إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التقليد!! والأصيل!! والأصلاء!!

الأصيل الواحد


إن الأفراد يتفاوتون في تحقيق الأصالة حسب توفيق الله لهم، ثم جدهم و إجتهادهم في العمل على تحقيق فردياتهم بإتباع نهج السنة، والتأدب بأدب القرآن.. فالإختلاف بين الأفراد في تحقيق الفردية، والأصالة، هو اختلاف في زمن التحقيق، وفي مقدار التحقيق.. ففي هذه الدورة من دورات الحياة، دورة الحياة الدنيا تتحقق الفردية في قمتها، في مستوى ترك التقليد، لرجل واحد، هو صاحب المقام المحمود الذي يتم له انزال هذا المقام من الملكوت، وتجسيده على الأرض.. أما جميع من عداه فهم يحققون الأصالة والفردية، داخل إطار التقليد النبوي، وهم يتفاوتون في هذا التحقيق حسب تفاوتهم في العلم بالله، وتحقيق العبودية له.. ففي قمة هؤلاء يأتي من يوشك أن يتحقق بالأصالة في مستوى ترك التقليد ولكن لا يتم له ذلك الا عند لحظة الإنتقال للبرزخ.. وأسباب التفاوت في التحقيق في الفردية أسباب واضحة وبينة، وهي تشير اليها الآية الكريمة: (وفوق كل ذي علم عليم).. فهي تعني أن فوق كل صاحب علم من هو أعلم منه، إلى أن ينتهي العلم إلى علام الغيوب.. فالوضع بالنسبة للعلم بالله وضع رأسي، لا يوجد فيه إثنان على نفس المستوى من العلم.. فأعلم الناس بالله، وأكثرهم تحقيقا للأصالة والفردية، يكون بين جميع الناس، وبين ذات الله في إطلاقها.. وهذا هو الإنسان الكامل الذي يتحقق بمقام الإسم الأعظم (الله).. ومقام هذا الإنسان الكامل هو مقام الوسيلة، وهو الذي يتم به ختم الولاية، وختم الرسالة بعد ان تم ختم النبوة بالنبي الكريم..
وبتحقيق هذا المقام تتحقق خلافة الأرض، وهو مقام المسيح المحمدي الموعود، وهو المقام الذي ظل النبي طوال حياته، وفي برزخه يعمل على إنزاله من الملكوت إلى الملك.. وهذا المقام هو مقام ولاية النبي، مجسدة في الدم واللحم.. وإلى تحقيق هذا المقام في الأرض، ترد الإشارة بالآية الكريمة: (ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد).. فهذه العودة هي لمستوى ولاية النبي، مستوى المقام المحمود الذي حققه النبي في المعراج في إلمامة، حكى عنها القرآن بقوله تعالي: (ما زاغ البصر وما طغي).. ثم حققه النبي بالنزع على فراش الموت، وانتقل به إلى البرزخ، وهو من برزخه يعد الأرض لتحقيق هذا المقام فيها.. فصاحب هذا المقام، لأنه تخلق بأخلاق الله، أخلاق القرآن، فقد تحقق بالأحدية، وبالواحدية.. ومعنى (الأحد).. هو الذي لم يجيء من مثله ولا يجيء منه مثله، أو هو الذي (ليس كمثله شيء).. ومعنى (الواحد).. هو الذي لا ينقسم.. فصاحب المقام المحمود هو في نفسه واحد، وفي مقامه واحد، وهذا من كمال التخلق بأخلاق الله، ذلك التخلق الذي قال عنه المعصوم: (تخلقوا بأخلاق الله ان ربي على سراط مستقيم).. وقال عنه تعالى: (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون).. فمقام الأصالة، في هذا المستوى، هو لفرد واحد، هو صاحب العلم المحيط، الذي يقع علم كل ما عداه دونه، وفي إطاره.. وتجسيد هذا المقام على الأرض إنما يتم بظهور المسيح المحمدي، الذي بشر به النبي الكريم في العديد من أحاديثه، ومنها قوله: (لو لم يبق من عمر الدنيا الا مقدار ساعة لمد الله فيه حتى يبعث رجلا من آل بيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما، وجورا!!).
وتحقيق المقام المحمود في الأرض، هو فتح للباب على مصراعيه لكل الأفراد السالكين إلى الله، ليحقق كل منهم فرديته وأصالته، في إطار التقليد النبوي، وذلك بفضل الله، وبفضل ما يفيضه هذا المقام من العلم الذي يعين كل فرد على معرفة نفسه، وتفجير مواهبها، وطاقاتها.. وإلى تحقيق الأصالة في إطار التقليد تشير الآية الكريمة: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وان الله لمع المحسنين).. فالجهاد هنا هو عمل في التقوى، في تقليد المعصوم.. و(لنهدينهم سبلنا) تعني بوضوح ان لكل واحد من هؤلاء المجاهدين سبيله، داخل السبيل الواحد، ولذلك قال: (سبلنا) ولم يقل (سبيلنا) فهي سبل عديدة.. (وان الله لمع المحسنين) يعني بالمحسنين هنا الذين احسنوا تجويد تقليد المعصوم، بادخال الفكر في العمل، وبالتزام الأدب مع النبي.. فهؤلاء الله معهم يحفظهم، ويرعاهم، ويمدهم من العلم بما به يحققون انضاج فردياتهم، ويحققون اصالتهم، داخل اطار التقليد النبوي.. فالتقليد النبوي هو وسيلة تحقيق الأصالة في جميع مستوياتها..