المؤمنة، ما كان مفروض عليها تكليف النبي .. ما كانت مفروضة عليها السنة، مفروضة عليها الشريعة ..

والشريعة تنزل من السنة، فيما حكاه الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم» .. وخاطبهن على قدر عقولهن بنزل ليهن قرآن المدينة من قرآن مكة .. قرآن الفروع نزل من قرآن الأصول .. ونزلت ليهن الأحاديث في مستوى ما يطيقون .. يعني، مثلاً، من القرآن النزل ليهم، ودا قرآن في العقيدة مش قرآن في الشريعة .. القرآن في الشريعة ضربنا بِهُ أمثلة .. لكن: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون» .. قالوا: أينا يستطيع أن يتقي الله حق تقاته؟! فنزل ليهن: «فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم .. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» .. النزول دا جعل الفرقة بين السنة وبين الشريعة كبيرة ..

ونبينا أحمدي ومحمدي .. اسمه أحمد واسمه محمد .. الحقيقة هو نبوته أحمدية ورسالته محمدية .. نبينا نبوته أحمدية ورسالته محمدية .. كأنُّ عنده وجه مما يلي الله ووجه مما يلي الخلق .. كأنُّ هو بين الحق وبين الخلق .. فوجهه الذي يلي الحق تعامله معه على السنة، ودي النبوة .. الوجه البيَلي الخلق تعامله معه على الرسالة، على الشريعة، ودي المحمدية .. النبوة أحمدية والرسالة محمدية .. والمحمدية نزلت من الأحمدية مشوار طويل لتنزل لحاجة الناس في القرن السابع ..

ونحن عندما نقول أنُّ الإسلام بيعود ببعث السنة، معنى الكلام دا أنُّ المجتمع البشري يرتفع ارتفاعة كبيرة جدًا يكون قريب من أن يعقل عن نبوة النبي ويستطيع أن يشرع لِهُ في مستوى قريب جدًا من سُنة النبي .. بِهُ تنحل مشكلته .. يبقى نبوة النبي تبقى شريعة جماعية بعد أن لم تكن في القرن السابع إلا شريعة فردية خاصة بالنبي .. المجتمع ما مكلف بِها، وإنما ندب لِها .. ولعل من الباب دا يجيء وهم العلماء في أنُّ «دي خاصية من خواص النبي نحن ما مطالبين بها» .. نحن عندما نجيء لبعث الدين، مؤكد أننا مطالبين بها .. لكن الأمة في السلف، أمة المؤمنين، مندوبة لِها وما مكلفة بها ..

ورد في كلامنا أنُّ نحن بنستهدف القرآن المكي والقرآن المدني بالتعامل بين القرآنين، تعامل مع القرآنين .. القرآن المكي كان منسوخ في عهد البعث الأول والقرآن المدني ناسخ .. القرآن المدني محكم .. هو صاحب الوكت .. بخاصة في الأبواب التلاتة .. في السياسة، وفي المال، وفي الاجتماع .. نحن اتجاهنا إلى أن ننسخ القرآن الكان ناسخ قبيل وكان محكم، ونحكم القرآن الكان منسوخ .. لأنُّ وكته قد جاء .. وأصبحت مشكلة المجتمع الكوكبي الحاضر لا تحل إلا على أصول القرآن ..

لسائل أن يسأل، لقد التحق النبي بالرفيق الأعلى وترك القرآن المنسوخ منسوخ والقرآن الناسخ ناسخ .. فبأي سلطة ومن الذي أعطانا السلطة التي تنسخ ما كان محكم وتحكم ما كان منسوخ؟ هل هي نبوة؟ هل هو وحي؟ لسائل أن يسأل هذا السؤال ويكون فيه محقًا .. والأمر على خلاف ذلك .. فإنه لا نبوة بعد النبي .. النبوة قد ختمت بصريح نص ..

نعم فإن النبوة قد ختمت .. ختمت بصريح نص، لا لبس فيه ولا غموض: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين» .. وما ختمت النبوة لشر أريد بمن في الأرض، بل لخير .. ذلك أن البشرية قد أنى لها أن تتلقى عن الله عن طريق العقول .. وهذه كرامة كبيرة لم يكن الوحي عن طريق الملك إلا إرهاصًا وتمهيدًا ليومها .. يجيء القول: «وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء .. إنه علي حكيم» ..

ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا، هذه تعني الوحي الملائكي الذي يتصل بالأنبياء والرسل فيوحي إليهم أمر الله ويأمرهم بتبليغ ما يقع في حيز التبليغ .. أو من وراء حجاب، هذا الحجاب هو العقل .. أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، هذا الرسول هو رسول البشر، يرسله الله إلى الناس فيكلمهم بوحي الله .. يعلمهم أمر الله .. يعلمهم شرع الله ..

«وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء .. إنه علي حكيم» .. والقاعدة أنُّ كل ما في الآفاق موجود في النفس البشرية والآية: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد» .. كل ما في الآفاق موجود فينا .. والعالم هو الكون الأصغر .. على سعته هو الكون الأصغر والإنسان هو الكون الأكبر .. والكبر هنا ما هو كبر مساحة، بطبيعة الحال، وإنما هو كبر قيمة .. ربنا خلق الأكوان للإنسان وخلق الإنسان له تبارك وتعالى ..

وكل ما في الأكوان وسيلتنا لنترقى ونعرف .. لذلك جاء الكلام: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم» .. فمرحلة المعرفة والنظر في الآفاق مرحلة معرفة بحقائق النفس ودقائقها .. والوحي الملائكي ملكه دائما وعلى كل الرسل ملكه جبريل .. وفي كل واحد مننا جبريله، أو عقله .. فعندما اتصل جبريل بمحمد بالوحي إنما كانت خطوة لترقية محمد أو لتقوية جبريل محمد في محمد .. لتقوية عقل محمد .. حتى يستغني عن جبريل الذي في الآفاق .. «سنريهم آياتنا في الآفاق (دا جبريل) وفي أنفسهم (عقل النبي)» ..

وعندما ترقى النبي بطريق الوحي إلى أن جاء وكت الإسراء والمعراج كان جبريل اللي هو العقل في الخارج .. اللي هو آية الآفاق فيما يخص محمد .. كان جبريل دليله .. والصورة واردة في حديث الإسراء وحديث المعراج .. كان جبريل دليله إلى سدرة المنتهى .. عند سدرة المنتهى استقل محمد بجبريله، بعقله، فسار مراحل نحو الشهود الذاتي ثم رُفع عنه حجاب العقل فكان الشهود بعين القلب ..

وفي تلك اللحظة لم يكن منقسمًا كما هي حالة العقول وإنما كان وتريًا كما هي حالة القلوب عندما تقوى وتستحصد وتُرفع الحجب من أمامها .. ولذلك ورد القول عن اللحظة التي رأى فيها النبي ربه: «إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى» .. وورد حديث النبي في هذه اللحظة، فقال: «ليلة عرج بي انتسخ بصري في بصيرتي فرأيت الله» .. انتسخ بصري في بصيرتي .. لم يعد مقسومًا له بصر وبصيرة وإنما أصبح وحدة .. وعن الوحدة حكى القرآن بعبارة «ما زاغ البصر وما طغى» .. ما زاغ البصر (لم يكن النبي مشغولاً بالماضي) وما طغى (ولم يكن مشغولاً بالمستقبل) .. لم يتوزعه الزمن بين ماضي ومستقبل وإنما كان وحدة زمنية في وحدة مكانية في وحدة ذاتية .. ولذلك رأى الذات التي لا يحويها الزمان ولا المكان ..

أو من وراء حجاب، يجيئنا هنا من وراء العقول .. ودي الصورة اللي تلقى بِها النبي، عندما عرج وعندما توقف جبريل في سدرة المنتهى إيذانا بأن يقف الفكر في محمد .. لأنُّ الفكر شفعي .. الفكر حركة العقل بين طرفين .. بين نقيضين .. والعقل لا يدرك إلا بالشفعية .. ويقول ربنا في ذلك: «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» .. من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون .. لأنُّ العقل لا يدرك إلا بالثنائية .. العقل لا يدرك إلا بالمقارنة .. لولا الأبيض لا نعرف الأسود .. لولا الحلو لا نعرف المر .. لولا الحار لا نعرف البارد .. لولا النور لا نعرف الظلام .. العقل يدرك بالضدية .. «وبضدها تتميز الأشياء»، كما قيل .. والعقل مرحلة شفعية .. ولذلك عندما يسير المجود في المراقي نحو الوحدة المطلقة، نحو الذات، تجيئه لحظات يتوقف الفكر عن الحركة .. يكون مستغرق في اللحظة .. ودي سُميت بلحظة التوقف الفكري، أو رفع حجاب الفكر ..

فعندما سار النبي بعد سدرة المنتهى وتخلف جبريل، تخلف جبريل كان إيذان بقرب تخلف جبريله هو في إهابه .. تخلف عقله عن أن يكون أمام قلبه، فيحجبه عن رؤية الوتر .. عندما توقف الفكرعند النبي، جاءت الوحدة اللي قال عنها: «ليلة عرج بي انتسخ بصري في بصيرتي فرأيت الله» .. وقال عنها القرآن، وهذا الحديث مأخوذ من القرآن: «إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى» .. والسدرة هنا محمد نفسه .. إذ يغشاه من التجلي الذاتي ما يغشاه مما استغرقه من جميع أقطاره حتى توقف الفكر من الحركة .. بقى وحدة .. وحدة زمانية في وحدة مكانية في وحدة ذاتية، فرأى الله .. دا يجيء في معنى «أو من وراء حجاب» .. وختم النبوة إيذان بقرب هذا المقام الجليل ليستقر في الأرض .. كان عند النبي في القمة، في لحظة الجمعية الكبيرة، في المعراج .. ودي في الحقيقة درجة ولاية النبي ..

النبي درجاته ثلاثة .. هو نبي وهو رسول وهو ولي .. النبوة وسط بين الطرفين .. من أعلى النبوة الولاية، ومن أسفل النبوة الرسالة .. وكأنما أعد في مدرسة النبوة ليستحصد فيقوى على حمل عبء الرسالة ليستطيع أن يخاطب الناس على قدر عقولهم .. ليستطيع أن يعايش ناس دون مستواه ببعيد .. زي ما ضربنا المثل في مسألة المعلم الذي نعده إعدادًا كبيرًا ليجيء ويُدرِّس، مثلاً، الثانوي العالي، في سنة أولى ثانوي عالي .. بعد أن يكون أعد في مرحلة جامعية كبيرة ..