إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

النفس السفلى


ولما انحطت النفس السفلى عن النفس العليا ذهبت إلى أقصى درجات الانحطاط، وهو عندنا أبسط صور المادة، وتلك هي ذرة غاز الهايدروجين.. وعن انحطاطها، إلى أقصى درجات الانحطاط، وردت الإشارة في قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين).. ثم هي، من تلك الدرجة البعيدة، أخذت تستأنف سيرها راجعة إلى الله بمحض الفضل الإلهي، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى، بعد الآية السالفة الذكر: (إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات.. فلهم أجر غير ممنون).. وهذا الأجر غير الممنون إنما هو تعلق النفس السفلى بالنفس العليا.. وقد ظهر هذا التعلق في هذه المرحلة من مراحل الرجعى في صورة العقل.. فالعقل هو الزمام الذي به تقود النفس العليا النفس السفلى.. أو، قل بعبارة أخرى، إن العقل هو وسيط تطوير النفس السفلى نحو النفس العليا، لأن عليه قام التكليف بشريعة النهي والأمر، والحرام والحلال.. فهو، بالتزامه جانب الحلال، وحمله إياها عليه، واجتنابه جانب الحرام، وإزعاجه إياها عنه، يتسامى بها عن تسفلها نزوعا إلى العلا.. وهو، حين يتجافى عن الحرام، ويزعجها عنه، أنما يضطرها لكبت بعض رغائبها الخاصة إستجابة لنداء الواجب، الصادر من النفس العليا، التي هي في اتصال مع الله..
إن صورة الأمر، ببساطة، هي أن النفس السفلى نفس حيوانية حافزها للسعي هو اللذة، من حيث هي لذة، فلما هبط عليها العقل من جهة النفس العليا إنما هبط عليها ليسوس شهوتها، فلا يسمح لها منها إلا بما لا يعوق تساميها نحو النفس العليا.. وهذا هو الغرض وراء التكليف بشريعة الأمر، والنهي، والحلال، والحرام.. ولقد لبثت النفس السفلى تتطور عن طريق الجسد، قبل ظهور العقل، زمنا سحيقا، وردت إليه الإشارة في قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟؟).. وهذا الزمن السحيق هو الذي تمت خلاله التسوية المعنية في قوله تعالى: (فإذا سويته).. فلما تأذن الله للنفس السفلى أن تتحرك بسرعة نحو النفس العليا ركب فيها العقل، وأمره بسياسة شهوتها.. وهذا العقل هو روح الله المنفوخ، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) وذلك من الآية الكريمة: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته، ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة، كلهم، أجمعون * إلا إبليس، أبى أن يكون من الساجدين).. ولم يكن سجود الملائكة له سجود عبادة، وإنما هو سجود تسخير لإعانته على البر، والخير.. ولما أبى إبليس أن يكون مع الساجدين إنما كان ذلك إشارة إلى تخذيله الإنسان عن الخير، والبر، ومن ثم، عن التسامي نحو النفس العليا، ابتغاء تسفيله، وجذبه إلى أسفل سافلين، حيث كان آنفا، وحيث موطن إبليس الآن..

العـقــل


العقل إذن هو الوسيط بين النفس العليا والنفس السفلى، وهو الذي به سير الله النفس السفلى نحو النفس العليا لتتم هدايتها إلى موطنها الأول، حيث مشارق الأنوار.. قال تعالى في ذلك: (قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل).. قوله: (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) يعني لنفسه العليا.. وقوله: (ومن ضل فإنما يضل عليها) يعني يضل في نفسه السفلى بالسير في ظلمات سراديب الشهوة.. قوله: (قد جاءكم الحق) يعني (الحق) سبب الهداية، وهو العقل، في المكان الأول، والشرع، في المكان الثاني.. وقد أسلفنا القول إلى أن العقل، ليسير النفس السفلى نحو النفس العليا، قد سيطر على شهواتها بميزان الحرام والحلال، فكبت بعضها، وسرح بعضها يمارس نشاطه.. ووقع الكبت في منطقة ما بين أعماق النفس السفلى، حيث مركز الشهوة – القلب – وما بين أعلاها، حيث مركز السيطرة – العقل..
والعقل، لما كان ممدودا بالوحي، فقد أصبح مفتوحا على النفس العليا.. وهو، لما كان مقيدا بالشرع، فقد أصبح مسيرا إلى النفس العليا.. والكبت، في منطقة ما بين العقل والقلب، يقع في سبع طبقات، هي ما سميت بالنفوس السبع.. أدناها للقلب، الأمارة.. فإذا سارت شوطها إلى أن ردها العقل، وحال بينها وبين تنفيذ أمرها بالسوء، إنكسرت موجتها، فأخذت في طريق العودة.. وهو طريق غير طريقها الذي سلكته أولا، ولكنه مواز له.. وعند انكسارها، راجعة، تكون في مرتبة النفس اللوامة.. ثم هي، إذا وصلت إلى حاشية القلب تكون قد قطعت مراحل الملهمة، والمطمئنة، والراضية، والمرضية، وأصبحت في موازاة النفس الأمارة، غير أن منزلتها هي منزلة النفس الكاملة.. ومع ذلك، فهي ليست في سويداء القلب، وإنما هي على حواشيه.. وتطلب في ترقيها زيادة كمالها، كل حين، وهي، كلما كملت، قربت من سويداء القلب.. وفي السويداء كمالها المطلق.. وسيرها إلى كمالها المطلق سير سرمدي، لا ينقضي.. وكمال النفس المطلق في وصولها عائدة إلى نفس الله، حيث تنزلت أول أمرها.. وفي سويداء كل القلوب ذات الله، قلوب الأحياء، وقلوب الجمادات – مراكز ذرات المادة –

الضمير والسريرة


عندما يتحدث الدكتور عن الضمير، وعن السريرة، يظهر الخلط في حديثه بصورة تدل على عدم الدقة في المعاني.. فهو يقول من حديثه الذي أسلفنا إيراده من صفحتي 39 و40: (إن السريرة هي محل الإبتلاء، ومحل المحاسبة والسريرة هي السر المتجاوز للظروف والمجتمع والبيئة والتربية كما أسلفنا في شرحنا المسهب.. فهي المبادرة المطلقة والابتداء المطلق الذي أعتقه الله من كل القيود.. إنها روحك ذاتها وهي الكاشفة عن حقيقتك بمثل ما تكشف بصمة إصبعك عن فرديتك.. وروحك فيها من حرية الله لأنها نفخة منه..
(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) ولأن فيك ذلك القبس من الله ولأنه كرمك بحرية الإرادة فأنت محاسب على هذه الحرية. وهذا منتهى العطاء الإلهي.. ومنتهى العدل أيضا) هذا ما قاله الدكتور!! فما هو الحق في أمر السريرة؟؟ أول ما تجب الإشارة إليه هو أن السريرة هي منطقة كتمان السر.. وكتمان السر عكسه الجهر بالسر.. وكل سر، دونه سر أدق منه، تكون له منطقة أدق، في السريرة تقابله.. قال تعالى في ذلك: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر، وأخفى) ههنا إشارة إلى الجهر، وهو التعبير عن السر بالقول، وأشار إلى السر، وهو حديث العقل دون الجهر، وأشار إلى ما هو أخفى من السر: (السر وأخفى).. وتتفاوت منازل الخفاء حتى تصل إلى منطقة النفس الكاملة.. فليست للإنسان سريرة واحدة، وإنما له سرائر كثر، قال تعالى في ذلك: (فلينظر الإنسان مم خلق؟ * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب * إنه على رجعه لقادر * يوم تبلى السرائر * فما له من قوة ولا ناصر).. لكل منزلة من منازل النفوس سريرة تقابلها، وتلك سريرة تدق كلما علت مرتبة النفس في درجة الكمال، فهناك السريرة في مرتبة النفس اللوامة.. وهذه الاسم الغالب عليها هو الضمير.. وهناك السريرة في مرتبة النفس الملهمة.. وهذا هو الاسم الشائع عندما نتحدث عن السريرة باعتبارها مكان السر، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: (قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.. فأسرها يوسف في نفسه، ولم يبدها لهم، قال: أنتم شر مكانا، والله اعلم بما تصفون.).. والسرائر، عندما تتداعى إلى النفس الكاملة، تكون قد قطعت طبقات العقل، وهو مرحلة الإدراك (الشفعي) وأطلت على القلب، وهو مركز الإدراك (الوتري).. وقد وردت الإشارة إلى السر في طبقات العقل، حيث الإدراك الشفعي، وإلى السر في سويداء القلب، حيث الإدراك الوتري، في قوله تعالى: (وأسروا قولكم، أو اجهروا به.. إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو، اللطيف الخبير؟).. قوله (وأسروا قولكم)، إشارة إلى الإسرار في منازل السريرة المختلفة في مقابل منازل النفوس.. قوله (إنه عليم بذات الصدور) إشارة إلى سريرة السرائر، التي لا يعلمها إلا الله، وإلى هذا السر الدقيق في سريرة السرائر، والذي لا يعلمه إلا هو وردت الإشارة في الآية الثانية (ألا يعلم من خلق وهو، اللطيف الخبير؟).. فإن لطف السر، ههنا، يقابله اسم الله اللطيف، فإنه هو كفؤه، بل هو هو.. فأنت حين تتحدث عن السريرة التي تُبتلى، في قوله: (يوم تبلى السرائر)، لا تعدو أن تكون متحدثا عن السر في طبقات العقل، لأن هذا السر هو مجال الإيمان، ومجال النية، اللذين لا يكون عمل صالحا بغيرهما معا.. والسر في منطقة العقول ليس معفيا من القيود، فإنه إنما سمي العقل عقلا لأنه معقول، ومقيد.. هو مقيد بعجزه عن الإدراك في منطقة الوترية.. ومن ثم، فإن قولك: (إن السريرة هي محل الإبتلاء، ومحل المحاسبة… والسريرة هي السر المتجاوز للظروف والمجتمع والبيئة والتربية كما أسلفنا في شرحنا المسهب.. فهي المبادرة المطلقة والإبتداء المطلق الذي أعتقه الله من كل القيود)، قول يتناقض مع بعضه، في المكان الأول، ثم أنه غير دقيق، الدقة العرفانية الكافية، في المكان الثاني.. كأنك تريد سر الأسرار في سويداء القلوب، وهذا ليس هو الإنسان، وإنما هو ذات الله، وهو المقيد للإنسان، والمسير له.. وإلى ذلك التسيير الإشارة بقوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا، فملاقيه).. وإليه أيضا الإشارة بقوله تعالى: (إن كل من في السموات، والأرض، إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)..