إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة السادسة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الثالث

وفي الحديث: «إن الله خلق آدم على صورته» .. وليس لله صورة يخلق عليها آدم، وإنما الصورة هي أنُّ الله خلق آدم عالم، ومريد، وقادر، وسميع، وبصير، ومتكلم .. والله كذلك .. فهي نفس صفات الله جاءت في حق صفات آدم، دا الشبه .. ولولا هذا الشبه لا يمكن كنا أن نعرفه .. إذن، حتى هو لمن يصف نفسه بالأسماء، لما يصف نفسه بالصفات، إنما وصفه لنفسه تنزل لمستوى ما نعقل نحن .. وما نعقل نحن يقصر عن إدراكه .. ولذلك تجيء العبارة المعروفة: «كل ما خطر ببالك فالله، من حيث ذاته، بخلاف ذلك .. ولكنه من حيث أسماؤه وصفاته وأفعاله، هو كذلك» .. كل ما خطر ببالك هو، في المرتبة دي، الله .. ما هو غيره، الغيرية تمتنع .. ولكن، من حيث ذاته، هو بخلافه .. لأنه تصور ذهني، تصور عقلي .. والله يتنزه عن التصور العقلي، سواء أن جرى في كلمات هي الصفات والأسماء، أو لم يجر، قام في البال .. فالعقول تدل على الله ولا تعرف الله بالمعنى المطلوب ..

والحقيقة أنُّ، المعرفة بالله تبدئ عندما تنتهي حيلة العقول .. ولذلك تجئ العبارة : «العجز عن الإدراك، إدراك .. والتفكر في ذات الله إشراك» .. وزي ابن الفارض: «زدني بفرط الحسن فيك تحيرًا» .. فإذا كان احتار العقل معناها توقف .. وعند التوقف تتقدم حاسة الإدراك الوتري، اللي هي القلب .. فالعقل يدرك في مرحلة الإدراك الشفعي، يعني الإتنينية، «ومن كل شيء خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون»، ويعجز عن مرتبة الإدراك الوتري .. ونحن قلنا أنُّ، معرفة الله تقع في مرحلتين: مرحلة حق، ومرحلة حقيقة .. الحق ضده الباطل .. دي مراتب الأسماء والصفات والأفعال .. في هذا المدى، العقل يتقدم متوكئ على الإتنينية .. لكن لمن يجيء عند الحقيقة، اللي هي معرفة الذات الما عندها ضدية، يبقى العقل يتوقف ويحار ..

فنهاية اللغة العربية هي نهايات العقول بعد أن تتروض العقول .. فإذا كان العقول تروضت وتأدبت بأدب الحقيقة وأدب الشريعة الفي الدين، يبقى هي تعرف نفسها وتعرف عجزها وتقف عن الحيلة .. تقف اللغة «العبارة» ويقف العقل .. وتتقدم الموهبة الكبرى، اللي هي القلب .. وبالقلب يكون الشهود .. ثم ما نشهده نرجع لتهضمه عقولنا ويجري على ألسنتنا حكمة .. فاللغة حجاب، وحجاب كثيف .. والناس اللي معتمدين على اللغة وبيشققوا فيها ويتكلموا عن إعجاز القرآن في استعمال اللغة العربية، هم، في الحقيقة، صرفوا الناس عن حقائق الدين .. وساقوهن لفهلوة وفلاحة وبلاغة هي مضرة أبلغ الضرر بحقائق الدين ..

يمكننا الآن أن نختم حديثنا السادس بمثل طيب جدًا من أمثلة حجاب اللغة عن المعاني التي يعطيها التوحيد، واللي هي معاني الدين .. المثل الطيب يجيء من الآية: «فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير» ..

التفسير من الجلالين، دا كما تعطيه اللغة، بيقول: «فاستقم (على العمل بأمر ربك والدعاء إليه) كما أمرت و(ليستقم) من تاب (أي، آمن) معك ولا تطغوا (تجاوزوا حدود الله) إنه بما تعملون بصير (فيجازيكم به)» .. دا التفسير كما يرد في الجلالين، وهو التفسير كما تعطيه اللغة ..

لكن، التوحيد يقول: «فاستقم»، يعني اثبت على خط الاستقامة .. وخط الاستقامة خط بين طرفين، هو الخط الوسط .. هو بين طرفين، في أحدهما الإفرط وفي الآخر التفريط .. خط الاستقامة هو الخط اللي يقطعه بندول الفكر وهو جائل بين طرفي الروحانية والمادية .. لأنُّ التوحيد هو، لا هذا ولا ذاك .. فلذلك يجيء فيه، «لا إلا» .. فكأن الاستقامة بين «لا إلا» .. بين النفي والإثبات، أو بين الطرفين، أو بين النقيضين هو التوحيد .. «فاستقم»، اثبت على خط الاستقامة، لا تميل يمنة نحو الروحانية ولا تميل يسرة نحو المادية، وإنما الاستقامة في المزج بينهما مزجًا معتدلاً مستويًا كأنهما كفتا الميزان، وكأنك إنت شوكة الميزان .. واقف في خط النص .. ودا ما وارد بِهُ الحديث في: «اهدنا السرط المستقيم، سراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين» .. السراط المستقيم دا هو الأُمر النبي أن يستقيم فيه .. وقال، «سراط الذين أنعمت عليهم»، اللي هم المسلمون .. المسلمون بالمعنى التاني، بالإسلام التاني، النحن شارحنه في فكرتنا بصورة واسعة .. الإسلام بداية ونهاية .. الإسلام، الهِنا، هو الإسلام، اللي هو الاستسلام والرضا ولانقياد .. مش إسلام الأعراب، اللي: «قالت الأعراب آمنا .. قل لم تؤمنوا، ولكن، قولوا أسلمنا .. ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» .. «الذين أنعمت عليهم»، دي جائية من، «اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا» ..

«فاستقم»، أثبت على خط الاستقامة .. ولصعوبة الثبات على خط الاستقامة، الإنسان لا يميل نحو الروحانية ولا يميل نحو المادية بل يثبت من الحركة حتى كانه خرج من الزمان وخرج من المكان .. لصعوبة المقام دا، يقال أنُّ النبي قال: «شيبتني هود وأخواتها» .. وقال العارفون، أنُّ شيبته في «هود» هذه الآية: «فاستقم كما أمرت ومن تاب معك» .. هنا، اللغة تدي، استقِم إنت ويستقِم الذين معك، المؤمنون يعني .. لكن التوحيد يقول: استقم أنت كما أمرت وليستقم الذين معك كما أُمروا .. يستقيموا هم على قدر مستواهم، واستقم إنت على قدر مستواك .. أمرك على قدرك، وأمرهم هم على قدر طاقتهم، «لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها» .. استقامتهن هن تبقى لزوم الأوامر، واجتناب النواهي .. إتيان ما أُمروا بِهُ والانتهاء عن ما نُهوا عنه .. ودي بداية السير .. دي استقامتهن هن .. كأنُّ المعنى فيه شيء محذوف .. المعنى اليدِّيهُ التوحيد فيه شيء محذوف .. استقم إنت على قدر تكليفك، وليستقم الذين معك على قدر تكليفهم .. وشتان بين التكليفين! برضو في كلمة «ولا تطغوا»، طغيان النبي غير طغيانهن هن .. طغيان النبي يكون قدره، اللي هو جولانه بين الطرفين .. ودا ينفي الاستقامة .. جولان الفكر بين الطرفين ينفي الاستقامة .. والاستقامة دي حصلت للنبي في جمعية عليا، عندما قال عنه: «ما زاغ البصر وما طغى» .. دي نفس الصورة، في الحقيقة، «فاستقم كما أمرت» ..

خط الاستقامة هو النقطة اللي حصلت لنبينا العظيم في الجمعية الكبرى، في يوم المعراج، بعد سدرة المنتهى، وبعدما تخلف جبريل، فسار النبي في أنوار الذات إلى أن حكى عنه القرآن: «إذ يغشى السدرة ما يغشى .. ما زاغ البصر وما طغى» .. ديل الطرفين برضو .. طرفي الماضي والمستقبل .. والنقيضين اللي قلنا عنهن الاستقامة استواء وسط لا يميل يمنة نحو الماضي ولا يميل يسرة نحو المستقبل .. ويمكنك أن تقول، لا يميل يسرة نحوالمادة ولا يميل يمنة نحوالروح .. دي هي الاستقامة .. ودا تكليف النبي .. استقامة النبي هي دي .. فلمن قال، الكلمة واحدة واستعملها في حق الإتنين .. في التوحيد يمتنع أن تنصرف للإتنين بنفس المستوى .. ليه؟ لأنُّ، في التوحيد، مستوى النبي يختلف عن مستواهن .. النبي عنده شريعة وعنده تكليف وعنده شهادة هي في القمة بالنسبة لتكليف وشريعة وشهادة الأمة ..

فالنبي عنده تلاتة مقامات: مقام «نبوته»، ودا هو عمله عمل الترشيد، الذي رحم الله النبي فأخذ فيه مقام النبوة، مقام الرحمة التي تعرض لها النبي بمحض الفضل .. وقال عنها في حديثه: «أدبني ربي، فأحسن تأديبي»، دا المقام دا .. مقام نبوته .. ثم عندما استحصدت النبوة وتمت واكتملت ونضجت، انبثقت منها «الرسالة»، فقال، في نفس الحديث: «أدبني ربي، فأحسن تأديبي .. ثم قال: خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين»، يعني، أرسله .. بعدما كان «نبي» أصبح «نبي رسول» .. ديل مقامين، مقام «نبوته»، ومقام «رسالته» .. أعلى منهن، مقام «ولايته» .. فالنبي مثلث المقامات .. هو «نبي»؛ من أعلى النبوة «الولاية»؛ ومن أسفل النبوة «الرسالة» .. فهو نبوته وسيلتها جبريل .. في علوم النبوة ما لا تطيقه الأمة، ولا يُبلَّغ للأمة .. في مقام الرسالة وسيلته جبريل أيضًا، لآنُّ كل الرسالة موحى بها .. هنا، الرسالة تنزُّل عن النبوة لمقام الأمة .. النبوة سامقة وعالية وفيها تشريعه هو الخاص بِهُ .. من تشريعه الخاص بِهُ انبثق تشريعه البخص أمته، العلى قدر مستوى أمته .. «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم» .. هنا، «على قدر عقولهم»، جاءت «الرسالة» .. أما«الولاية»، فهي أكبر من جبريل .. وجبريل ما يحضرها ولا يعرفها .. وهي بدأت بعد سدرة المنتهى، بعدما تخلف جبريل عنه .. وقال فيها: «لي ساعة مع الله لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل» .. دي ساعة ولايته ..

فالثلاثة مقامات دي فيها علوم رفيعة جدًا .. علم «الرسالة» مبذول للأمة .. وهو مرسل بها ولا يقع فيها الكتمان .. وهي القرآن المقروء كله، وتفسير القرآن بما تطيق عقول الناس .. دا موضوع الرسالة .. في «النبوة» في علوم فيها تكليفه هو الخاص .. «فاستقم كما أمرت» أنت في مستواك، في شريعتك الخاصة .. وليستقم الذين معك في ما كُلِّفوا هم بِهُ في مستوى تكليفهن الذي وردت بِهُ الرسالة .. «ومن تاب معك ولا تطغوا»، برضو«تاب»، دي، عندها مستويينها .. مستوى للأمة ومستوى لِهُ هو .. و«لا تطغوا»، برضو الطغيان عنده حدين .. طغيانه هو الحركة، حركة الخاطر .. أما طغيانهن هن فمخالفة الأوامر والتورط في النواهي .. «إنه بما تعملون بصير»، أيضًا دي فيها اختلاف .. «بما تعملون»، العمل عمله هو وعملهم هم مختلف؛ بصر الله لهم مختلف .. «إنه بما تعملون بصير»، أصلو، في الواقع، أنُّ كل الحكمة في الآية واردة في الفاصلة دي، «إنه بما تعملون بصير» .. أي معناها أنُّ ما عملتم شيء إلا هو عمله لِكم .. إنتوا أدواته في العمل .. الفاعل واحد .. «إنه بما تعملون بصير»، مش معناه أنه عالم بعملك .. لا، هو اللي عمل لِكم عملكم .. «والله خلقكم وما تعملون» ..الله خلقكم وخلق ما تعملون .. هنا بصره بالاتنين برضو مختلف حسب مستوياتهن وحسب كرامتهن عنده .. دا المعني اللي يعطيه التوحيد .. وهو واضح جدًا، بعيد جدًا من ما تعطيه اللغة، ولا يمكن أن يتطرق لِهُ إنسان ويفهمه في مستواه دا إلا إذا كان عن طريق تجويد التوحيد .. دا يسوقنا إلى أن يظهر لِنا كيف أنُّ اللغة بتكون حجاب .. وفي الواقع، لا يمكن الوصول إلى معاني القرآن إلا إذا تعاونت اللغة مع التوحيد ..

عن تعاون اللغة مع التوحيد سبق لِنا الحديث قبل الآن في أشرطتنا الماضية .. والمقصود بِهُ، أنُّ التوحيد يعطينا المعاني .. لأنُّ بالتوحيد نأخذ المعاني من الله .. كلما وحَّدنا، كلما تشبهنا بوحدانيته وأحديته، وكلما عقلنا عنه .. والمعاني البتؤخذ من التوحيد، المعاني البتؤخذ من الله، عندها قاعدة في القيد، وعندها قمة في الإطلاق .. حتى يجيء القرآن، من معاني اللغة العربية الظاهرة إلى المعنى العند الله في إطلاقه .. دا ما بيُبلَغ، لكن نحن نسير نحوه كل حين .. فكأنُّ معانينا تتفاوت بين قمة وقاعدة .. قاعدة هي عندنا فيما تعطي العقول من ممارستنا اللغة العربية، قمة عند الله في إطلاقة، والمعاني تتفاوت .. كل معنى فوق لِهُ معنى أدق منه، زي القاعدة «فوق كل ذي علم عليم»، ما معنى واحد ..

الكلمة قد تدينا معنى واحد إذا كان ما عندنا ممارسة، زي ما قلت عن كلمة «جمل»، في الأشرطة الماضية .. تعطي الطفل صورة واحدة، لأنه ما عنده ممارسة لأكتر من الصورة دي .. لكن نحن إذا عندنا ممارسة في التوحيد يبقى عندنا صور كتيرة جدًا من المعاني، وكل مرة تدق ونحن ماشين نحو خط الاستقامة .. مثلاً، الحديث اليقول: «الحرام بيِّن والحلال بيِّن وبينهما أمور مشتبهات»، الأمور المشتبهات دي ترى في خط الاستقامة .. تدق حتى تصبح أحدَّ من السيف وأرقَّ من الشعرة .. دي الأمور المشتبهات .. قال: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضة» .. «من اتقى» .. فالتقوى، في أول الأمر، هي في مسألة الحرام والحلال .. كذلك الاستقامة القبيلك تكلمنا عنها في حق الأمة .. التقوى لمن تجيء في خط النص تبقى هي الاستقامة نفسها، التي لا تميل نحو اليمين ولا نحو اليسار .. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضة ..

كل معنى من معاني القرآن عنده بداية، هي ما تعطيه اللغة العربية .. ثم تتفاوت المعاني واللغة ما بتفارق برضو .. يعني العارف بيستعمل الكلمات كإشارات، كأوعية بيصب فيها معانيه اللي جاءت من تجربته هو في التوحيد .. والمعاني تتفاوت بالصورة دي ولا تتناهى، لأنها ماشة للمطلق .. ويقول أنهم كأنما فكره «يفلق» الشعرة .. يعني، حتى عند خط الاستقامة، الشعرة دي تخينة بصورة تنفلق وتنشق ويستطيع أن يميِّز الفرق بين الفلقتين، بين الشقين .. فكل معانيهم في الدقة .. ودي، حقيقة، معاني التأويل .. لأنُّ القرآن نازل على سبعة أحرف .. أو عنده سبع طبقات .. في كل طبقة أخيرة في سبع أدقَّ منها، كذلك سبع، سبع، سبع، لا تتناهى إطلاقًا .. فالناس الموحدين في كل معنى دقيق عندهم دقة أدق .. وتجيء العبارات المعروفة، يعني، في القرآن: «فوق كل ذي علم عليم» .. وفي حديث العارفين، يقولوا: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» .. الحاجة اليعملها البر وهو بها راض وفرحان هي، في الحقيقة، عند المقرب سيئة، وهكذا إلى أن يمشي الأمر في المراحل العليا ويغيب عن نظر ناس كتيرين .. ناس كتيرين لمن يسمعوا العلوم الدقيقة يرفضوها لأنها ما بيستطيعوا إدراكها .. حتى يجيء الحديث: «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل المعرفة بالله .. فإذا تحدثوا به، لا ينكره إلا أهل الغرة بالله» ..

بهذا نختم شريطنا السادس .. ونختم أيضًا كلامنا عن حجاب اللغة .. فسنعود لهذا الحديث إذا رأينا أن هناك ضرورة ..