إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مشكلة الشرق الأوسط

إعادة بناء الهيكل


وكان زعيم اليهود العائدين من السبي هو ((زروبابل)) وقد أرجع معه، بتوجيه من الملك الفارسي كورش، كنوز الهيكل التي نهبها نبوخذ نصر.. وقد اعترفت به الجماعة العائدة حاكماً عليها.. وبعد صعوبات عديدة واجهته نجح في بناء الهيكل ثانية في عام 515 قبل الميلاد.. وكان ذلك على عهد داريوس ملك الفرس، وقد تم بناء الهيكل على نفقة حكومته..
وفى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد سمح ملك الفرس على ذلك العهد لفوجين متتاليين من أفواج المسبيين بالعودة إلى وطن آبائهم.. وكان على رأس أحد هذين الفوجين نحميا، وهو فتى يهودى في الحادية والعشرين، وكان يعمل في البلاط الفارسي ببابل، وقد وصل على رأس فوجه في عام 444 قبل الميلاد، وكان هدفه الصريح إعادة بناء أسوار اورشليم.. وقد تم له ذلك ولكن في وجه معارضة شديدة من جيرانه.. وكان بين المعارضين زعيم عربى يدعى جشمو، يعتقد بعض المؤرخين انه قد يكون من قبيلة ثمود التي كانت تسكن فلسطين.. وحكم نحميا شعبه في ظل السيادة الفارسية بين عامى 444 ـ 432 قبل الميلاد وكانت دولته دولة دينية..
وكان على رأس الفوج الثاني من فوجي المسبيين العائدين عزرا، وهو قد يكون المذكور عندنا في القرآن باسم ((عزير))..
وكان قد سبق نحميا إلى اورشليم برخصة من ملك الفرس ليصلح دين الشعب اليهودى، وكان يرمي إلى إيجاد عقيدة دينية نقية، وكان يرمي أيضاً إلى نقاوة العنصرية.. وقد بلغ من ذلك أنه كان يأمر بطلاق النساء غير اليهوديات، ويعتبر أبناءهن غير شرعيين.. فكأن عزير قد كان ممن يربطون ربطاً وثيقا بين الدين اليهودي وبين عنصرية بني إسرائيل، وهو في ذلك يختلف عما يفهم ارميا، وعما يوصى به، فقد ورد في رسالة له بالاصحاح التاسع والعشرين قوله: ((هذا كلام الرسالة التي أرسلها ارميا النبي من أورشليم إلى بقية شيوخ السبي، وإلى الكهنة والأنبياء، وإلى كل الشعب الذين سباهم نبوخذ نصر من أورشليم إلى بابل بعد خروج يكنيا الملك، والملكة، والخصيان، ورؤساء يهوذا، وأورشليم، والنجارين، والحدادين من أورشليم بيد العاسة بن شافان وجمريا بن حلقيا اللذين أرسلهما صدقيا ملك يهوذا إلى نبوخذ نصر ملك بابل، قائلاً هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لكل السبي الذي سبيته من أورشليم إلى بابل.. أبنوا بيوتاً واسكنوا واعرشوا جنات وكلوا ثمرها.. خذوا نساء ولدوا بنين وبنات، وخذوا لبنيكم نساء وأعطوا بناتكم لرجال فيلدن بنين وبنات وأكثروا هناك ولا تقلُّوا، واطلبوا سلام المدينة التي سبيتكم إليها، وصلوا لأجلها إلى الرب لأنه بسلامها يكون لكم سلام لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لا تغشكم أنبياؤكم الذين في وسطكم، وعرافوكم، ولا تسمعوا لأحلامكم التي تتحلمونها لأنهم إنما يتنبأون لكم باسمي بالكذب أنا لم أرسلهم يقول الرب))..
هذا ما قاله الرسول ارميا وهو قول يحارب التعصب العنصري، ويدعو اليهود إلى الامتزاج بالمجتمع الذي يعيشون فيه، وإلى الإخلاص للبلد التي يسكنونها، بل ويحذر من دعاة العنصرية والتعصب، ويصمهم بالكذب على الله وإن ادَّعوا أنهم مرسلون.. ولكن جرت سنة النفوس أنها أكثر ميلا إلى التعصب والعنصرية، وضيق الأفق، منها إلى ما تدعو إليه الأديان من التسامح والأخوة، وسعة الإدراك.. وكلما ألحّت عوامل الحياة على اليهود أن يعايشوا شعوبا أخرى، وأن ينسوا عنصريتهم وينغمسوا في مجتمعهم المختلط الجديد، لم يعدموا من بين صفوفهم الأنبياء الكذبة الذين يشدونهم إلى التعصب شداً عنيفاً والتطور لا يقف.. فمع إن اليهود قد استمتعوا بامتياز الحكم الذاتى في عهد زروبابل ونحميا فإن اللغة العبرية لم تعد إلى حياتهم اليومية كما كانت من قبل، وإنما أصبحت تستعمل في الحيز الديني، وحلّت محلها، في المعيشة اليومية كلغة دارجة، اللغة الآرامية.. وكذلك كلغة للمراسلات الرسمية، وأخذت اللغة العبرية تندثر، وقد تركت عند اندثارها تراثاً غنياً من المفردات في أكثر اللغات المتحضرة، ويرجع أصل كثير من أسماء الأعلام عندنا نحن، في اللغة العربية، إليها، مثل اسم ابراهيم، ويوسف، واسحق، واسماعيل، ويحيى، ومريم، وداود، وسليمان، وكثير غيرها، وأسماء الملائكة.. والقرآن ملئ بهذه المفردات العبرية، أو المفردات التي أتت من لغات أخرى، كالفارسية مثلاً عن طريق اللغة العبرية، ككلمة الفردوس، على سبيل المثال..
ثم ظهر الاسكندر على مسرح التاريخ، فقوَّض ملك فارس، وخضعت له أورشليم.. وأصبحت على عهده اللغة اليونانية هي لغة العلم.. ثم مات الاسكندر في عمر مبكر، وتمزقت امبراطوريته التي أنشأها بسرعة شديدة إلى أربع دول، وقد قام على رأس كل دولة منها أحد قواده الكبار: بطليموس في مصر، وسلوقس في مرزبانة بابل، وأنتيفونس في آسيا الصغرى، وانيتياتر في مكدونيا.. وإنما يهمنا في موجزنا هذا سلوقس، لأنه مؤسس الدولة السورية، وكان ذلك بين عامي 312 و280 قبل الميلاد.. ومن اسمه يجئ اسم الدولة السلوقية وقد سار هو وخلفاؤه من بعده سيرة الاسكندر.. وكانت مملكته أعظم الممالك التي قامت على أنقاض ممتلكات الاسكندر، في قوتها واتساعها.. وبين عامى 175 و164 قبل الميلاد خلف على عرش الدولة السلوقية أحد أحفاد سلوقس، وكان اسمه انطيوخس الرابع، وكانت عاصمة ملكه مدينة انطاكية، وكان يسير سيرة أسلافه في نشر الثقافة الهلينية، بيد أنه ذهب أبعد مما يجب، وبلغ من أمره أن أعلن نفسه إلها وفرض عبادة نفسه على رعيته.. وقد وجد الاستجابة من السوريين، ووجد أشد المعارضة من اليهود..
ويحدثنا الدكتور فليب حتى من كتابه ((تاريخ سورية ولبنان وفلسطين)) الجزء الاول، الصفحة 267 عن ذلك فيقول: (كانت الارستقراطية والأغنياء والطبقة المتطورة بين اليهود في اورشليم قد تجاوبت حتى الآن مع العوامل الخارجية بتبنيها اللغة والعادات اليونانية، وكانت على استعداد الآن للتعاون.. ولم يكن لديهم أيِّ اعتراض على تسميتهم انطاكيين.. وأصبح اللباس اليونانى شائعا بين الشبان، وبدأ الجمنازيوم اليونانى بالظهور.. واعتمد انطيوخس على تعاونهم فشجع اعتبار يهوه مساويا لزفس واقام مذبحاً في المعبد للإله اليوناني وكان ذلك كما جاء في دانيال ((11: 31)) و((تجعل الرجس المخرب))..
ثم يذهب الدكتور يسوق لنا مزيداً من الحديث عن ذلك في صفحة 268 فيقول: ((ومع ذلك كان المتمسكون بأصول الديانة والقوميون بين اليهود متحدين في معارضتهم الأكيدة.. ونشبت الثورة سنة 168 قبل الميلاد بزعامة يهوذا وهو ابن كاهن بسيط يدعى ماتاتياس من الأسرة الهاسونية.. واتخذ بعد ذلك لقب المكابى، ووجهت الثورة في أول الأمر ضد الطبقة العليا التي تستغل الجماهير أكثر منها ضد الحكومة المركزية.. وقد نظم يهوذا وإخوته عصابات غير نظامية تعمل في التلال وتتجنب المعارك النظامية مع القوات الملكية.. وكان هناك أتقياء (حاسيديم) بين الذين ثاروا على انطيوخس ولم يقبلوا بتدنيس يوم السبت بقيامهم بأعمال حربية لذلك أبيدوا بسهولة.. وتعتبر هذه الحادثة من أقدم حوادث الاستشهاد الديني في التاريخ المدون، وقد احتلت اورشليم بجهود الإخوة المكابيين، فطهَّر الهيكل، وأعيدت الذبائح اليومية.. ولتخليد هذه الذكرى أقيم عيد هنوكة (التكريس) ولا يزال يحتفل به سنويا منذ ذلك الحين)) هذا ما قاله الدكتور فيليب حتى..

جمهورية يهودية


وقد كانت حركة الإخوة المكابيين في بدايتها ثورة دينية، ثم تطورت إلى ثورة قومية تستهدف تحرير البلاد، ولم يكن الصراع ضد قوات الحكومة فقط.. بل كان أيضا صراعاً بين هؤلاء القوميين اليهود وبين قومهم من أنصار الثقافة الجديدة، الذين كانوا قد ألّفوا حزباً باسم الحزب الهلنستى (حزب الإصلاح) وقد انتصر القوميون اليهود على قوات الحكومة كما انتصروا على أنصار الثقافة الجديدة من قومهم.. واضطر الملك السلوقى ديمتريوس الثاني إلى منح اليهود المنتصرين الاستقلال، وانتخب سمعان، وهو شقيق يهوذا، في عام 141 قبل الميلاد كاهنا أعظم وحاكماً على الجمهورية اليهودية الجديدة.. وأخذ سمعان يضرب النقود ودخلت اورشليم عهداً جديداً، وأخذت تؤرخ منذ ذلك الحين فصاعدا كما يلي: ((فى السنة الأولى من حكم سمعان الكاهن الأعظم والحاكم)).. وقد دامت هذه الجمهورية اليهودية الجديدة إلى ظهور الرومان في مسرح التاريخ خلفاً لليونان.. وذلك بعد ثمانين سنة من بدء ظهور هذه الجمهورية اليهودية..
وبظهور الرومان في مسرح التاريخ، وحلولهم محل اليونان في السلطة، أصبحت سوريا ولاية رومانية، ونقضت من يومئذ سلطة الجمهورية اليهودية وجُرد الكاهن الأعظم من السلطان، وفُرضت على السكان الضرائب الباهظة، وكان ذلك حوالي سنة 60 قبل الميلاد.. وأصبح بذلك الكاهن الأعظم مجرد رئيس طائفة دينية تعينه الاستقراطية اليهودية.. وأما عامة اليهود فقد انبثوا في جاليات في سائر المدن السورية يعايشون في تحفظ، السكان المختلفين، ويحتفظون بالعبرية كلغة مقدسة..
كان المجتمع السوري، عقب الفتح الروماني، قد أخذ يستجيب لتأثير الحضارة الرومانية، ما عدا اليهود فإن ارستقراطيتهم كانت قد انصبغت بالصبغة اليونانية، وعامتهم قد اقامت على نقاوة دينية، وعلى تعصب موروث من عهد الإخوة المكابية التي وردت الإشارة إليها آنفا..

نهاية اليهود كدولة


يحدثنا الدكتور فليب حتى في كتابه آنف الذكر صفحة 375 عن نهاية اليهود على أيدي الرومان، فيقول: ((عومل اليهود منذ عهد بومبى كجماعة متميزة بسبب الوحدانية الشديدة لدينهم.. فكانوا في عهد الأباطرة معفيين من الخدمة في الجيش ومن الطقوس الواجبة نحو الامبراطور.. فلم يطلب منهم المساهمة في عبادة الحاكم الروماني المقرونة بتقديم القرابين له.. وكانوا بممارستهم سياسة الانطواء والعزلة يغذون شعورهم القومي.. وأدى هذا إلى اصطدامات اتسعت فأصبحت ثورة قومية بين 66-70 ميلادية.. في عهد نيرون وبين 132-134 تحت حكم هادريان.. ونتج عن هاتين الثورتين الانفصام النهائي بين اليهود والمسيحيين وحلت بالمجتمع اليهودى كارثة دائمة))..
ففى الثورة الأولى عهد نيرون بقمعها إلى أحد قواده الذي أخضع الريف والحصون المنعزلة ودمر بعض المدن ومنها مدينة يافا.. ثم قام قائد روماني آخر على رأس جيش جرار فحاصر اورشليم مدة خمسة شهور سقطت بعدها في أيدي الرومان، وكان ذلك في سنة 70 ميلادية، وقد حل بالمدينة من الخراب ما تقشعرُّ له الأبدان، ويكفي في تصوير هذه الفاجعة الميثاق المتبادل بين اليهود الذين تعهدوا فيه بإبادة أنفسهم حين كان الرومان يفتحون المدينة.. وكانت الخطة التي اتفقوا عليها أن يقتل كل منهم نساءه وأطفاله ثم يلقي سلاحه ويقدم رقبته ليتلقى الضربة القاضية من الذي جعلته القرعة منهم يباشر هذه المهمة الكئيبة.. وقد كتب الوصف التالي مؤرخ ساهم بنفسه في هذه الحرب، قال:
((كان الأزواج يضمون زوجاتهم بحنان ويحملون أطفالهم بين أذرعهم ويتعانقون عناق الوداع والدموع تترقرق في مآقيهم، ولكنهم نفذوا في الوقت ذاته ما اعتزموا عمله كأنهم يعملون ذلك بأيد غريبة.. وقد جعلوا عزاءهم لضرورة ما قاموا به تفكيرهم بالمصائب التي سيقاسونها فيما لو سقطوا بأيدى أعدائهم.. وكانوا رجالاً تعساء بالحقيقة بسبب الضرورة التي وجدوا فيها وهم الذين بدا لهم ذبح زوجاتهم وأطفالهم بأيديهم أهون الشرور التي تنتظرهم))..
هذا ولقد أجبر كثير ممن بقي من هؤلاء ووقع في الأسر أن يقاتل بعضهم بعضاً، أو يقاتل ضد الحيوانات المفترسة في المدرجات.. ومنعت البقية الباقية منهم من الاقتراب من عاصمتهم اورشليم التي كانت قد دمرت تدميراً تاماً وأحرق معبدها، ولقد قدر عدد من لقى حتفه في هذه الكارثة بمليون يهودى..
ثم إذا كان موعد الثورة اليهودية الثانية على الرومان تعرض اليهود لقصة موت أخرى، وذلك بين عام 132 وعام 134م، حين قام قائد غامض يسمى سيمون باروخبا بثورة سحقها هادريان الرومانى، ودمر في سحقها من القرى ما قدر بتسعمائة وخمس وثمانين قرية، وقدر عدد القتلى من السكان بخمسمائة وثمانون الفاً، وحوّل اورشليم إلى مستعمرة رومانية، وانتهت بذلك الأمة اليهودية كأمة لها وطن، ومن يومئذ ((تفرق اليهود في مختلف أنحاء العالم فلم يكن لهم بيت أو وطن، وأينما حلوا كانوا يعاملون معاملة الغرباء غير المرغوب فيهم)) كما يحدثنا جواهر لال نهرو في كتابه (لمحات من تاريخ العالم) ويمضى نهرو في حديثه ذلك فيقول ((فاضطروا أن يسكنوا في أماكن خاصة في المدن منفصلة عن باقي الأحياء، حتى لا يدنسوا بقية الناس.. وكانوا في بعض الأحيان يجبرون على ارتداء ألبسة خاصة تميزهم عن غيرهم.. لقد أذِلوا، وعُذبوا، وذُبحوا، حتى إن كلمة يهودي أصبحت مرادفة للبخل والربا، ومع ذلك فقد استطاع هذا الشعب العجيب أن يعيش ويحتفظ بكل مقوماته وينجح وينجب رجالاً يعتبرون من أعظم رجال العالم.. فترى منهم اليوم العلماء والسياسيين والأدباء ورجال الأعمال والمال، غير إن أغلبيتهم لا تعتبر غنية، فترى كثيراً منهم يتجمعون في مدن شرقي اوروبا ويتعرضون من أن لآخر لمذبحة من المذابح.. فهؤلاء الناس الذين يعيشون بلا بيت ولا وطن يحلمون دائماً بالقدس التي تتراءى لهم أحسن وأعظم مما هي بالحقيقة.. يسمون القدس ((صهيون)) والأرض الموعودة ومنها كلمة ((الصهيونية)) التي تعني نداء الماضي للعودة إلى القدس)).. هذا ما يحدثنا به نهرو في نهاية اليهود كدولة على أيدي الرومان، عام 134م..