إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تطوير شريعة الأحوال الشخصية

الـزواج


الزواج في الحقيقة:


هناك زواج في ((الحقيقة)).. وهناك زواج في ((الشريعة)).. فأما، في (الحقيقة) فإن زوجتك هي صنو نفسك.. هي شقيقة نفسك.. هي انبثاق نفسك عنك خارجك.. وهي، بذلك جماع آيات الآفاق لك.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى ((سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسـهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟؟)).. وما يقال، في هذا المستوى، عن موضع الزوجة من الزوج، يقال عن موضع الزوج من الله.. فالزوجة هي أول تنزل من الوحدانية الحادثة إلى الثنائية.. هذه هي الزوجة في ((الحقيقة)): ((يا أيها الناس اتقوا ربكم، الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا، ونساء.. واتقوا الله الذي تساءلون به، والأرحام.. إن الله كان عليكم رقيبا)).. وهذه النفس الواحدة هي، في أول الأمر، وفي بدء التنزل، نفس الله، تبارك وتعالى - هي الذات القديمة التي منها تنزلت الذات الحادثة، وتلك هي الإنسان الكامل (الحقيقة المحمدية).. والإنسان الكامل هو أول قابل لتجليات أنوار الذات القديمة - الذات الإلهية- وهو، من ثم، زوجها.. وإنما كان الإنسان الكامل زوج الله لأنه إنما هو في مقام العبودية.. ومقام العبودية مقام انفعال، في حين أن مقام الربوبية مقام فعل.. فالرب فاعل، والعبد منفعل.. ثم تنزلت من الإنسان الكامل زوجته.. فكان مقامها منه، مقامه، هو، من الذات.. فهي منفعلة، وهو فاعل.. وهذا هو، في الحقيقة، مستوى العلاقة ((الجنسية)) بين الرجل والمرأة.. وقد خلق الله تبارك، وتعالى، من كل شئ زوجين، اثنين.. والحكمة في خلق الزوجين هي أن تستطيع العقول أن تدرك الأشياء.. لأن العقول إنما برزت بالثنائية، ولا مجال لها في الإدراك في مرتبة الوحدة المطلقة.. قال تعالى، عن حكمة خلق الأزواج: ((ومن كل شئ خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون)).. هذه هي العلة في خلق الزوجين: ((لعلكم تذكرون)).. و((تذكرون)) هنا تعني تميزون، وتعلمون.. وإنما سمي (العلـم) تذكراً، لأننا، في الواقع لا نتعلم شيئا مستانفاً، وإنما نحن فقط نتذكر ما قد نسينا.. ذلك بأن فينا، مركوزة، الحقيقة الأزلية - الذات المطلقة- ولكنا نسيناها، فجاء القرآن، بتشاريعه في العبادة، وفي العادة، ليذكرنا بهذه ((الحقيقة)) التي نسيناها: ((ولقد يسرنا القرآن للذكر * فهل من مدكر؟)).. وإلى خلق الأزواج كلها أشار، تبارك وتعالى، بقوله: ((سبحان الذي خلق الأزواج كلها، مما تنبت الأرض، ومن أنفسهم، ومما لا يعلمون)).. ((ومما لا يعلمون)) هذه، تحوي الإشارة إلى زوج الذات الحادثة ((ومن أنفسهم)) هذه، تحوي العبارة عن أزواجنا - المرأة- و ((مما تنبت الأرض)) هذه، تحوي الإشارة إلى كل شئ.. وحين يكون إنجاب الذرية هو نتيجة العلاقة ((الجنسية)) بيننا وبين نسائنا: ((وبث منهما رجالا كثيراً، ونساء))، تكون ثمرة العلاقة بين الذات القديمة وزوجها - الإنسان الكامل- المعارف اللدنية.. فإن انفعال العبودية للربوبية يرفع الحجب التي أنستنا النفس التي هي أصلنا - نفس الله، تبارك، وتعالى: ((يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)).. وحين يتم اللقاء بين هذين الزوجين - الذات الإلهية، والإنسان الكامل - ينبث العلم اللدني، في فيض يغمر العبد العالم من جميع أقطاره.. ومن هذا العلم.. اللدني رجال، ونساء، ((وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون)).. فهذا الوضع بين الذات الإلهية، والإنسان الكامل - انفعال العبودية بالربوبية - هو الذي جاء الوضع منه بين الرجال والنساء- انفعال الأنوثة بالذكورة.. وهو ما يسمى عندنا، بالعلاقة ((الجنسية)).. وهي علاقة عظيمة الشرف لأنها، حين تقع بشريعتها بين الأطهار الرفعاء، العارفين بالله، تكون ثمرتها، المباشرة تعميق الحياة، وإخصابها، ووصلها بالله، بغير حجاب.. وهذه هي ذروة اللذة.. وتكون ثمرتها، شبه المباشرة، المعارف اللدنية، التي تفاض والتي تغمر الذكر، والأنثـى، اللذين تقع بينهما هذه المشاركة النظيفة الرفيعة.. ثم تكون ثمرتها، غير المباشرة، الذرية الصالحة من بنين وبنات: ((وبث منهما رجالا كثيرا، ونساء..)).. وإنما عنيت بالمباشرة المتصلة بالذات الإلهية، وشبه المباشرة، التي تليها من حيث القرب من الذات، وغير المباشرة التي تلي هذه.. ثم تتوالى اللذات في التنزل كلذة الاستمتاع، والانتفاع بالذرية الصالحة، التي تكون قرة عين في الدنيا والآخرة..
ومن أجل شرف هذه العلاقة ((الجنسية)) الذي حاولنا أن نبينه في الأسطر السابقات وقع شديد الحرص عليها في الدين.. وهي أكبر مظهر للحياة في مجال تعبيرها عن وجودها.. ومن أجل ذلك قامت على تنظيمها أول ((شريعة)) عرفها الإنسان، ووقع عليها أول ((كبت)) في العقل الباطن.. ومن أجل هذا ((الكبـت)) الذي وقـع في ((قـاع)) العقل شرع الرجم بالحجارة.. تصوب إلى الدماغ، عقوبة على مخالفة الممارسة.. وشدد في أمر عقوبة الزنا على العموم.. أكثر من ذلك!! شددت العقوبة على القاذف به غيره إن لم يستطع أن يثبته عليه.. فكان أدق حدين في الإسلام حد الزنا، وحد القذف.. قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون)) بل أكثر من ذلك!! شدد في زجر الخائضين فيه.. فقال: ((ولولا فضل الله عليكم، ورحمته في الدنيا والآخرة، لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هينا، وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم: ما يكون لنا أن نتكلم بهـذا، سبحانك، هذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا، إن كنتم مؤمنين))..
وقال في وعيده الذين يتهاونون في هذا الخوض: ((إن الذين يرمون المحصنات، الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، بما كانوا يعملون)).. بل أكثر من ذلك!! فإنه توعد، أشد الوعيد، الذي يسمحون لخواطرهم أن تجول في نسبة الزنا للآخرين.. فقال، تبارك، وتعالى: ((إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، في الدنيا والآخرة، والله يعلم، وأنتم لا تعلمون)).. ولم ينه الله، تبارك، وتعالى، عن مقارفة الزنا نفسه، بل نهى حتى عن مقاربته فقال، عز من قائل: ((ولا تقربوا الزنا.. إنه كان فاحشة، وساء سبيلا)).. ولخطر هذا الجرم عنده شدد في إثباته، تشديداً يجعله في حكم المستحيل.. ويكفي أن يقال أنه لم يقع، في طول تاريخ الإسلام، إثبات شرعي لجريمة الزنا: وما وقع فيه من إقامة الحدود لم يقع إلا بالاعتراف.. ثم يجيء التشديد من جانب المعصوم.. فيقول: ((لا يزني الزاني، حين يزني، وهو مؤمن)).. وهذا أمر في غاية الخطـورة.. ذلك بأن هذا الحديث إنما يعني أن الإيمان يرفع عن المؤمن، لحظة المقارفة، حتى أنه لو مات فيها مات على غير الإيمان.. ويقول المعصوم، في هذا التشـديد أيضا، ((يا أمة محمد!! والله ما أحد أغير من الله، أن يزني عبده، أو تزني أمته.. يا أمة محمد!! والله لو تعلمون ما أعلم، لبكيتم كثيرا، ولضحكتم قليلا..))..
هذا قليل، من كثير، يقال في إحاطة هذه العلاقة الرفيعة، بين الرجل والمرأة، بأسباب الصيانة، والحفظ.. وهي، لمكان كرامتها، وعظيم أثرها في حياتنا، لا يحفظ علينا صونها إلا الله.. قال تعالى في ذلك: ((يأيها الذين آمنوا!! لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء، والمنكر.. ولولا فضل الله عليكم، ورحمته، ما زكى منكم من أحد أبدا، ولكن الله يزكي من يشاء.. والله سميع عليم..))..قوله: ((فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر..)).. ((الفحشاء)) هنا الزنا.. ((والمنكر)) هنا اتهام الآخرين به.. قوله: ((ولولا فضل الله عليكم، ورحمته، ما زكى منكم من أحد أبدا، ولكن الله يزكي من يشاء..))، يعني ما تطهر، ولا تصـون، ولا تنظف من أوحال الممارسة، غير المشروعة أحد أبدا.. قوله ((ولكن الله يزكي من يشـاء)) بشرى بعموم الزكاة.. فإن العباد بها، جميعا، سيتزكون.. وجاءت العبارة الفاصلة بقوله: ((والله سميع عليم))، لتؤكد هذا المعنى الذي ذهبنا إليه.. فهو ((سميع)) لنداء الفروع التي تطلب الأصول وقد حجبتها عنها الخطيئة.. وهو ((عليم)) بطريق خلاصها من الخطيئة، لتعود إلى وطنـها في الذات: ((يأيها الناس اتقـوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحـدة)).. وقـد أسلفـنا في ذلك القول..
وفي عجزنا عن صون أنفسنا، ومجيء الصون من فضل الله علينا قال تعالى: ((الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله، بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم.. فالصالحات قانتات، حافظات للغيب، بما حفظ الله.. واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع واضربوهن.. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا.. إن الله كان عليا كبيراً..)).. قـوله: ((الرجال قوامون على النساء)) يعني أوصياء، متسلطون، لهم عليهن حق الطاعة.. فإن قلت ما هي الحكمة وراء هذا التسليط؟؟ قلنا: الحفظ - حفظ فروج النساء- هذا في المرحلة.. ويجيء قوله تعالى: ((فالصالحات قانتات حافظات للغيب))، ومعنى الصالحات الطاهرات، الصينات.. ومعنى قانتات مطيعات لربهن، ولأوليائهن من الرجال.. ومعنى((حافظات للغيب))، حافظات لفروجهن هذا الحفظ يكون بدوافع من طاعة الله، والخوف من الله، ويكون بطاعة الأولياء، والخوف من الأولياء.. هذا جميعه في المرحلة.. ثم تفضي المرحلة إلى العفة، والصيانة المضروبة على الرجال والنساء جميعا والتي أشار إليها، تبارك، وتعالى، هنا إشارة لطيفة بقوله: ((بما حفظ الله)).. ويطيب لي هنا أن أشير إلى أس الرجاء في هذه الآية لجميع النساء، وذلك أنهن حين يبلغن هذا المبلغ من العفة، والتصون، ترفع وصاية الرجال عنهن ويكون إليهن، في ظل الله، أمر القيام على أنفسهن، تحت وصاية القانون..

الـزواج في الشـريعـة:


أسلفنا القول عن الزواج في ((الحقيقة))، وندخل الآن على الزواج في ((الشريعة)).. ونبدأ بأن حواء قد كانت زوجة آدم في الحقيقة: ((يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها)).. ففي هذا المقام فإن النفس الواحدة هي نفس آدم، الإنسان الكامل، الذي أقيم مقام الخلافة.. وإنما كانت حواء زوج آدم، في هذا المقام، لأنها تنزل عنه.. ((وخلق منها زوجها..)).. فهي انبثاق نفسه عنه خارجه، كما عبرنا آنفا.. ثم إنه لما كان آدم أول رسول شريعة، من رسل التوحيد، فقد أراد الله له، ولزوجه، أن يكونا زوجين في الشريعة.. ومن أجل ذلك فقد نهاه أن يتصل بها قبل أن تحلل له بالشريعة.. وإلى ذلك الإشارة بقوله: ((ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين)).. وقد جاءت هذه الإشارة في سياق هو في غاية الإمتاع، والروعـة.. يقول تعالى فيه: ((ويا آدم اسكن، أنت وزوجك، الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما: إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين؟؟ * قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا، وترحمنا، لنكونن من الخاسرين * قال: اهبطوا!! بعضكم، لبعض عدو.. ولكم في الأرض مستقر، ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون، وفيها تموتون ومنها تخرجون * يا بني آدم!! قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى.. ذلك خير.. ذلك من آيات الله.. لعلهم يذكرون * يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان، كما أخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما.. إنه يراكـم، هو، وقبيله من حيث لا ترونهم.. إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون))..
لقد أوردنا هذه الآيات الكريمات في كتابنا: ((الرسالة الثانية من الإسلام))، في باب الحديث عن الحجاب.. وأوردنا الآية الأولى منها في باب الحديث عن خطيئة آدم.. وتحدثنا شيئا يسيراً عن الشرح.. ونحن نورد هذه الآيات الآن في باب الحديث عن الزواج في الشريعة. وقـد نتحدث فيها بشئ يسير من التبسيط.. قوله ((ويا آدم)) يعني الخليفة، يعـني الإنسـان الكامـل ((اسكن، أنت وزوجك))، يعني زوجك في الحقيقة ((الباطنة))، والتي سيتم اقترانك بها في شريعتك ((الظاهرة)) فتنطبق بذلك الصنيع شريعتك، وحقيقتك.. وظاهرك، وباطنك.. ولكن قبل أن يتم هذا الاقتران الشرعي يجب أن لا تقربها، وقد وردت الإشارة اللطيفة إلى ذلك بقولـه: ((ولا تقربا هذه الشجرة)) فإنكما إن تفعلا، تكونا من ((الظالمين))، المعتدين على حد الشرع.. وهذه إشارة إلى أول الشرائع، التي بدأ الإنسان يرتفع بها في مراقي النفوس، وجاءت منظمة للغريزة ((الجنسية)).. وهي طرف من الغريزة الوحيدة - غريزة ((الحياة)) وخادمتها الأولى.. وبهذا التنظيم نهض التكليف، الذي به ارتفع الإنسان عن الحيوان، فخرج من النفس الأمارة ودخل مرتبة النفس اللوامة.. و ((الشجرة)) هنا لها درجات من المظاهر.. أولها، وأدناها لآدم، نفسه التي بين جنبيه.. ثم هي، في تنزلها عنه، شهوة نفسه هذه إلى الجنس.. ثم هي حواء.. ثم هي شجرة التين.. فإن شجرة التين إنما هي رمز النفس الأمارة.. وإنما نهي عنها لئلا تقوى بأكلها نفسه الحيوانية فتتكثـف وتغلـظ فلا تطيعه على التصعد باتباع الأمر الشرعي، واجتناب النهي الشرعي ومن أجل هذه الحكمة، نفسها، نهينا، نحن المسلمين، عن أكل الدم المسفوح، لأنه هو النفس، وإذا ما أكلناه أضفنا نفسا إلى نفس، فتطورنا في الكثافة بدلا من اللطافة.. وتسفلنا، وأخلدنا إلى الأرض، بدلا من الترفع والتسامي.. وهو أيضا ما من أجله حرم علينا لحم الخنزير.. فإن الخنزير، بما جبل عليه من أخلاق الحرص والشره، هو أيضا رمز للنفس الأمـارة.. ومن هذا الباب يجيء تحريم ما أهل لغير الله به.. وكذلك تحريم الميتة: ((قل لا أجـد، فيما أوحي إلي، محرما على طاعم يطعمه، إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير، فإنه رجس، أو فسقا أهل لغير الله به.. فمن اضطر غير باغ، ولا عاد، فإن ربك غفور رحيم)) فشجرة التين هي الشجرة المعنية في الظاهر، فلما وقع الخلاف بأكلها تلاحقت حلقات السلسلة، حتى وقع الخلاف بالمماسة.. فتغشى زوجه بغير شريعة.. وحلقات هذه السلسلة المتلاحقة طويت في عبارة: ((فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما)).. والإشارة بقوله: ((بدت لهما سوآتهما))، إنما هي للأعضاء التناسلية.. فقد كانت محجوبة عنهما بنور البراءة والتقى، فظهرت بظلام الإثم، والمخالفة.. قوله ((وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنـة))، إشارة إلى الحجاب، الذي أملاه الخزي الذي صاحب الخطيئة.. وقد تحدثنا عـن ذلك في موضعه من كتابنا ((الرسالة الثانية من الإسلام)) تحت عنوان ((الحجاب ليس أصلا في الإسلام)).. والذي يهمنا من هذه الآيات التي أوردناها في هذا الباب هو سياقها في نفسه.. وشرح ما به الإشارة إلى الزواج في الشريعة.. فلنكتف بهذا القدر..
ونقرر هنا أن شريعة آدم فردية.. وهي طرف من حقيقته.. وإنما وقعت خطيئته بمخالفة شريعته لقرب ما بين شريعته وحقيقته.. وعندما يسترد مقام الخلافة، الذي فقد بالخطيئة تنطبق شريعة وحقيقة من يسترده، وتكون زوجه في ((الحقيقة)) هي زوجه في ((الشريعة)).. ومن هذا المقام جاء النص، في أصل الدين، على الزوجة الواحدة.. فليس في أصل الدين إلا هـذه.. ثم تنزلت الشريعة، من أصل الدين إلى فرعه، فجاء تعدد الزوجات.. فالشريعة، على ذلك، شريعتان.. شريعة في الأصل، وشريعة في الفرع..

الزواج في شريعة الأصـول:


هناك شريعة تقوم على أصول الدين، ومتعلقها آيات الأصول فهي منها تنبعث وعليها تستند.. والزواج، في هذه الشريعة، يقوم على الكفاءة بين الرجل والمرأة.. الزواج هنا إنما هو ترسيم للعلاقة القائمة في ((الحقيقة)).. زوجتك فيه هي صنو نفسك.. ويمكن تعريف الزواج هنا بأنه شراكة بين شريكين متكافئين، ومتساويين في الحقوق، والواجبات، لا تقع فيه وصاية من الرجل على المـرأة، ولا من المرأة على الرجـل، فليس هناك وصاية على أيهما فيه إلا وصاية يفرضها على كليهما القانون الدستوري.. هما يملكان الدخول في هذه الشراكة بالأصالة عن نفسيهما، وبمطلق اختيارهما، ولهما الحق ((المتساوي)) في الخـروج عنـها،.. فهـما يتفقـان، حين يتفقان، فتكون المحبة، والمودة، والوفاق، والسعادة.. وهما يتفقان، حين يختلفان - يتفقان على أن يختلفا- فيكون فض الشراكة، من غير أن يترك مرارة، ولا عداء.. فيمارس حق الطلاق في سعة أفـق، وطيبة نفـس، ليدخل كل من الشريكين في تجربة جديـدة، مع شريك جديد، عسى أن يهتدي بهذه التجربة الجديدة لصنوه الحق، أو إلى قريب منه، فلا تكون، يومئذ، بهما حاجة إلى ممارسة حق الطلاق، وإنما هو الوفـاق، والمحبة، والسعادة..
والحكمة في شريعة الطلاق إنما هي تصحيح الخطأ الذي كثيرا ما يقع نتيجة لعدم المقدرة على، العثور على، أو التمييز بين، الشريك الحقيقي، والشريك الذي قد يشبهه، ثم لا يكـون إيـاه.. وهذا العجـز، بفضل الله، يتناقص دائما، وتحل محله القـدرة، وذلك كلما ترقى الرجال، والنساء، وكلما قويت لديهما الأنوار التي بها يكون التمييز، وتقـع المطابقة.. من ههنا تنهض حكمة شريعة الطلاق..
الـزواج، في هذه الشريعة، هو حظ العارفين، الذين يتسامون به إلى مستويات لا تدخلها معهم شريعة الطلاق.. لا لأنهم يمنعونها، بالطبع، ولكن لأنهم لا يحتاجونها.. وقد بينا كل هذا في تفصيل واف في كتابنا ((الرسالة الثانية من الإسلام)) تحـت عنـوان ((الطلاق ليس أصلا في الإسلام))..
في هذا الزواج ليس هنالك ولي، ولا مهر.. وليس فيه تعدد زوجات.. والطلاق فيه حق من حقوق المرأة، كما هو من حقوق الرجل.. ودخل الأسرة يملكه الشريكان، حتى حين يكون عمل المرأة قد استغرقه ((البيت)).. فليست النفقة منة من الرجل على المرأة..

الزواج في شريعة الفروع:


شريعة الفروع هي موضوع الرسالة المحمدية.. ومتعلقها آيات الفروع.. فهـي تنبعث منها، وتعتمد عليها.. وشريعة الفروع شريعة مرحلية.. الحكمة منها نقلة المجتمع المتخلف، الذي نزلت عليه، ليتقدم، حتى يستحق شريعة الأصول.. والحركة منها نحو شريعة الأصول، حين يحين حينها، هو الذي نسميه تطوير التشريع الإسلامي.. ومستوى شريعة الفروع هو مستوى الرسالة الأولى.. ومستوى شريعة الأصول هو مستوى الرسالة الثانية من الإسلام، وهي الرسالة التي وظفـنا حياتـنا على التبشيـر بـها، والتمهـيد لها، والدعـوة إليـها..
الزواج، في هذه الشريعة، في تعريف بعض الفقهاء،: ((عقد يفيد حل استمتاع كل من العاقدين بالآخر، على الوجه المشروع)).. أو أنه: ((عقـد يرد على ملك المتعة قصدا)).. وهذا تعريف، في الفقه، وهو قاصر عن التعريف، في الشريعة.. ومعروف قصـور الفقه عن سماحة الشـريـعة..
الـزواج، في هذه الشريعة، هو عقد بين طرفين، غير متكافئين، يملك فيه الطرف الراجح منهما حقوقاً أكثر مما يملك الطرف المرجوح.. والسبب في رجحان حقوق الطرف الراجـح، إنما هو رجحان عقله، ودينه، ومن ثم، كثرة واجباته.. ولقد اشتملت على بعض هذه الحقوق هـذه الآيـة الكريمة: ((الرجال قوامون على النساء.. بما فضل الله بعضهم، على بعض.. وبما أنفقوا من أموالهم.. فالصالحات قانتات، حافظات للغيب، بما حفظ الله.. واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن.. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا.. إن الله كان علياً كبيراً)).. فالعلاقة فيه بين الرجل والمرأة ليست علاقة تكافؤ، ولا هي علاقة تسلط، وإنما هي علاقة رشيد جعل وصياً على قاصر، وطلب منه أن يعينه على الرشد.. ولقد جاءت الفاصلة، في الآية الماضية، بقوله، تبارك، وتعالى: ((إن الله كان علياً كبيراً))، لتتضمن هذا المعنى.. فلكأنه قال: جعلنا لكم عليهن علو درجة، فتذكروا أن علو الدرجات لله.. فإن حدثتكم نفوسكم بالاستعلاء عليهن، والتسلط، ومعاملتهن بغير دوافع العطف، والحكمة، وتوخي الترشيد، فاعلموا: أن الله هو صاحب العلو، والاقتـدار، والسلطة.. اعلموا ذلك واخشوه فيهن إن كنتم مؤمنين.. والغرض، من هذا العقد، هو تنظيم الغريزة ((الجنسية)) لمصلحة الأفراد، ولمصلحة الجماعة.. فأما لمصلحة الأفراد – الرجل، والمرأة- فبإعفاف النفـس، وبصون الأخلاق.. ثم إن به الحب ينمو، والطمأنينة تتوثق، والراحة النفسية تتوفر، قال تعالى فيه: ((ومن آياته أن خلق لكم، من أنفسكم، أزواجاً، لتسكنوا إليها.. وجعل بينكم مودة ورحمة.. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)).. كل أولئك يكون، بفضل الله، ثم بفضل الإمتاع الحسي، والمعنوي.. وأما لمصلحة الجماعة - وحظ الأفراد هنا غير غائب – فبحـفظ النوع، وبقيام الأسرة، التي هي الدعامة الأولى للمجتمع، وبالاهتمام بالذرية، الذي يسوق إلى تعليمها، وإلى تهذيبها، وإلى استشعار المسئولية نحوها التي توجب السعي، والكـدح، اللذين، بهما قوام التعمير، والتمديـن، لجميع الأمة..
هذه الشريعة، إذا ما وضعت في موضعها من حكم وقتها هي غاية في الانضباط، والحكمة، والعدل، والسماحة.. وهي قد حررت المرأة، يومئذ، تحريرا كبيرا.. وقفزت بها قفزة حكيمة، وجريئة، في آن معا.. وهي لا يظهر فيها النقص إلا إذا ما نقلت من وقتها، وطلب إليها أن تستوعب طاقات المرأة المعاصرة، فتنظم حقوقها، وتحل مشاكلها.. ولكن لن يكون النقص، حينئذ، هو نقص هذه الشريعة، وإنما هو نقص هذه العقول التي تنقلها من بيئتها إلى بيئة لم تشرع لها، بدعوى أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.. ولقد تحدثنا في مواضع كثيرة في كتبنا، عن هذه الجهالة، مما يغنينا عن التعرض لها الآن.. والذي يهمنا أن نقـرره، في هذا المقام، هو أن هـذه الشريعة مرحلية.. وكل حقـوق، أعطيت بها للرجل على المرأة، إنما هي أمانة عنـده، كأمانة الوصي على حقوق اليتيم، يطلب منه أن يرشده، وأن يرد إليه حقوقه حين يبلغ الرشـد..
جميع آيات الوصاية على النساء منسوخة، منذ اليوم، بآية: ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.. وللرجال عليهن درجة..)).. ولقد سبق شرح هذه الآية.. فلا موجب للإعادة..
وجميع آيات الوصاية، على الرجال، وعلى النساء، منسـوخة، منـذ اليـوم، بآيتي: ((فذكـر إنما أنت مذكـر * لست عليهم بمسيطر))..
وجميع آيات الرأسمالية، في القرآن، منسوخة بآية: ((ويسألونك ماذا ينفقون؟؟ قل: العفو)) وللعفو قمـة، وله قاعـدة.. وستظل قمته متروكة لمنطقة الأخلاق.. وإنما تهمنا قاعدته لأنها أدنى منازل الاشتراكية، وهي تحريم ملكية وسائل الإنتاج، على الفـرد الواحد، أو على الأفراد القلائل.. وبهذا ينفتح الطريق لتطوير التشريع، الذي عليه تقوم الرسالة الثانية من الإسلام.. وهي الرسالة التي تقـوم على تحقيق الفردية، لكل رجل، ولكل امرأة.. وتتوسل إلى منازل الفردية هذه بوسيلتين: إحداهما وسيلة المجتمع الصالح، وهو المجتمع الذي يقوم على التشريع الدستوري، المستمد من الدستور الإنساني، الذي، تحت ظله، يتحقق الجمع بين الاشتراكية، والديمقراطية، في جهاز واحـد، حتى لكأنهما، للمجتمع، الجناحان للطائر، لا نهضة له بدونهما معا.. وثانيتهما وسيلة المنهاج التربوي الذي جاء به الإسلام، في عبادتـه، والذي يسوقنا، بإتقان تقليدنا للمعصوم، من التقليد إلى الأصالة - من السير في القطيع إلى البروز إلى مقام الفردية - من العـبادة إلى العبـودية.. من القيـد إلي الحريـة.. والحرية المطلقة، في ذلك.. ومقام الفردية هذا هو آصل أصول الدين.. وهـو، من ثـم، مطلوب الدين الأخير، لأنه مقام العبودية.. وهو المقام الذي تتأدى إليه جميع المناشط في العلم - العلم بالشريعة المشرفة - وفي العمل، وفي الذكر، وفي الفكر، وفي العلم - العلم بالله العظيم - وفي الفناء عن هذا العـلم.. ومقام العبودية هذا هو مقام شريعة وحقيقة.. ولكن الشريعة فيه شريعة فردية، يخرج بها المحقق من شريعة القطيع.. ويؤتى شريعته الفردية من الله كفاحاً..
مقام العبودية هذا مقام حياة.. حياة بالله، عند الله.. وهو نهاية المطاف، وما للمطاف نهاية.. ((إن المتقين في جنات، ونهر، في مقعد صدق، عند مليك مقتدر)).. عند الله، حيث لا عند.. نهاية المطاف.. وما للمطاف نهاية.. لأنه سير إلى الإطلاق.. فهو تجدد، مستمر وسرمدي، لحياة الفكر، وحياة الشعور..