إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة الرابعة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الثاني

والرضا دا ما عنده نهاية إطلاقًا .. قال لنبينا: «ولسوف يعطيك ربك فترضى» .. «ولسوف يعطيك ربك فترضى» .. فتصحيح حالك من رضاك بالربوبية هو العبودية .. والربوبية ما بتتناهى والعبودية ما بتتناهى ..

والعبودية قالوا فيها العارفين الصوفية، أن تكون أنت بين يدي الله، تقلبك الإرادة والحكمة، كالميت يقلبه الغاسل .. «العبودية أن تكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل» .. لا تعترض عليه .. وإذا ما اعترضت عليه، أصبحت بتعيش في اللحظة الحاضرة، لأنك راض بكل تدبير يجيء .. ماك مفكر في الدقيقة المقبلة لأنُّ الدقيقة المقبلة جاهزة، ما هو لِك فيها جاهز، وما هو مصروف عنك فيها جاهز .. ولا تكون في أي حيلة من الحيل تفوتك ما هو مرصود لِك ومكتوب لِك من الأزل .. فيبقى، إذن، انشغالك بالدقيقة المقبلة، انشغال بغير الواجب، انشغال بما لا يعنيك .. والحكمة توجب عليك أن ترضى بما يكون .. وفي حديث منسوب للحسن بن علي، قال: «من وثق بحسن اختيار الله له، لم يتمن غير الحالة التي هو فيها» .. وقال واحد من العارفين في الباب دا: «إن أقواما أذهب عنهم الحزن، علمهم أن ملك مليكهم تام .. فما كان لهم فهو واصل إليهم، وما صرف عنهم فبحسن تدبيره لهم» ..

والعبودية لمن قلنا عنها هي الرضا .. وقلنا أنُّ الصلاة أكتر شيء بيسوق إلى أن تعيش إنت في اللحظة الحاضرة .. وأن تعيش في اللحظة الحاضرة علامة رضا .. قال في علة الصلاة كلها، قال، فاصبر على ما يقولون .. ربنا يقول لنبيه: «فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار، لعلك ترضى» .. سبح، هنا، صلي .. وفي الآية دي ترد الأوقات الخمسة .. العلة من دا كله، «لعلك ترضى» .. الرضا ثمرة للعقل الكبير، ثمرة للعقل المهذب بأدب الشريعة وبأدب الطريقة وبأدب الحقيقة .. ونحن تكلمنا عن الشريعة، وتكلمنا عن الطريقة في معنى أنها هي السنة، وتكلمنا عن الحقيقة .. وقلنا أنُّ النبي قال: «قولي شريعة، وعملي طريقة، وحالي حقيقة» .. يبقى مسألة كرامة العقل في الإسلام ما بتدانيها كرامة .. ولكن العقل هو العقل المروض والمهذب والمؤدب والبيعرف حدوده والبيدل على الله ويسوق إلى عتبة الذات ويرفع حجابه بقوته، بمعرفته لحقيقة نفسه .. وقلنا أنُّ حديث النبي: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، تجي من أنُّ العقل الكبير ما بيدعي، بيعرف مقامه .. فإذا تجاوز مرحلة الشفعية وجاء عند الوترية في شهود الذات يحار ويعجز ويقيف .. عندما يقيف تتقدم أداة الشهود الوتري اللي هي القلب، فيرى العابد الرب في مرتبة شهود الذات ..

وما بتدوم شهود الذات، ما هو مقام، حال يرتفع ليه الإنسان وينخفض منه .. في المرحلة دي يشهد شهود هو، زي ما بنقول، كأنه الدهر الدهير .. اللحظة الواحدة يحصل فيها من العلم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. ثم يعود الإنسان تاني مرة إلى ذبذبة الفكر وإلى حجاب الفكر ثم يرتفع إلى مرتبة الشهود الذاتي فيكون بين الاتنينية والواحدية، بين الشفعية والوترية .. لأنُّ الشفعية أقرب منازل التنزل إلى الوحدة، «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» .. في بداية الخلق، في القمة، خلق ربنا الاتنينية .. فوق للاتنينية الوحدانية .. الإنسان المجود بيكون تردده بين الوترية والشفعية، بين الشهود الذاتي وبين الشهود في مراتب الأسماء والصفات والأفعال ..

ورد كلامنا عن أنُّ القلوب تشاهد الله والعقول تعرف الله .. وورد كلام برضو عن الشهود الذاتي والشهود الأسمائي والصفاتي والفعلي في مراتب، يعني، الأسماء والصفات والأفعال .. الأسماء يعني، العالم يعتبر اسم، المريد تعتبر صفة، القادر تعتبر فعل .. بمعنى أنُّ الله بالعلم أحاط بمخلوقاته، وبالإرادة خصص صورة المخلوق الأول، وبالقدرة أبرزه إلى حيز التجسيد .. دا معنى المعرفة في مرتبة الأسماء .. وأما المعرفة في مرتبة الذات فهي لا حظ للعقول فيها، وإنما هي إلمامة وسيلتها القلوب .. ودي سُميت مشاهدة .. قلنا القلوب تشاهد الذات والعقول تعرف الله .. تعرف الذات بأثرها، يعني ..

ومسألة المعرفة الوترية والمعرفة الشفعية، أنُّ العقول أداة المعرفة الشفعية .. ورد الكلام عنها أنُّ العقول ما بتعرف الأشياء إلا بأضدادها، لكن إذا جاءت عند الذات، وانقطعت الضدية، العقول تقف، تحار .. وعند العارفين، الحيرة إدراك، حتى يقولوا: «العجز عن الإدراك إدراك، والتفكير في الذات إشراك» .. في الذات لا يكون تفكير، لكن يكون عجز عن التفكير .. ودي سُميت المرحلة البتوقف فيها العقل، يرفع فيها حجاب العقل ..

ونحن في الآية هناك، «أو من وراء حجاب»، قلنا الحجاب هو العقل .. وآخر الحجب وأرفع الحجب بيننا وبين الله هي العقول لتكون تودينا إلى مراتب الأسماء بعدما تقطع الفعل إلى الصفة إلى الاسم، العقول تقيف وتحار لأنُّ الأسماء عندها أضداد لكن الذات ما عندها ضدية .. هنا حجاب العقل يرفع بفضل الله ثم بفضل العقل القوي المحايد البيعرف قدر نفسه .. وتجد أنُّ الصوفية برضو يقولوا: «زدني بفرط الحسن فيك تحيرا»، دا ابن الفارض .. زدني بفرط الحسن فيك تحيرا .. عند الحيرة يقيف العقل من الجولان. لأنُّ الجولان دي في منطقة الزمن ..

الفكر لمن يتحرك بين نقيضين، زي ما تكلمنا عنه، دا في منطقة الزمن .. إذا ارتفع الإنسان عن الزمن وتحرر عن منطقة الزمن، تحرر عن الزمان والمكان، زي ما قلنا أنُّ الإلمامة الكبيرة اللي حصلت لنبينا في ليلة المعراج، لمن حُكي عنها، «ما زاغ البصر وما طغى»، دا معناه جولان الفكر وقف .. ما في ماضي ومستقبل في الزمن، بقى الزمن وحدة .. والوحدة دي تدق حتى تخرج عن الزمن .. فلما خرج النبي عن الزمان برفع حجاب الفكر شاهد الذات .. ودا عبر عنه، ووارد كلامنا عنه، عبر بقوله: «ليلة عرج بي، انتسخ بصري في بصيرتي فرأيت الله» ..

الشهود الذاتي تمتنع فيه الكيفية .. الشهود الذاتي ليس مرحلة علم، وإنما هو مرحلة حياة .. المشاهد للذات ينمحق علمه وتبقى حياته .. صاحب لحظة الشهود الذاتي، صاحب حياة كاملة، حياة عريضة وعميقة .. ونحن قلنا أنُّ الشهود الذاتي ليس مكان للإقامة .. ليس هو مقام، وإنما هو حال تلم به النفوس العارفة بالله، إلمامة .. ثم يرد لها الخطاب، من قِبل العقل: «يا أهل يثرب لا مقام لكم، فارجعوا» .. فترجع إلى مقام الشفعية، بعد الوترية، ترجع إلى مكان العلم ..

والحركة في الترقي بين الحال وبين المقام أو بين الوترية والشفعية، أو بين إدراك القلب وإدراك العقل، يتراوح السير بِهُ، عند كبار العارفين، سرمدي .. ونحن ضربنا مثل، هنا في حديثنا، بهاوي الكُرة وهاوي السينما .. وكيف أنُّ يمكن للإنسان أن يمثل للشهود الذاتي الكبير الحصل في الإلمامة العظيمة اللي حصلت لنبينا في المعراج، عندما وصفه القرآن بقوله: «إذ يغشى السدرة ما يغشى .. ما زاغ البصر وما طغى» .. ويرد في هذا الوصف، بهذا المقام، وصف النبي: «ليلة عرج بي، انتسخ بصري في بصيرتي، فرأيت الله» .. هذه الجمعية العظيمة التي حصلت بها الوحدة، التي تكاد تكون مطلقة، في ذات النبي .. حتى توحد فيها ذاتيًا ومكانيًا وزمانيًا، فرأى الواحد .. ضربنا لِهُ مثل بصاحب الكُرة وصاحب السينما، وقلنا كيف أنُّ الإنسان يمكن أن يجد لِهُ شيء من الاستغراق النسبي عندما يكون بيشاهد فيلم عظيم في السينما، فيذهل عن الزمن، وما بيكون مشغول بالماضي والمستقبل وإنما مشغول باللحظة الحاضرة، حيث تنفر أمامه، في الشاشة البيضاء، الصور، صور الممثلين المجودين .. فيكون مشدود إلى حركاتهن وألفاظهن وملامحهن، بصورة يكاد الزمن أن يفقد فيها فعله،عنده .. وتمر الساعتين وهو لا يكاد يشعر بمرور الزمن .. دي حاجة لمجرد التقريب، تقريب الصورة من الصورة، وإلا فليس هناك أي شبه وليست هناك أي فرصة للقياس بين ما يستغرقه صاحب الفيلم من الفيلم، وبين ما استُغرق النبي في تلك اللحظة بالشهود الذاتي .. لكن هناك شبه يمكن أن يقرب للأذهان الصورة .. فالشهود الذاتي يُعاش، يُحيى، ولا يُعلم ..

والصفات مراتب من الحياة .. يعني الصفة العليا «الحي»، تليها «العالم»، تليها «المريد»، تليها «القادر» .. تمشي، الصفات النفسية السبع، الحي؛ العالم؛ المريد؛ القادر؛ السميع؛ البصير؛ المتكلم .. هذه الصفات، بعضها فوق بعض، وكلها منضوية في صفة الحياة .. وصفة الحياة صفة ذاتية .. ففي الشهود الذاتي تكون الحياة .. في الشهود الأسمائي يبتدئ العلم .. لأنُّ منازل الشهود الأسمائي بتجيء فيها الثنائية ..

مرحلة الثنائية، مرحلة علم .. مرتبة الثنائية، مرتبة علم .. لأنُّ العقول لا تدرك إلا في منطقة الثنائية .. القاعدة: «وبضدها تتميز الأشياء» .. والسبب أنُّ العقول مدركاتها من العالم الخارجي تصلها عن طريق الحواس، والحواس ثنائية .. الأعين، والآذان، والآناف .. كل الأشياء الزي دي اتنين، اتنين، اتنين .. والأشياء تدخل، على عقولنا، ثنائية .. عند مرحلة الثنائية، عقولنا تدرك .. في مرحلة الوترية، عقولنا تعجز وتقف .. والفكر ليس له مجال في مرحلة الوترية .. ولذلك يجيء الحديث النبوي: «تفكروا في مخلوقات الله، ولا تتفكروا في ذاته فتضلوا» .. وربنا، من النزول من الوترية نزل إلى الثنائية .. «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تعقلون» ..

وما في كرامة، في الحياة كلها، إلا بالعقل، زي ما قلنا .. فربنا لمن خلق المخلوقات، خلقها شفعية .. فالوترية في ذاته هو فقط .. ودا ما مشينا لِهُ، في أنُّ مرحلة الوترية، مرحلة فناء عن العلم وبقاء بالحياة .. ودا ما سُمي بالشهود الذاتي .. وهو شهود تمتنع فيه الكيفية، لأنُّ يمتنع فيه العلم .. فإذا نزلنا منه في مرتبة الأسماء والصفات والأفعال، جاء العلم ..

ولكرامة العقول، نزل لينا القرآن في مستوى اللغة العربية .. القرآن، هو في حقيقته، ما هو اللغة العربية .. القرآن هو كلام الله .. والله لا يتكلم بجارحة، وإنما الله يتكلم بذاته .. ونحن نقول، القرآن كلام الله .. الكلام دا، في التنزلات بقى اللغة العربية المشتمل عليها المصحف .. القرآن المقروء، بين دفتي المصحف، باللغة العربية دا كلام الله .. لكن، كلام الله لدى تنزلات الله من صرافة الذات إلى المراتب الأسمائية والصفاتية والفعلية .. ويجيء القرآن، برضو في الباب دا، يكلمنا: «حم .. والكتاب المبين .. إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم» .. إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون .. تنزله إلى مقام اللغة العربية إنما من أجل أن نعقل نحن .. وفي الآية نفسها يمشي للإشارة في «حم» .. و«حم» معلوم أنها ما عندها معنى معروف، لدى التفسير .. كل المفسرين يقولوا، في تفسيرها، الله أعلم بمراده .. في ناس حاولوا حيلة في التفسير، فلم يبلغوا مبلغ مهم .. لكن الشاهد فيها، أنها ماها لغة عربية .. نحن، برضو، بنذهل عن حقيقة هي أنُّ لمن نقرأها، «حم» والحاء حرف عربي والميم حرف عربي، بنظن أنها، برضها، عندها علاقة باللغة العربية .. لكن الحقيقة هي العلاقة جاءت من اتفاقنا نحن واصطلاحنا على أن نقيد الصوت بالصورة اللي سميناها «حم» أو «ألم» .. هي الأصل في الموضوع الصوت، مش الحرف، فهي «أ ل م» .. وفي اللغات المختلفة مقيدة بصور مختلفة ..

الصوت مشترك بين اللغات كلها .. الحقيقة، بين المتحركات كلها .. وبطبيعة الحال بين الحيوان والإنسان بصورة ظاهرة .. لكن كل متحرك مصوت .. الصوت دا نحن العرب قيدناه بي «ألف لام ميم» .. هي حروف عربية .. الانجليز قيدوه بصورة، والفرنسيين قيدوه بصورة، والصينيين قيدوه بصورة .. وكل الأمم اللي لغاتها مكتوبة، بأي صورة من الصور، قيدت الصوت بصورة، في حروفها بتكتب بها اللغة ..

فالعبرة مش الحرف، العبرة الصوت .. نحن العرب قيدنا الأصوات في تمانية وعشرين حرف أبجدي .. تمانية وعشرين حرف المعروفة عندنا في الأبجدية .. دي سميت الحروف الرقمية .. مرقومة، مرسومة، مكتوبة بالهيئة اللي اصطلحنا عليها ..

هناك، فوق للحروف الرقمية، الحروف الصوتية .. الحروف الصوتية دي أوسع من الحروف الرقمية بما لا يقاس ..