إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة الثالثة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الثالث

الأنبياء يعدوا للرسالة في مدرسة النبوة وقال عنها في الحديث، ودا أوردناه قبل كدا في بعض أحاديثنا: «أدبني ربي فأحسن تأديبي (هذه هي مرحلة إعداده للنبوة) .. ثم قال: خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين» .. يأخذ العفو من الناس .. ما يعنتهم، ما يشق عليهم .. يدرجهن ويمهلهن ويرفق بِهن .. خذ العفو (ما يستطيع الناس أن يعطوه عن طواعية) وأمر بالعرف (ودا أيضا عمل من العزيمة الشديدة ومن دقة النظر ومن الصبر، يحتاج لِه الإنسان المؤدب في مدرسة النبوة) وأعرض عن الجاهلين .. دا من أعظم الأشياء ومن أكثر العزائم البيقوم بِها الرسل أولي عزم .. وأعرض عن الجاهلين .. الإعداد دا هو مدرسة النبوة ..

عندما قويت النبوة .. ودا ذكرناه نحن، كيف أنُّ القرآن بدأ في أول أمره بإنزال قرآن النبوة في سبيل التربية والترشيد والتقوية، أُرسل .. وجاء قرآن الرسالة .. وجبنا منه نماذج في أحاديثنا الماضية .. عندما تقوى النبوة وتؤدي عملها في الرسالة بالقوة المطلوبة والانضباط المطلوب تتسامى الحال عند المرسَل، عند النبي الرسول، بيدخل في مراتب ولايته .. ومراتب ولايته أكبر من مقامات الملائكة ومن مقامات في حالة نبينا ومن مقامات الرسل .. ولذلك في مقام الولاية قال: «لي ساعة مع الله لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل» .. في اللحظة دي يتلقى عن الله من وراء حجاب .. وهو حجاب العقل .. ودا في الحقيقة شأن البشرية المقبل ..

نحن قلنا أنُّ البشرية تهيأت لأن تتلقى عن النبي أكثر مما كانت بتتلقى عنه في ماضي العهد .. في القرن السابق .. أصبحت يمكن أن تكون نبوة النبي شريعتها .. نبوة النبي، الشريعة الفردية لِه اللي هي سنته، تصبح شريعة لعامة الناس .. لأنهم بعد أربعة عشر قرن بفضل الله بتطويرهن وبترقيهن وسيرهن في معترك الحياة الشاق، أصبحوا مؤهلين لأن يعقلوا عن النبي أكثر من السلف .. أصبحت نبوة النبي تنزل في الأرض ..

قلنا نحن عن النبي أنُّ هو أحمدي ومحمدي .. هو في السماء أحمد وفي الأرض محمد .. رسالته محمدية نزلت من نبوته الأحمدية مشوار طويل لتخاطب الناس على قدر عقولهن .. الأرض تهيأت اليوم بفضل الله ثم بفصل التطور الكبير اللي تكلمنا عنه برضو في حديثنا الماضي .. تهيأت الأرض لأن تلحق بأسباب السماء .. ودا إيذان بأن تنزل نبوة النبي إلى أرض الناس .. وتكون ولايته، طريق تلقيه من وراء حجاب العقل، هو السبيل للفهم عن الله في مقبل الأمة المسلمة التي نحن مبشرون بمجيئها، إن شاء الله .. والتي أُدخر لِها القرآن في أصوله .. إذن ختم النبوة كان لخير أريد بمن في الأرض، لا لشر .. وأي إنسان يحاول أن يتمحل، يقول أنُّ في وحي بعد الوحي داك وأنُّ النبوة ما ختمت، زي ما قالوا بعض الناس من الذين ادعوا المقامات، دا يكون ذاهب عنه وغافل عن الحكمة الكبيرة في ختم النبوة .. هي خير أريد بمن في الأرض ..

كيف يكون التلقي من وراء حجاب العقل؟ يكون بالرياضة المهذِّبة للعقل .. أول أمرها بُدأت بـ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» .. هذا أول الأمر .. لأنُّ ما عبد في الأرض إله هو شر من الهوى .. وفي الحقيقة ما من صنم، ما من عبادة لغير الله، إلا هي عبادة لهوى النفس أخذت صورة من الصورة .. حتى الصنم المنحوت من الحجر الأصم اللي كان يُعبد، ما كان المقصود الحجر .. وإنما هو رمز لهوى النفس .. هو رمز للإرادة البشرية المعارضة للإرادة الإلهية وتريد أن تنفذ هي وتؤخر الإرادة الإلهية وتجعلها وراءها .. العقل دائمًا عبد للهوى .. ولا يستطيع أن يتحرر من الهوى إلا برياضة طويلة ورشيدة وحكيمة ومرسومة .. ما ها اعتباط ولا ها ارتجال .. تجيء العبارة: «واتقوا الله ويعلمكم الله» .. وتجيء العبارة في الحديث النبوي: «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» ..

التقوى معناها الائتمار بالأوامر والانتهاء عند النواهي .. ودا يقتضي علم .. العلم دا أُرسل بِهُ النبي .. ودي العبارة بتاعته، من عمل بما علم .. من عمل في العبادة بما علم من الشريعة يعلمه الله الحقيقة .. وفي الحقيقة عنده حديث آخر: «إنما أنا قاسم والله يعطي» .. النبي يقول: «إنما أنا قاسم والله يعطي» .. معناها أنُّ أنا أُرسلت بالشريعة والله يعطي الحقيقة .. «إنما أنا قاسم والله يعطي .. ومن يرد به الله خيرا يفقهه في الدين .. ولاتزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يجيء أمر الله» .. دا تمام الحديث بالصورة دي .. لكن اعتبارنا نحن لـ«إنما أنا قاسم» .. دي تجيء في نفس مساق «من عمل بما علم»، وتجيء في نفس مساق «واتقوا الله ويعلمكم الله» .. لأنُّ التقوى العبادة .. والعبادة تقتضي علم .. والعلم دا هو ما يأتي به الرسل ..

الرسل يعلمونا الطريق للرجعى .. ويجب علينا أن نعمل بما علمنا وننتظر من الله التعليم .. الحقيقة الرسل ما بيعلموا غير دا .. أرسلوا ليعلموا الأمم الشرائع، ويبلغوهن أمر الله .. ويكون على الناس المبلغين أن يعملوا، والله يعلمهن .. «واتقوا الله ويعلمكم الله» .. «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا .. وإن الله لمع المحسنين» .. «يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا» .. فالمعلم الله ..

وهناك في قصة الخضر وموسى يحكي القرآن: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما» .. العلم البيجيء من لدن الله، بيجيء بلا واسطة .. والعقول واسطة .. فيبقى لمن قال: «من وراء حجاب»، يعني بعد ما يرفع الحجاب، دي مرحلة .. وقبل ما يرفع الحجاب، دي مرحلة .. العقول هي وسائلنا لله ..

بدون العقول لا نعرف الله .. بعدين، بالعقول لا نشاهد الله .. بدون العقول لا نعرف الله، عرفناه بالعقول .. والعقول حجب عنه .. في تنزلات علمة، وإرادته، وقدرته نعرفه بالعقول .. ودا نفس المعنى اللي بِهُ: «سنريهم آياتنا في الآفاق»، لأنُّ آيات الآفاق هي مظاهر أسماؤه وصفاته ..

الكون اللي قلنا هو الإنسان الأصغر .. الكون هو علم الله تجسد في المحسوسات، لأنُّ الكون إنما خلق بعلم، وبإرادة، وبقدرة .. والله لا يعلم بجارحة وإنما يعلم بذاته .. فعلمه تنزل عن ذاته .. إرادته تنزل عن علمه .. قدرته تنزل عن إرادته .. بقدرته برز الوجود .. بالوجود نعرف الله .. زي ما قيل، كل صنعة لابد لِها من صانع .. أو زي ما قال الأعرابي البسيط عندما سئل، كيف عرفت الله؟ قال: البعرة تدل على البعير .. هدا علم العقول .. دي العقول اللي هي حجاب عن الله .. تعرفه في مرتباته دي، لكن حجاب عن ذاته ..

فإذا كان جئنا لمرحلة الشهود الذاتي الذي اتفق للنبي في ليلة المعراج حين قال: «ليلة عرج بي انتسخ بصري في بصيرتي فرأيت الله»، إذا جئنا للشهود الذاتي، الحجاب يُرفع .. وهو حجاب العقل .. وقبل الشهود الذاتي، الحجاب هو جبريلنا .. هو دليلنا لأن نسير في المراقي في معرفة الله .. بالعقول استدلينا على الله وعرفنا الله ..

والعقول هي نفسها لمن تقوى، تعرف كيف ترفع حجابها عن القلب .. بمعنى أنُّ العقل يعرف حقيقة نفسه .. ودا معنى الحديث اللي قال: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» .. من عرف نفسه بما هو عليه من العجز عرف ربه بما هو عليه من القدرة .. من عرف نفسه بما هو عليه من الجهل عرف ربه بما هو عليه من العلم، وهكذا .. فيجيء الحديث: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» .. العقل الكبير يعرف نفسه ولا يدعي .. زي النابلسي يخاطب العقل بالصورة دي: «أيها العقل الذي قد حار في إدراكه لا تغالط أنت مملوك وفي تصريفه» .. فالعقل وهو صغير بيلاجج .. وهو صغير بيدعي .. وهو صغير بيطغى ويفوت حده .. لكن كلما استحصد وما قوي عرف نفسه وعرف وين يقيف ..

فعندما تنتهي الشفعية ويواجه الوترية يُرفع حجاب الفكر أو يحار الفكر فيقيف من الحركة .. يحار، تستغرقه حالة الشهود الذاتي، اللي قال عنه ربنا: «إذ يغشى السدرة ما يغشى» .. يعني إذ يغشى محمد من تجليات الذات الإلهية ما غشيه، «ما زاغ البصر وما طغى»، توقفت حركة الفكر، فلم يتحرك بين الماضي والمستقبل .. لم يكن آسف على الماضي ولا خائف من المستقبل .. فبالصورة دي توقف الفكر .. وكان الاستقامة في خط الاستواء وفي خط الاستقامة، فكانت الوترية وكان الشهود الذاتي .. وبطبيعة الحال، ما في كرامة بغير العقول ..

ولمن ربنا كرم بني آدم: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من ما خلقنا تفضيلا» .. إنما فضلهن بالعقل .. إنما هو العقل الذي جاءت به الفضيلة .. لأن الإنسان وهو مترق في المراقي ما كان عنده منزلة نزلها وبها لِهُ عند الله كرامة، إلا منزلة العقل .. وبمنزلة العقل تخطى طور الحيوانية وبرز لمقام الكرامة في مرحلة إنسانيته البلغت مستوى عليه، على هذا المستوى، يُخاطب ويُكلف ويؤمر ويُنهى ..

ويجيء برضو في الأمر دا: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا!» .. هل أتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا! يعني قد أتى على الإنسان دهر دهير وزمن سحيق ما كان فيه شيء مذكور في ملكوت الله .. ما عنده وزن، لأنه ما كان عنده عقل .. دي في مراحله اللي بدأ سيره فيها من البدايات السحيقة من أسفل سافلين: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين» .. ومن أسفل سافلين بدأت رحلته راجع لربه في مقام أحسن تقويم .. هدا مضى عليه زمن طويل جدًا، زمن سحيق جدًا .. ما كان عنده وزن ولا عنده قيمة ولا عنده اعتبار (هل أتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) .. فلما نزل منزلة العقل أصبح مذكور لأنه أصبح مكلف (مأمور ومنهي) .. هنا جاءت: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من ما خلقنا تفضيلا» ..

هنا وارد الكلام عن «بني آدم» .. وهناك وارد الكلام، في الآية اللي سقناه أخيرًا، عن «الإنسان» .. وبين الإنسان وابن آدم فرقة .. ابن آدم مشروع أنسان .. ابن آدم في مرحلته دي ربنا فضله على كثير مما خلق .. ولم يفضله على مطلق خلقه، مع أنُّ الإنسان مفضل على كل الخلائق، علويها وسفليها .. ودا سر من أسرار الدين تساق بهذه الصورة ..

لكن الشاهد في أمرنا أنُّ ختام النبوة خير أريد بمن في الأرض .. وأنُّ بعد أن كان وتم أنُّ الله كلم الناس وحيًا، وكلمهن بارسال الرسل البشريين ليهن .. كلم ربنا البشر عن طريق إرسال الرسل الملائكية .. دا ما قال عنه، «وحيا» .. وكلم الناس عن طريق إرسال الرسل البشرية .. ودا ما قال عنه، «أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم» .. أصبح الأرض، بكل الوسائل دي، مهيأة لأن تتلقى عن الله من وراء حجب العقول .. تتلقى عن الله وحجب العقول قائمة، وتتلقى عن الله وحجب العقول مرفوعة .. بفضل العقول .. بفضل الله ثم بفضل العقول ..

فلولا العقل ما عرفنا الله .. وبالعقل لا نشاهد الله .. لأنُّ، في مرحلة ذات الله، كل ما يخطر ببالك الله بخلافه .. العقول لا تعرف الله في مرتبة الذات .. من حيث ذات الله، العقول تعجز عن أن تعرفه وتحار وتتوقف .. ودا، زي ما قلنا، سمي رفع حجاب الفكر .. من حيث أسماء الله وصفاته، العقول تعرفه .. وليس هناك سبيل لمعرفته بغير العقول .. فالعقول، إذن، في جميع الحالات .. ودا ما كان من أسباب ختم النبوة .. فختم النبوة، إذن، خير كبير جدًا أريد بمن في الأرض .. وفيه تكريم للعقل بصورة لا تخطر ببال الناس .. تكريم الإسلام للعقول ما عنده شبيه في أي فلسفة ولا في أي دين ولا في أي فكر .. هي قيمة كبيرة جدًا ..

سنواصل حديثنا، إن شاء الله، في الاتجاه دا لنوري كرامة العقل في الإسلام ..