إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعلموا كيف تصلون

الصلاة وسيلة


الصلاة وسيلة، وليست غاية.. ويجمل بنا هنا أن نقرر حقيقة، كثيراً ما قررناها، ولكن تكرار تقريرها مرجو الفائدة، دائماً.. تلك الحقيقة هي: أن ليست هناك غاية في ذاتها إلا الإنسان.. وكل شيء، في الوجود، إنما هو وسيلته، بما في ذلك القرآن، والإسلام، والتشريع.. وما ينبغي أن نتردد في اعتبار الصلاة وسيلة.. بل إنه ليتحتم علينا، لكي ننتفع بها، أن نعرفها هكذا.. ولقد فصّلنا ذلك في كتابنا: ((رسالة الصلاة)).. في صفحة 74، من الطبعة الخامسة.. فليراجع في موضعه..
فالصلاة وسيلة، إذن.. هي وسيلة إلى التخلق بالأخلاق الكاملة - أخلاق الله - ولقد قلنا إن أعلاها ((الأحدية)).. و((الأحدية)) في حق العبد براءة ظاهره، وباطنه، من الأغيار.. وهذه صفة لا يتم تحقيقها.. وإنما يقع، دائماً، الترقي في مراقيها.. وهو ترق سرمدي.. وأقرب، إلى العبد، من أخلاق الله، عن ((الأحدية))، ((الواحدية)).. وهي، في حقه، تحقيق فرديته التي ينماز بها عن سائر أفراد القطيع.. وهذا إنما يتم بتجويد الكلمة: ((لا إله إلا الله)).. وقد فصلنا القول في: ((لا إله إلا الله)) في كتابنا الذي صدر باسم: ((لا إله إلا الله)).. وفي أماكن أخرى من كتبنا، وبخاصة ((القرآن)).. فليراجع في موضعه.. والذي يهمنا هنا هو أن نقرر: أن التوحيد إنما هو صفة الموحِد ((بكسر الحاء)) لا الموحَد ((بفتح الحاء))، وذلك لمكان استغناء الموحَد عن توحيد الموحِدين، ولمكان حاجة الموحِد لتوحيد بنيته المنقسمة على نفسها.. فبتوحيدنا لله إنما نبتغي توحيد بنيتنا.. وأدنى مراتب توحيدنا لله، من وجهة النظر السلوكية، العلمية، تتمثل في وحدة ((الفاعل)).. وباستيقاننا وحدة الفاعل هذه نتحرر من الخوف.. ونستعيض عنه الثقة، والطمأنينة، ورضا البال .. وإنما يكون استيقاننا وحدة الفاعل هذه بفضل الله، ثم بفضل الصلاة.
نحن نعلم، بما علمنا الرسل، أنه: ((لا إله إلا الله)).. وجميعهم قد جاءوا بها.. وعلمنا في هذا المستوى إنما هو علم بالتعلم، هو علم كسبي، وهو، من ثم، علم قليل الغِناء، إلا إذا ما ترسخ في النفس، وبترسخه في النفس يصبح يقيناً.. ولا يقع ترسخه إلا نتيجة للممارسة العملية.. فبالممارسة العملية يجيء العلم ((الوهبي))، في مقابلة العلم ((الكسبي)).. وهذا العلم ((الوهبي)) هو ((العلم))، وبه تتأثر الأخلاق في اتجاه ما قال المعصوم: ((تخلقوا بأخلاق الله.. إن ربي على سراطٍ مستقيم)) وهو هو المعنى بقوله تعالى: ((واتقوا الله، ويعلمكم الله)).. قوله ((واتقوا الله)) يعني: اعملوا بالشريعة، وهي العلم الكسبي، ((ويعلمكم الله)) العلم ((الوهبي))، أو العلم ((اللدني)) لأنه من لدن ((الذات))، بلا واسطة.. قال تعالى عن الخضر، في قصة ما جرى بينه وبين موسى: ((فوجدا عبداً من عبادنا، آتيناه رحمةً من عندنا، وعلمناه من لدنا علما)).. هذا العلم اللدني هو ((العلم)).. وهو لا يؤخذ إلا عن الله ((بلا واسطة)).. الأنبياء، والرسل، لا يعلّمونه.. وإنما هم يعلّمون الوسيلة إليه.. ولقد جاء في هذا المعنى حديثان، عن النبي، مأخوذان عن آية: ((واتقوا الله، ويعلمكم الله)).. أولهما: ((من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)).. وثانيهما: ((إنما أنا قاسم، والله يعطي.. ومن يرد به الله خيراً يفقهه في الدين.. ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يجيء أمر الله)).. قوله، في الحديث الأول: ((من عمل بما علم)) يعني من عمل بالشريعة، في العبادة، والمعاملة.. ((أورثه الله علم ما لم يعلم)) عنى بها علمه الله العلم اللدني، وهو علم ((أسرار الألوهية)).. وحين يوجب العلم ((بالشريعة)) تجويد ((العبادة)) يوجب العلم ((بأسرار الألوهية)) تجويد ((العبودية))، وهي الأدب الواجب على العبد، نحو الرب.. والحديث الثاني أوضح في الدلالة على أن النبي، إنما يعلمنا الوسيلة، التي بها نتوسل إلى منازل العلم ((اللدني)).. قال: ((إنما أنا قاسم))، يعني، إنما أنا معلم ((للشريعة)).. قوله: ((والله يعطي)) يعني، والله يعطي ((الحقيقة)).. والحقيقة هي أسرار الألوهية.. قوله: ((ومن يرد به الله خيراً يفقهه في الدين)) هو لا يعني ((بالفقه)) هذا الذي يفني الناس أعمارهم في دراسته، وتحصيله، الآن.. وإنما يعني: معرفة أسرار الحكمة ((الباطنة))، في فعل الله ((الظاهر)).. وهذه هي ما عنيناها بعبارة: ((أسرار الألوهية)) التي سلفت الإشارة إليها.. وفي عجز الحديث سر عظيم، وذلك حيث يقول: ((ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يجيء أمر الله))..
قال تعالى عن التوحيد، وعن الصلاة: ((من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً.. إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد، ومكر أولئك هو يبور * والله خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم جعلكم أزواجاً.. وما تحمل من أنثى، ولا تضع، إلا بعلمه.. وما يعمر من معمر، ولا ينقص من عمره، إلا في كتاب.. إن ذلك على الله يسير)).. قوله: ((إليه يصعد الكلم الطيب)) يعني بالكلم الطيب: ((لا إله إلا الله)).. وصعود الكلم الطيب إنما هو ارتفاعها في المكانة، تحقيقاً في قلوب الموحدين..
فإن: ((لا إله إلا الله)) أولها عندنا، في الأرض، وآخرها عند الله، في إطلاقه.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة، وأولو العلم، قائماً بالقسط، لا إله إلا هو، العزيز الحكيم)).. هذه هي شهادة التوحيد، في مراتب التنزل.. فقد شهد الله بذاته، لذاته، في إطلاقه، ((بالوحدانية))، وهي ((الأحدية)) المطلقة.. ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)).. ثم تنزلت الشهادة، من هذا الإطلاق، إلى مرتبة الملائكة، فشهدوا ((بالوحدانية)) لله، وهي درجة دون سابقتها، بما لا يقاس.. وقد شهدت الملائكة في السموات، وفي الأرض.. ثم تنزلت الشهادة إلى أولي العلم، في الأرض، فجاء قولنا: ((لا إله إلا الله)).. وهي شهادة جاء بها جميع الرسل، يتفقون في ((اللفظ))، ويختلفون في ((التحقيق)).. وهي شهادة دون شهادة الملائكة، ولكنها متطورة في ((التحقيق))، صاعدة نحو الله، تبتغي أن تشهد ((بوحدانية)) الله، كما شهد الله لذاته، بذاته، في إطلاقه.. وهيهات!! ومهما يكن من شيء، فإن هذا هو تكليف العباد.. وشهادة الملائكة بوحدانية الله ليست قيمتها للملائكة، إلا في معنى إعانتهم على أداء واجبهم في إعانة الناس على تحقيق هذا التوحيد.. تنزلت الشهادة: ((لا إله إلا الله)) لنرقى عليها، ونصعد بها، إلى الذاكر، المذكور، والشاهد، المشهود.. فنحن في صعودنا في سلم هذا التوحيد لا نخدم غير ذواتنا وذلك بإحراز وحدة بنيتنا.. قوله: ((والعمل الصالح يرفعه)) عنى بالعمل الصالح عمل الخير، والبر، بالأحياء والأشياء.. وأعلى ((العمل الصالح)) الذي يرفع ((الكلم الطيب))، إنما هو الصلاة.. ولقد قلنا: إن رفع ((الكلم الطيب)) إنما يعني استيقانه في صدور الذين أوتوا العلم.. ولا يقع الاستيقان إلا بممارسة العمل.. فإذا استيقنا العلم بالله، تحررنا من الخوف، الذي دفعه، إلى صدورنا، الحرص على الحياة، وعلى الرزق، وجهلنا بحقيقة الأمر، على ما هو عليه.. وقد قلنا إن أدنى منازل العلم بحقيقة: ((لا إله إلا الله))، لدى السالكين، المجودين، إنما هو شهود وحدة ((الفاعل)).. فإن نحن شهدنا، في هذه المرتبة، قوله: ((قل: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. هو مولانا.. وعلى الله فليتوكل المؤمنون))، شهوداً ذوقياً، وآمنا بقوله تعالى: ((كتب عليكم القتال، وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً، وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً، وهو شر لكم، والله يعلم، وأنتم لا تعلمون)) إيماناً قوياً، يوشك أن يذهب عنا الحزن، وأن تطمئن قلوبنا، وأن نتحرر من الخوف.. ومن أجل هذا التطمين، الذي هو سبيل التحرير من الخوف، جاء، في صدر الآية، التي تذكر: ((الكلم الطيب)) و((العمل الصالح))، جاء بقوله: ((من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً)).. وهو، لتوكيد وحدة الفاعل هذه، قد ساق، قبل هذه الآية، آيتين تقرران أنه الفاعل ((للخير)) و((للشر))، قال تعالى فيهما: ((أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً؟؟ فإن الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.. إن الله عليم بما يصنعون * والله الذي أرسل الرياح، فتثير سحاباً، فسقناه إلى بلدٍ ميتٍ، فأحيينا به الأرض بعد موتها، كذلك النشور)).. هكذا قال، قبل أن يجيء بالآية التي تذكر: ((الكلم الطيب))، ((والعمل الصالح)).. وهاتان الآيتان شديدتا الدلالة، والوضوح، أيضاً، في تقرير وحدة الفاعل.. ثم هو يلحق، لزيادة هذا التقرير، بالآية التي تذكر: ((الكلم الطيب))، و((العمل الصالح)) آية، هي أيضاً شديدة الدلالة، وشديدة الوضوح، في أمر وحدة الفاعل، وهي قوله، وقد أوردناها من قبل: ((والله خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم جعلكم أزواجاً.. وما تحمل من أنثى، ولا تضع، إلا بعلمه.. وما يعمر، من معمر، ولا ينقص من عمره، إلا في كتاب.. إن ذلك على الله يسير))..