إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
الاستقلال وقضايا الشعب
دار الحزب الجمهوري - أمدرمان

٣١ ديسمبر ١٩٦٨

الجزء الثاني

الأستاذ محمود: بسم الله الرحمن الرحيم
حديثنا في هذه الليلة عن الإستقلال وقضايا الشعب. وهو بمناسبة الإحتفال بعيد الإستقلال الثالث عشر. وقد تعودنا أن نتحدث عن الإستقلال منذ ان جاء اللإستقلال على رأس كل سنة، إحتفالاً به، ماعدا السنوات الست التي كانت البلاد فيها تحت حكم العساكر. والحديث في الإحتفال بالإستقلال يتناول دائماً، مسائل السياسة، الإدارة، ما أنجز منها ومالم ينجز. ويتعرض لى تفاصيل المواقف من السياسة المالية أو السياسة الخارجية أوالداخلية، بتفاصيل، و يشيد ببعض الموافق وينعي على إدارة بلادنا بعض المواقف الأخرى التي يكون فيها تقصير. وفي هذه الليلة أعتقد أننا سنخالف نهجنا القديم، لأن الحال بلغت بحكومات بلادنا المختلفة، موقفا يكاد يكون فيه من العبث التعرض لنقد السياسة بنوع من التفصيل. ذلك لأن الحكومات فيما سبق كانت بي يرجى منها أن تصلح الفساد، عندما ينقد الفساد. كان الفساد هو الأمر الطاريء أو كالطاريء. نحن عرفنا الفساد في الحقيقة في جميع حكوماتنا الوطنية، لكن ما عرفنا المجاهرة بالفساد، وعدم الإهتمام للنقد كما نراه في الوقت الحاضر. في الوقت الحاضر، الأزمات اللي تقوم، مثلاً، مثل أزمة مجلس إدارة السكة الحديد، عندما يرمي وزير الموصلات، رجال من الإدرايين والفنيين الأكفاء بتهم يحتمي فيها بعصمة الجمعية التأسيسية التي تمنحه هذه العصمة، مع أنه غير عضو منتخب فيها. ثم لا ينزل لي أن يعطيهم الفرصة في تقديم هذه المسألة للقضاء، لينزّهو أنفسهم، ليحكم القضاء ليهم، لأنهم إتجرحوا في نظر الرأي العام. تقوم الإنتقادات من كل جهة ثم لا يهتم الوزير بما يقال في الأمر دا. تجي أزمة التجارة، وزار التجارة المستمرة، من وقت الرخصة بتاعت السفنجات المشهورة، ويكون فيها الوزير، مهما قيل عنه من راي هو الوزير، ثابت، وكل الفضايح تمر، ولا يكون في أي إتجاه من الوزير ليستقيل أو من الحكومة لتبرر موقفه. تتذكروا أفتكر مسألة السفنجات، الرخصة الأعطيت، قامت الضجة حولها، قام الوزير ليبرر مسلكه في أنه أعطاها، و قال أبو اليسر كونه حزب شعب ما بحرمه من حقه كمواطن، ثم بعد قليل ألغى الرخصة، ويقال أنه بيعت، لواحد من الأجانب من التجار. حُصّل عنها مبلغ والغيت لتكون خسارة عليهو هو. ثم تجي وزارة التجارة ثاني في مسألة الوكيل الدائم، بالصورة المعروفة هسع، وإتحاد الجامعيين، ويقوم ويقعد ويهدد بالإضراب، ما حد عارف ليه تمسك الحكومة بمثل هذا الرجل. ثم تجي الإتهامات بأنه هناك فساد، هناك مسألة رخص عاوزين يحتفظوا بالوكيل الدائم القديم لغاية ما يمررها، وهذه الرخص لمصلحة تمويل الحزب، ثم يقال أنه الوزير عايز الوكيل دا يكون وكيل ليهو هو موش وكيل للوزارة، وأنه كفاءة الوزير مطعون فيها. ماحد يسأل.. النقد دا يمر، والحكومة ماشة والوزير هو الوزير، ويعرض الثقة عليه، والثقة فيه تعرض على الجمعية التأسيسية ثم يناصر من حزبه بالأغلبية بدون ما يكون في أي إعتبار للنقد. أنا أفتكر أنه المواقف دي إذا إضيف ليها موقف الرئيس أزهري من القضاء يدل على أنه العهد الحاضر بقى جاهز ليتغيير، لا يمكن أن يغيير من فساده حاجة. ولذلك ما أفتكر أنه المسألة دي في نقدنا في لليلة دي راح تتجه لنقول السياسة الخارجية حكومتنا فيها مامستقلة وإنما هي تابعة، السياسة الداخلية فسادها في المال كدا وفسادها في الإدارة كدا، زي ماكنا بنعمل. دا يمكنك أن تقوله لما يكون في مسائل خطأ ومسائل صواب، ولما إنت نتظر وترجو أنه الحكومة تغيير من النقد البي يوجه من المنابر أو الموجه من الصحف. لكن حكومتنا درجت على نوع من عدم المبالاة التام. وأنا أعتقد أنه المسألة كمان تصاعدت إلى قمة عندما جاء تصريح السيد إسماعيل الأزهري وقامت الضجة دي كلها حوله، ثم توشك هذه الضجة دي أن تهمد مرة تانية بنوع من الوساطة، نوع من الإعتذارات، نوع من يأس الناس في أن يأخدوا حقوقهم. القضاة أدركهم اليأس في أن يأخدو حقوقهم في وضع زي دا فقالوا أنهم عايزيين يسووا مسألتهم تسوية سرية بينهم وبين مجلس السيادة. المسألة ماهي مسألة القضاة، المسألة هي أكبر من مسألة القضاة، لكن القضاة كموظفين في سلك حساس أدركوا أنه لا حياة لمن تنادي.. فبلغهم نوع من اليأس، عايزين المسألة دي تنتهي على أي سبيل بدل يكون فيها شوشرة. لكن السياسيين، والمتتبعيين للمسائل العامة ما يجب أن يتركوا هذه المسألة تنتهي. ولذلك أنا بعتقد أنه إحتفالنا بهذا العيد الثالث عشر يجب أن يتركز في كشف الجهالات التي تتولى الحكم في بلادنا اليوم، وأن يكون الإتجاه إلى التغيير، ونحن نعتقد أنه ثورة أكتوبر في الجو فعلاً. ثورة أكتوبر في عهد العساكر ماكانت بتمشي خطوة، خطوة، لأنه ما مسموح أن نتكلم في مثل الكلام دا بأن تتوجه خطوة، خطوة، فكانت مكبوتة تحت الأرض إلى أن نبعت صورة كاملة غيرت. في وقتنا الحاضر ما يعتقد إنسان أنه ثورة أكتوبر راح تكون مكبوتة لتنبع مرة واحدة. ثورة أكتوبر راح تعود، لكنها راح تعود بأخطاء مثل الصورة دي، تمشي إلى مستوى فيه مواجهة ثم ترجع بعض الشيء ثم تجي البعدها. وأنا أقدر أقول من المنبر دا، أنه أخطاء العهد الحاضر لن تنتهي، بل الحقيقة أنها ستتسامى إلى أن تجي ثورة أكتوبر لتغير. والرغبة عند الشعب ليغير جاهزة. كل خيبة الأمل اللي جاية من الأعمال الحكومية، الفساد، المحسوبية، مضايقة الشعب، يأس الشعب منه أن يصلح، من الحكم الوطني أن يصلح، بلغ قمة. في إرادة التغيير، إرادة التغيير عند الشعب موجودة، دُفع ليها دفع باليأس من الأوضاع اللي هو شايفها، من خيبة الأمل، من بؤس الحياة البعيشها من الإتجاهات المنصرفة عن مصالحه لمصالح حزبية، لكن الحيرة موجودة. والرغبة في التغيير مابتكون ناجزة ونافذة إلا إذا وجدت التوجيه. نحن نحب أنه في هذه الليلة يكون كلامنا عن الإحتفال بعيد الإستقلال وقضايا الشعب مرفوعة لقمة القضية الأساسية اللي هي أنه لابد أن يكون في تغيير أساسي. ماأفتكر أنه يمكن نحن أن نغيير تغيرات جزئية، زي ما قال الشاعر: "لا يستقيم الظل والعود أعوج". إذا كنت إنت عاوز تغيير لمصلحة الشعب، لابد أن تغيير الأساس تغيير جذري. أنا أفتكر الخطاب بتاع السيد إسماعيل الأزهري، اللي هو نقطة الجدل والنقاش والأزمة، في التعليقات المختلفة في الصحف، في المنابر المختلفة، منذ عيد رمضان، تصلح لتمثل القمة الجاهلة البتوجه مصير بلدنا، ولا يمكنك أنت أن تنتظر من الجهل أن يصلح. الإصلاح موش مجرد حسن نية، مع أنه حسن النية اصبحنا لا نراه. لكن حتى الحاكم الجاهل الحسن النية لا يمكن أن يصلح. الحاكم البيصلح هو الحاكم الحسن النية، العارف، لأنه الإصلاح بقتضي عمل إيجابي في الفهم. أنحنا كنا بنتكلم كتير أنه حسن النية وحده لا يكفي، ودي من الشعارات البعلقها الحزب الجمهوري، على إعتبارات إننا ما مستعجلين، نحن بنعرف من بدري أنه الناس في القيادات مهتمين بمصالحهم الخاصة، لكن ما بنحب أنه قبل المسألة دي ما تكون واضحة بصورة جلية أن نتهم الأخرين.. بينا وبين أنفسنا كنا نحنا مقتنعين أنه حسن النية نفسه ماكان موجود، لأنه من بداية الحركة الوطنية، نحن متابعنها، أنها مكاسب شخصية، ما في واحد ضحى للبلد دا، من ما بدوا الناس في الحركة الوطنية، بدو يلموا المغانم والمكاسب. ظهر هسع، بصورة واضحة، أنه حتى حسن النية ما موجود. الجهل، زي ماقلت، نحن ألفناهه، ماهو شيء جديد، لكن الحاجة الجديدة هو أنه هذا الجهل بدا يلم الناس حوله في تضليل لينفذ أمر هو ما سمي بالدستور الإسلامي. كل الإتجاهات في الوقت الحاضر مساندة للدستور الإسلامي. الناس المعارضين مابقدرو يقولو نحن ماعايزين الدستور الإسلامي، لأنه في إرهاب ديني، وإرهاب فكري. تجد أنهم عندما يجوا في المواجهة تموع المعارضة بصورة، كان يقولو المسألة دي عايزة تجيب لينا دستور رجعي، إمكن أكبر من واجه المسألة دي، إمكن الشبلي، أمين الشبلي، نقيب المحامين قال أنه الحملة على القضاء محاول لستر الأمر حتى يمر دستور رجعي. أنا أفتكر أنه رأيه مابحترم عند الشعب لأنه في ناس بفتكروه بيصف الإسلام بالرجعية، لا سيما وأنه هو بنتمي إلى التنظيم الشيوعي. لكن الناس اللي كان ممكنهم ينقدوا، ما بقدرو ينقدوا، لأنهم ما عندهم فكر عن الإسلام الصحيح. يعني مثلاً نحن الجمهورين يمكن أن نقول أنه الدستور الإسلامي هو حل مشكلة البلد دا، وحل مشكلة العالم كله، لكن البتقدموه دا موش دستور إسلامي.. مافي في الميدان غير الحزب الجمهوري في النقطة دي. الحزب الجمهوري حاولوا أن يعزلوه، حاولوا أن يضعفوا رأيه في الأسلام بمحكمة الردة الهزيلة المعروفة، لكن من المؤكد أنه المؤامرة الماشة تحت الأرض للوضع دا، لو كان الشعب واعي لوقف وقفة رجل واحد. نحن بنعتقد إنه راح يوعى، وراح يقيف وقفة رجل واحد، وراح يغيير، وكل ناس بحاولوا يكيدوا لهذا الشعب، سيكون كيدهم في نحرهم إن شاء الله.. دا ما عودنا ليهو الله في حماية حقوق الشعب دا ورعاية مصلحته. زي ماقال السيد رئيس الجلسة، الواحد لو إستقرأ تاريخ الحركة الوطنية كلها، ما يرى إلا أنه يد العناية الإلهية هي الحامية الشعب، مافي مكسب جبناهو نحن بي شطارة، ولا الإنجليز أخرجناهم نحن، ولا الجيش غيرنا حكمه نحن، ولا أي وضع من الأوضاع عندما تعاينوا ليه عملناهو نحن. بل الحقيقة المسألة دي لو ساقتنا لإستقراء تاريخي بسيط، للحركة الوطنية مثلاً سنة خمسة وأربعين، خمسة وأربعين إمكن هي السنة الظهرت فيها الأحزاب بكثرة. من سنة إتنين وأربعين خرجت الأحزاب من المؤتمر، وأول ما خرج من المؤتمر كان حزب الأمة. ثم إتبلورت الأحزاب وبقى المؤتمر مختص بمسائل التعليم ومسائل ثانوية، وقامت الحركة السياسية بصورة واضحة إمكن سنة خمسة واربعين. الحزب الجمهوري نشأ سنة خمسة واربعين. لكن المسألة اللي بيعرفها كل واحد منكم من الناس الفي سننا أو أصغر مننا شوية، هي أنه الحركة كانت مقسومة على حركة إتحادية وحركة إستقلالية سمت نفسها بالصورة دي. إمكن نحن نمشي في تفصيل شوية لمصلحة الناس الأصغر مننا كتير، ليعرفو الموقف بالصورة دي. الحركة الإتحادية كانت تقوم على قاعدة الختمية، وكانت تنادي بالتاج المصري على البلد دا، إتحاد مع مصر، حتى في بعض الأحزاب كان يقول الوحدة مع مصر. الإتحاد مع مصر يقابله الإستقلال. الإستقلال كان يقوم عليه حزب الأمة، أو طائفة الأنصار. طائفة الختمية إتحادية، طائفة الأنصار إستقلالية. بعض الطوائف الصغيرة كانت ماشة مع جانب الإتحاد، كراهةً في الأنصار - القادرية، التجانية، الطائفات الصغار ماكانت عاوزة الإستقلال لأنها تعرف أنه هي مسألة الأنصار ماشين بيها لجانب فيه طمع لإعادة المهدية من جديد. يمكنك أن تفهم النقطة دي، أنه الحركة دي، الإتحادية، سنة ستة وأربعين، زعماها مشوا لمصر ليعيشوا في لكوندات مصر الكبيرة، الكونتينيتال مثلاً، وعلى رأسهم السيد إسماعيل الأزهري، وكانت الفواتير الغالية تدفعها حكومة مصر. الميدان هنا خِلا من أن يكون فيه أي مواجهة للإستعمار الإنجليزي. مشوا ليمشوا وراء ناس النقراشي، ووراء ناس إبراهيم عبد الهادي في أن يطالبوا هم بحق السودان في الإستقلال، ونحن قضيتنا ماشة معاهم لأنه نحن عايزين الوحدة مع التاج المصري. الحركة الداخلية هنا، في سنة ستة وأربعين في أول مرة مشى وفد السودان، يشمل الحركة الداخلية الي هي الإستقلالية، والحركة الخارجية اللي هي الإتحاد مع مصر.. في سنة ست وأربعين في مارس، عندما ما إجتمعوا ناس حزب الأمة هناك مع الإتحادين ورأوا أنه الإتحادين سلموا أنفسهم للمصرين ليتكلموا عنهم، رجعوا. لمن رجعوا هنا، رجعوا للإنجليز ليطوروا البلد دا ليعطوه الحكم الذاتي. حتى هدلستون، الحاكم العام في الوقت داك، قال أنه السودان يمكن أن يبلغ مرحلة الحكم الذاتي في مدى عشرين سنة. وبدات تطورات الأنظمة الديمقراطية، الأجهزة الديمقراطية بتاعت الإستعمار بالمجلس الإستشاري. كأنه نوابه، والمنتخبين ليه والمعينين ليه من ناس حزب الأمة. ثم عندما قوطع، وعندما ظهر أنه هزيل جات ما سميت بالجمعية التشريعية، وكانوا عندها وزراء وعندها نواب من ناس حزب الأمة. الموضوع دا، مظهرو الحقيقي بنعكس في أنه الميدان بتاع الحركة الوطنية خالي. الناس الداخليين ماواجدين موجب لأن يواجهوا الإنجليز، لأنه بعتقدوا أنه الإنجليز يمكن أن يحرروا البلد، والناس الخارجيين خلّوا الميدان خالي وقعدوا في اللكوندات. وأنا بقول ليكم أنه مافي واحد ضحى، لأنه زي السيد إسماعيل الأزهري من ما إستقال من المعارف، حياته بقت أرغد مما كانت وهو موظف، باستمرار أصله ما نزل لأن يكون فقير ولا مضحي. الحركة الوطنية دي ماضحى فيها زول، ولذلك من وقتها داك، بدت تكون إنتهازية. إنتهازية بمعنى أنه كل واحد عاوز لي نفسه، وإتربى على الصورة دي، حتى الشعب شعر بأنه ناسو إنتهازين، الرخص تجي بأسماهم، والمواهي تجي بأسماهم، والرشوة المصرية، والمعيشة في الخارج على نوع من الترف. وهنا ماكان في مواجهة لأنه ماكان في موجب أن يواجهو. حزب الأمة ما واجه الإنجليز في أي وقت.