إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من تاريخ الحزب الجمهوري السوداني

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


على شرف مئوية الأستاذ محمود محمد طه

على شرف مئوية الأستاذ محمود محمد طه

من تاريخ الحزب الجمهوري السوداني (2)


محمد محمد الأمين عبد الرازق

تحدثنا في الحلقة الأولى، عن مؤتمر الخريجين والأوضاع السياسية التي أدت إلى خروج الأحزاب الطائفية من المؤتمر، ثم فصلنا في نشأة الحزب الجمهوري ومبادئه الأساسية في الجلاء التام، ملء فراغ الحماس بالمواجهة المباشرة للإنجليز وإرجاء العمل على ملء فراغ المذهبية.. وأشرنا إلى المنشور الأول ضد قانون منع الخفاض الفرعوني، وقلنا إن موقف الجمهوريين المبدئي ضد الخفاض، لكنهم كانوا يرون أن التخلص منه لا يتم بالقانون، وإنما بالتربية، وقد ورد في المنشور أن غرض الإنجليز الأساسي من إصدار القانون، لم يكن كرامة المرأة السودانية وإنما هو إظهار السودانيين للعالم بأنهم يمارسون عادات همجية، ولذلك فهم غير مؤهلين لحكم أنفسهم، والهدف الأساسي: إطالة أمد الاستعمار.. وانتهينا في تداعيات ذلك المنشور إلى الحكم علي الأستاذ محمود بأن يوقع على صك بكفالة شخصية بمبلغ خمسين جنيهاً لمدة عام لا يشتغل خلالها بالسياسة، ولا يوزع منشورات أو يودع السجن لمدة سنة إذا رفض ذلك.. ولكن الأستاذ محمود رفض التوقيع مفضلاً السجن، وقد اقتيد لتوه إلى سجن كوبر.. فماذا حدث داخل السجن؟؟
في داخل السجن اشتعلت المواجهة مع الانجليز، فقد حكي السيد نصر الدين السيد أحداث دخول الأستاذ محمود للسجن في اللحظات الأولي، عندما التقي بوفد الجمهوريين المتحرك بالجنوب، وقد كان حينها، يشرف على انتخابات مجلس الشعب الأخير في نهايات مايو، قال: اقتيد الأستاذ محمود إلى السجن بواسطة أثنين من الضباط السودانيين، وعندما وصل مكتب التسجيل أطلق يديه بقوة وانتزع دفتر التسجيل وضرب به وجه الضابط الانجليزي المسئول.. ثم رفض القيام للضباط الانجليز، وعصى أوامرهم علنا، وبالرغم من مشاهدة الضباط المصريين لهذه المقاومة الأسطورية إلا أن أحد الضباط المصريين احتج معاتبا على عدم القيام له، فرد عليه الأستاذ: (أنا لو كان بقيف للزيك الجابني هنا شنو!!).. ويواصل السيد نصر الدين، الذي كان ضابطاً برتبة ملازم آنذاك: رفض الأستاذ محمود أن يلبس زى المساجين، فكلف الانجليز أحد الضباط السودانيين بأن يلبسه إياه بالقوة، لكن الضابط قال للأستاذ محمود بعد أن أوضح له المهمة المكلف بها أنه لن ينفذها حنى لو يقلع الكاكي ويذهب إلى منزله!! فنظر إليه الأستاذ ملياً، ثم قال له: إذهب وقل لهم قال سيلبسه غداً بعد نهاية يوم العمل، وقال السيد نصر الدين: الغريب أن الانجليز فرحوا لهذا الرأي!!
قال الأستاذ محمود لطلاب الدراسات الإفريقية حول هذه الإحداث:
عندما دخلت السجن قررت لا بد من أن أحدث حاجة في داخل السجن، وهي المخالفة لتعاليم السجن، وقوانين السجن وأوامر السجن.. وضباط السجن كانوا اثنين من الانجليز قلت لهم: أنا ماعندي معاكم أنتو حاجه شخصية.. الحكومة ما بتعترف بالمسجون السياسي، لكن دا سجن سياسي بطبيعة حاله، كونها ما بتعترف بيهو دا ما بغير الحقيقة دى، ويبقي حقكم تعرفوها وتحترموها.. إذا كان أنا مسجون سياسي وأنا بقول للحاكم العام أنت تخرج من البلد لا يمكن أن أطيع أوامركم وانتو موظفين صغار عندو، وإنجليز.. وفعلاً فهموها بالصورة دى فلمن يمروا أنا ما بقوم ليهم ودى كانت بتقتضي أن أعاقب بزنزانه.. في الزنزانة أنا بصوم ما يسمي بالصيام الصمدي عند الصوفية.. الجمهوريون في الخارج يرفعوا المسألة بأني مضرب عن الطعام لسوء المعاملة بالسجن..

استمرت هذه المواجهة داخل السجن طيلة شهر يونيو، ومما جاء في الصحف عن ذلك هذا البيان:
الرأي العام 26/6/1946م بيان رسمي من مكتب السكرتير الإداري عن رئيس الحزب الجمهوري: "أظهرت بيانات في الصحف المحلية حديثاً بخصوص محمود محمد طه الذي هو الآن تحت الحراسة بالخرطوم بحري نتيجة لرفضه أن يمضي كفالة المحافظة على الأمن.. وهذه البيانات قد احتوت على معلومات غير دقيقة، والحقائق كالآتي: لمدة يومين رفض محمود أن يشتغل وهذا يخالف قوانين السجن، فلم يعمل له أي شئ في اليوم الأول، أما في المرة الثانية فقد حكم عليه بالبقاء ثلاثة أيام بالزنزانة والأكل الناشف.. ولو أنه رفض أيضاً أن يقف عند الكلام مع ضابط السجن، فإن العقوبة التي نالها الآن لم تعط له لهذه المخالفة لنظام السجن، وبهذه المناسبة يجب أن يعلم أن كل المساجين مهما كانت جنسياتهم يجب أن يقفوا إلى ضابط السجن، إنجليزياً كان أو سودانيا

كان هناك اتصال بين الأستاذ محمود وأعضاء حزبه بالخارج للتنسيق في العمل داخل وخارج السجن.. وكان الأستاذ يرفض أن يكون مجرماً كما أسلفنا ويعتبر نفسه سجين سياسي ويجب أن يعامل معاملة السجناء السياسيين.. وهذا نموذج للخطابات التي كان يتم تبادلها مع الجمهوريين بالخارج وكان ينقل هذه الخطابات بعض الضباط السودانيين الشرفاء الذين يقفون مع الوطنيين وهم في الخدمة:
أخي أمين:
تحية لك ولإخوانك وشوقاً وبعد..
فهذا الجواب اتجاه موفق ما في ذلك شك والله أسأل أن يسدد الخطأ والخطى.. إدارة السجن مضطربة جداً لتحركاتكم وأصبح الحكمدار يحاول التودد بكل سبيل.. معاملتهم لي فيها كثير من الحذر الشديد، وقد أخبرني أنه جاء في عمل شئ ينقذ الموقف لأني مصر على ألا أقف لمدير الخرطوم وخلافه فسألني: أتعتقد أنك بوقوفك مع المساجين عند زيارة المدير تجعل من نفسك مجرماً معهم؟ فقلت: ذلك حق ولكنه ليس كل الحق.. فإني بوصفي رئيس حزب سياسي يناضل من أجل بلاده سيحط من الجهاد الوطني إن رضيت أن أقف لأي رجل إجلالاً له.. قال: ذلك معقول، ثم فكر وقال: إنه يريد أن يجعل لي مقاماً خاصاً في السجن لأقيم فيه وذلك لئلا تسري الروح هذه في باقي المساجين.. فهم لا يرون أن يعترفوا للمسجون السياسي بأي حق.. إن الحكومة الآن تقبض على الجمر وتود بكل سبيل أن لو أمضي لها التعهد لتخرج من الحرج ببقية الكرامة لأنها تشعر أن ما ارتكبت من خطأ، سيحيي الجهاد الوطني ويضعفها هي في نظر المجاهدين.. ومن المحقق أن الحكومة لا تريد أن تعترف بمكانة للسياسي السوداني، ولا للأحزاب السودانية.. وفرصة وجودي هنا ستخدم هذه النقطة بالذات خدمة لا حد لها، إذا استغل استغلالاً حسناً.. فأنا سأضغط على إدارة السجن، فلا أقبل أي معاملة أقل من معاملة المسجون السياسي، وأن أقيم في مكان مميز وأن توفر لي وسائل الراحة والقراءة والكتابة، وألا ألبس ملابس السجن وألا أقيد إلا في الحدود التي تكفل للحكومة عدم نشر آرائي السياسية مثلاً، وان أحترم من رجال البوليس والإدارة في كل هذه الحدود.. وهذه أشياء تؤذي الحكومة أبلغ الإيذاء.. فأري أن تطالبوا أنتم بها في الخارج، وبعدها تطالبوا بإطلاق سراحي.. فإنه من غير المعقول أن تطلق الحكومة يدها في أعدائها كيف تري، وحيث ترى.. ذلك بأن رجال السياسة السودانيين هم عتاد البلاد ومسلكهم أعداء للحكومة وحرب عليها.. ويمكنكم أن تحتجوا أكثر من هذا بأن تذكروا بأن الحكومة تستعين على أعدائها رجال السياسة الوطنية بالجراثيم.. فإنها قد أدخلتني في زنزانة يسكن فيها مرضي السل، وكان بالقرب مني مريضان في الطور الأخير من المرض وقد منعت الماء في ليلة، فاضطررت لأخذ ماء الوضوء منهم ومن أزيارهم.. وقد كانا يحضران ويتحدثان معي جزءاً من الوقت، ويقفان عند باب الغرفة بكل حسن نية وهما طليقان يقفان في كل مكان بالحوش من غير مراقبة مثلاً.. كل هذه أشياء تستطيعون أن تكبروها وتهللوا بها وتوجهوها إلى صدر الحكومة.. وستطلق سراحي يوم أصبح متعباً لهم في الداخل وأنتم في الخارج.. وإني بعون الله وتوفيقه لن أمكث طويلاً هنا، ولكني سوف أخرج يوم أخرج والنضال الوطني مركز جداً بفضل مجهودكم في الخارج ومجهودي في الداخل..
(من مذكرات أمين محمد صديق)..


المنشور الثاني


وقد كان رد فعل الجمهوريين خارج السجن، مواجهة حاسمة للمستعمر واصرار على المضي في طريق الجهاد، كما بدا في "المنشور الثاني" الذي أخرجوه عقب الحكم بالسجن على رئيس الحزب:-
إن الحزب الجمهوري الذي يسعى جهده ليوقظ الشعب ويخرج الغاصب، ولنيل البلاد مطالبها العليا، سوف لا يثنيه عن غاياته السجن أو التشريد أو العذاب أو حتى الموت.. سيمضى الحزب في سبيله معلناً ثقته في الرئيس ومؤكداً السير في الخطة التي رسمها..
أيها السودانيون: إن الوطنيين في كل زمان ومكان لم يصلوا إلى حقهم المسلوب بالكلام المعسول ومجالسة الحكام الجائرين، والإهطاع نحو المستعمرين، فالحرية تؤخذ ولا تعطى.. فإلى الجهاد، وإلى الكفاح، ولا تستمعوا إلى استهواء أعوان الاستعمار، الذين يريدون أن يحذروكم بالألفاظ البراقة ويسيروكم بالدجل والشعوذة..
أيها السودانيون: يا حماة الحق.. إن الحق بين لا يخفي، وإنكم لتعرفونه بقلوبكم الطاهرة، ونفوسكم السليمة.. إن أعضاء هذا الحزب سيفخرون بأن رئيسهم كان أول سوداني في هذا العهد، يشرف السجن كعربون أول لجهاد في سبيل خدمة البلاد، فشق بذلك الطريق، وضرب المثل، فلنحذو حذوه ولنتخذ منهجه، وليكن مثلنا الأعلى ما قاله الصديق: احرص على الموت تهب الحياة، والله أكبر..
أمين محمد صديق
سكرتير الحزب الجمهورى 29/6/1946م

ونتيجة لهذه الضغوط فقد استشار الحاكم العام السيد الدرديري محمد عثمان الذي كان زميلاً للأستاذ محمود بكلية غردون، فقال له الدرديري: إنه يعرف الأستاذ محمود منذ الصبا، فهو لا يمكن أن يتنازل عن رأي يراه الحق حتى لو أدي ذلك إلى موته.. فأصدر الحاكم العام قراراً بإطلاق سراح الأستاذ محمود دون قيد أو شرط بعد خمسين يوماً فقط فلم يكمل العام المقرر في الحكم الأساسي.. وذلك بسبب الأثر الذي تركته المواجهة داخل وخارج السجن.. نشر الخبر في الصحف فانهالت البرقيات والرسائل على مكتب الحزب الجمهوري بالتهنئة لهذا النضال المشرف لرئيسه، وإليك نماذج من تلك البرقيات:

سكرتير الحزب الجمهوري - أمدرمان
كان سجن الرئيس درساً قيماً لشباب الجيل في الإيمان والروح وقد سررنا لخروجه لا شفقة عليه ولكن ليواصل الجهاد الوطني..
حسن بابكر القضارف 24/7/1946م


محمود محمد طه – الحزب الجمهوري – أمدرمان
تأكل النار الصدأ واللمما وبها يسمو كريم الذهب
ويرى الحر العذاب المؤلما لذة في الحق ياللعجب
ياسجيناً قدره قد عظما وسما حتى جثا في السحب
أحمد محمد عثمان – عطبرة 29/7/1946م


الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري – أمدرمان
أعضاء جبهة المؤتمر الوطني بالأبيض يرون في خروجك من السجن آية واضحة للإيمان بالوطنية الصادقة ويعدون جهادكم رمزاً للكرامة السودانية، فبقلوب مفعمة بالغبطة يشاركون إخوانهم الجمهوريين السرور بعودتكم لميدان الجهاد. السكرتارية 24/7/1946م


أمين صديق، البوستة الخرطوم للرئيس
دخلته رجلاً وغادرته بطلاً وضربته مثلاً
علي عبد الرحمن – الأبيض 27/7/1946م


سكرتير الحزب الجمهوري – الخرطوم
إن جميع أعضاء الجبهة الوطنية بسنجة مستبشرون بالإفراج عن رئيس حزبكم العظيم وهم جميعاً يبتهلون إلى الله أن يسدد خطاكم ويتمنون للرئيس العافية وحسن الجهاد..
سكرتير عام الجبهة الوطنية- سنجة 2/8/1946م


محمود محمد طه أمدرمان
عرفنا فيك المثل الأعلى منذ عهد الطلب، فسرنا أن يعرف القاصي والداني هذا القلب الكبير.
صديق الشيخ – كوستي 30/7/1946م


محمود محمد طه – أمدرمان
أوفيت كرامة السودان وإبائه حقهما – فلتعش رمزاً صادقاً للوطنية الخالصة- لك تقديرنا وإعجابنا.
اتحاد طلبة كردفان- الأبيض 23/7/1946م


محمود محمد طه – أمدرمان
لقد سجلت بعزمك القوى وإيمانك الصادق فخراً للأجيال فالتعش مرفوع الرأس – لك مني التهاني.
الطيب حسن / عطبرة 24/7/1946م