إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الشيعة

المسيح المحمدي والمسيح الإسرائيلي:


ولعل الشيعة قد استمدوا غيبة المهدي، ورجعته، من الفهم الشائع لدي المسلمين بأن المسيح، النبي، المبعوث في بني اسرائيل، رفع حيا، فلم يقتل، وإنما ألقى الله شبهه على رجل غيره فقتلوه، وصلبوه، وبأنه ينزل مرة أخرى في آخر الزمان.. وذلك هو فهمهم لهذه الآية: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله، وما قتلوه، وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم، إلاّ اتباع الظن، وما قتلوه يقينا* بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما)، وهو فهمهم لهذا الحديث: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل عليكم ابن مريم حكما مقسطا...) إلى آخر الحديث.. أما الآيتان فتقرران حقيقة توحيدية هي وحدة الفاعل.. فحيث كان اليهود ينسبون قتل المسيح إلى أنفسهم، استكبارا، وهزوا، نفى الله عنهم قتله، فنسبه إلى الفاعل الحقيقي، وهو الله تعالى.. فكأن اليهود لم يقتلوه إلاّ في الشريعة (ظاهر الأمر)، أما في الحقيقة، (باطن الأمر)، فإن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى.. وإثبات وحدة الفاعل بهذه الصورة متواتر في القرآن، قال تعالى: (فلم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم)، مع إن المسلمين قد قتلوا الكفار، ولكنهم لم يقتلوهم إلاّ في ظاهر الأمر، والقاتل الحقيقي هو الله.. وقال أيضا: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) أي ما رميت في الحقيقة، إذ رميت في الشريعة، ولكن الله هو الرامي الحقيقي.. وفي الآيتين المتعلقتين بقتل المسيح يرد التعبير (وما قتلوه، وما صلبوه، ولكن شبه لهم).. فكأنه يقول عنهم: وما قتلوه، إذ قتلوه، ولكن شبه لهم أنهم قتلوه، إذ وقع القتل منهم في ظاهر الأمر، بينما القاتل الحقيقي هو الله تعالى.. ولذلك قال: (وما قتلوه يقينا) أي حقيقة، وإنما قتلوه شريعة.. وموت المسيح قبل رفعه إنما يعطيه ظاهر الآيات الأخرى من القرآن، مثل قول المسيح في القرآن (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت علي كل شيء شهيد)، وعن وفاة المسيح قبل رفعه جاء قوله (إني متوفيك ورافعك إليَّ)، ولا تعني الوفاة إلاّ الموت لقوله تعالى أيضا (والسلام علي يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أبعث حيا).. أما الحديث النبوي فهو يتحدث عن نزول (ابن مريم) أو (عيسى) أو (المسيح).. وهي كلها أسماء المسيح المحمدي بالأصالة، إذ هي ليست في حق المسيح الإسرائيلي إلاّ بالحوالة والتبعية، فإن المسيح الإسرائيلي إنما كان قبسا روحيا منه، وليس هو إياه.. بل إن كل الأنبياء، والمرسلين إنما كانوا أقباسا روحية من الحقيقية المحمدية (المسيح المحمدي)، وقد تنزلوا علي أقساط منه، ليجسدوه شيئا فشيئا، حسب حكم الوقت، حتى يتنزل هو، مجسدا الحقيقة المحمدية، تمام التجسيد.. وما تسمت (مريم) العذراء بهذا الاسم إلاّ استمدادا من صفة نفسه الزكية (مريم)..
لقد ختمت النبوة بمحمد، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وختمت، بختم النبوة، رسالة النبوة، تلك التي يتلقى صاحبها، عن الله تعالى، بواسطة الملك جبريل، ولقد ختمت، بختم النبوة، وبختم رسالة النبوة، الكتب السماوية، بنزول القرآن، فاستقر فيه جميع خبر السماء، فلكأن خبر السماء قد استقر علي الأرض.. تنزلت الحقيقة المحمدية في الصورة القرآنية على الأرض، فبقي أن تتجسد هذه الحقيقة في الصورة الإنسانية الكاملة (الإنسان الكامل) على الأرض.. أما رسالة الولاية، وهي التلقي عن الله، مكافحة، من القرآن (بغير واسطة الملك)، فهي لم تختم.. فالقرآن كلام الله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره، حتى يسمع كلام الله).. وكلام الله هو صفته القديمة القائمة بذاته تعالى، فهي لدى التناهي، ذاته.. القرآن، لدى التناهي، هو ذات الله.. ألم يقل النبي الكريم، فيما سلفت روايته عن القرآن: (سبب طرفه بيد الله تعالى، وطرفه بأيديكم)؟؟ وعن حقيقة القرآن لدى الذات الألهية قال: (حم* والكتاب المبين* إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون* وإنه في أم الكتاب، لدينا، لعلي حكيم).. التلقي من ذات الله تعالى مكافحة إنما سبيله رفع حجاب الفكر.. قال تعالى (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحيا، أو من وراء حجاب)، أي حجاب الفكر.. فما ختمت رسالة الوحي إلاّ لتجيء رسالة العلم اللدني – رسالة الولاية، فتختم الرسالات، والولايات، كما ختمت النبوات.. ولذلك فإن المسيح المحمدي إنما يجيء رسولا، وليا، هو خاتم الرسالات، والولايات، ولا يجيء نبيا.. هذا من من أجله قلنا بأن المسيح الأسرائيلي، النبي، لن يرجع.. والمسيح القادم محمدي لأنه إنما يستمد انواره، كما استمد الأولياء من آل البيت النبوي، ومن أئمة الصوفية أنوارهم، من الولاية المحمدية في برزخها، حيث يأخذ نفسه بتقليد النبي الكريم، في منهاج نبوته، فيسير على القدم النبوي بتجويد، وتسديد، حتى يبلغ الأصالة، فيستقل عن التقليد النبوي، حيث يفضي به هذا التقليد إلى الأخذ من الله تعالى كفاحا بغير واسطة، فيؤتي شريعته الفردية، تأسيا بالنبي، وهي أصالته.. وبمنهاج الأصالة يسير نحو تحقيق مقام (الأصيل الواحد)، مقام (الوسيلة)، مقام (الخلافة)، فيتحقق بالحقيقة المحمدية على الأرض، كما تحقق بها النبي، في معراجه، وفي برزخه.. فمقام (الأصيل الواحد) لا يبلغ إلاّ بمنهاج (الأصالة).. وذلك مثلما أن النبي الكريم قد كان نبيا منذ ميلاده، امتدادا لنبوته الأزلية قبل ميلاده، ولكنه لم يبعث نبيا إلاّ بعد استحصاد نبوته بمنهاج النبوة نفسه، ولذلك مثلما أنه قد أخذ بعد معراجه الذي ألمَّ فيه بالمقام المحمود، يسعى لتحقيق المقام المحمود بمنهاج معراجه نفسه – بمنهاج أصالته يحقق أصالته – وهذا أيضا، ما من أجله قررنا أن المسيح القادم محمدي نسبا، ومقاما، وليس هو المسيح الإسرائيلي.. فإن العمل الروحي لمحمد، في حياته، وفي برزخه لا بد أن يعطي ثمرته في الأرض، فيخرج من آل بيته من يحقق الحقيقية المحمدية، ويحمل الاسم الأعظم.. هذا إلى جانب الحقيقة العرفانية التي يعطيها قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن).. فالألوهية لا تقف، ولا تتراجع، ولا تكرر نفسها.. فلا يمكن أن تظهر أية ذرة في الوجود ظهورا واحدا مرتين ولا يمكن أن يتراجع رأس سهم تطور المخلوقات إلى الوراء ولا يمكن أن يتجلى الله علي أية ذرتين في الوجود تجليا واحدا.. هذا مقتضى سعة الألوهية وكمالها..