إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

طريق محمد

بسم الله الرحمن الرحيم
((يسبـّح لله ما في السّمـوات وما في الأرض، الملك القـدّوس، العزيز، الحكيـم* هو الـذي بعث في الأمّييـن رسولا منهـم، يتلـو عليهم آياتـه، ويزكّيهـم، ويعلّمهم الكتاب، والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مّبيـن* وآخريـن منهم لما يلحقوا بهم وهـو العزيـز الحكيـم* ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيـم..))
صدق الله العظيم


مقدمة الطبعة الثالثة


هذه هي الطبعة الثالثة من كتيب ((طريق مُحمّد))، وكانت الطبعة الأولى قد صدرت في شهر مارس من عام 1966م.. ثم صـدرت الطبعة الثانية في شهر أبريل من عام 1968م.. وقد صرفتنا، يومئذ، بعض الصوارف عن تصديرها بمقدمة خاصة بها.. وها نحن، اليوم، نعود لإصداره في طبعته الثالثة، من غير أن نضيف عليه، أو أن نغير فيه، ذلك بأننا لم نـرد به إلى التفصيل، في المكان الأول، وإنما أردنا به إلى الدعوة إلى العودة إلى طريق مُحمّد، بعد أن طال عليها الأمد، وبعد العهد بين الناس وبينها، حتى اندرست، وقلّ سالكوها، وفقد المرشدون إليها..

ما هو الطريق


الطريق هو النهج العملي الذي يوصل سلوكه إلى الله، تبارك وتعالى، وليس إلى الله، تبارك وتعالى، وصول بالمعنى الذي يؤديه حرف الكلمة، وإنّما المقصود بكلمة الوصول أن يكون حضور السالك مع الله أكثر من غفلته عنه.. والطريق شريعة، وزيادة.. الطريق شريعة موكدة.. فحين يكون المسلم العادي صاحب شريعة، يكون المسلم المجود صاحب طريقة.. ونستطيع أن ندرك هذا بمجرد الملاحظة العابرة لرجل متطرق، وآخر غير متطرق، فإنك ترى أن الرجل غير المتطرق إذا صلى المغرب، مثلا، عدد على سبحته - وهذا هو الغالب – التسبيحات، والتحميدات، والتكبيرات، الثلاث والثلاثين، ثم انصرف عن مصلاه.. هذا في حين أن الرجل المتطرق ينتبذ من مصلاه ناحية يؤدي فيها أساس طريقته من الأوراد التي تعتبر الحد الأدنى في أيَّة طريقة.. فلكأن المتطرق صاحب ((مقطوعية)) عاهد على أدائها، حين أخذ عهد الطريق، وبذلك يتميّز، ويزيد عن صاحب الشريعة العادي.. ومن أجل هذا قلنا إن الطريق شريعة موكدة.. ومن الحديث أن المعصوم قد قال: ((قولي شريعة، وعملي طريقة، وحالي حقيقة..)) وعمله سنته.. وسنته شريعة، وزيادة.. شريعة موكدة.. ومن أجل ذلك قد التزم بأشياء، في العبادة، وفي السيرة، لم يلتزم بها أصحابه، وما ذاك إلا لقصورهم عن شأوها، ذلك بأنهم أصحاب شريعة، في حين أنه صاحب طريقة.. ويخطئ كثيراً من يظنـون أن عمل النبي خاص به، وأنّا غير مطالبين به.. إذ الحق أنه مطلوب منا إتيانه حين نطيقه، وما جعل في حقنا غير ملزم إلا لقصـورنا، فإذا استيقنـا ذلك نوشـك أن نرتـفع عن قصـورنا لنقتـدي بالمعصـوم، في تمام عملـه، وكمال حاله.. قال تعالى: ((قل إن كنتم تحبّـون الله فاتّبعـوني يحببّكم الله)) ولا يكون الاتّبـاع إلا في تمام العمل، وكمال الحال..

من هـو مُحمّد


مُحمّد، بن عبد الله، بن عبد المطلب، النبي الأمي، المبعوث من قريش في الأميين منذ القرن السابع، والذي ختم الله به النبوة، وأنزل عليه القرآن المقروء اليوم، والمحفوظ بين دفتي المصحف، لا يعرفه المسلمون وإن ظنوا جهلا أنهم يعرفونه.. وهذه الدعوة إلى اتّباعه، وحسن تقلّيدِه التي يقدمها هذا الكتيب: ((طريق مُحمّد)) لا تستقيم، على خير وجوهها، إلا إذا قدمت تعريفا به يجعل اتّباعه، وتقلّيده، عملا علميا يحترم أقوى العقول المعاصرة، ويقنعها بجدوى ممارسته، وإتقانه..

الرسالة النبوة الولاية


ومن أجل التعريف بمُحمّد ينبغي تدقيق النظر في كلمته آنفة الذكر، وهي قوله: ((قولي شريعة، وعملي طريقة، وحالي حقيقة)) فإنها تشير إلى مراتب مقامه الثلاث: مرتبة الرسالة، ومرتبة النبوَّة، ومرتبة الولاية.. فأما مرتبة النبوَّة فإنها الأصل، وهي وسط بين طرفين: من أعلاها الولاية، ومن أسفلها الرسالة.. ذلك بأن النبوَّة عندما استوت انبثقت منها الرسالة كوظيفة.. ثم هي كلما زادت استواء تسامت إلى مراتب الولاية، في الفينة بعد الفينة.. هذا ما من أجله قررنا أن النبوة أصل..
وإنما بالنبـوة بـدأ الوحي، فإن أول ما نـزل من القرآن على إطلاقه، آيات النبوَّة من قوله تعالى: ((اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم)).. ثم لما استعدّ المكان نزلت آيات الرسالة، من قوله تعالى: ((يأيها المدثر* قم فأنذر* وربك فكبر* وثيابك فطهر* والرجز فاهجر* ولا تمنن تستكثر* ولرّبك فاصبر)).. وفي بيان هذا الأمر قال المعصوم: (أدّبني ربي فأحسن تأدّيبي، ثم قال: ((خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجّاهلين))) فإن صدر هذا الحديث نبوَّة، وعجزه رسالة.. ومع أن هذا الحديث يقرأ في نفس واحد، إلاّ أن ما يَحْكِي عنه لم يحدث في جلسة واحدة.. فإن عبارة: ((أدّبني ربي فأحسن تأدّيبي)) تحكي أمرا استغرق تمامه أربعين سنة، وهي مدة استواء النبوَّة، بين المولد والبعث الرسولي.. هذا باعتبار النبوَّة منذ المولد، وفي الحق، أن نبوَّة نبينا أزلية، وقد بدأ بروزها، في عالم المحسوس، وهو في خلوة الرحم، ثم أخذ بروزها الحسي يظهر، ويزداد ظهورا، في أطوار شبيبه المختلفة، حتى إذا ما اعتزل المجتمع، وآوى إلى غار حراء، كان أول أطوار نضجها قد بـدأ، ثم هي لم تلبث أن انبلج فجرها، بعد خمس عشرة سنة من التحنّث، والتخضّع، وذلك ببدء نزول القرآن..
وعن أزلية نبوته قال المعصوم: ((كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)) ومعنى هذه العبارة أنه كان نبياً، عالماً بنبوته، في الأزل.. وقد ظهر مصداق ذلك عندما برز إلى عالم الأجساد، فإنه وهو جنين في رحم أمه كان يختلف عن الأجنة في الأرحام، فقد برئ وحام أمه به مما تتعرض له وحامى النساء من الغثيان، وخبث النفس، واستيفاز الشعور.. وكان حمله على أمه خفيفا، تجد بركته في يقظتها بالصحة، وبهجة النفس، وبالمسرة المتصلة.. وتجد بركته في نومها بالرؤى المفرحة.. وبمثل ذلك اختلفت طفولته، واختلفت يفاعته، واختلف شبابه، حتى لقد أيقن أنه خلق لغير ما خلق له أترابه من الشباب، ثم لم يلبث أن ألحَّ عليه هذا الإيقان حتى اعتزل المجتمع، وآوى إلى الغار..
وعن مراتب مقامه الثلاث هذه قال، ليلة عرج به: ((سألني ربي يا مُحمّد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت أنت ربي أعلم، فوضع يده على كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فأورثني علم الأولين والآخرين.. وعلمني علوماً شتى: فعلم أخذ علي كتمانه، إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري، وعلم خيرني فيه، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام، والخاص، من أمتي، وهي الإنس والجن..)) فالعلم الذي أمره بتبليغه للخاص والعام من الأمة، هو علم الرسالة، وهي تشمل القرآن المقروء بين دفتي المصحف، وتشمل تبيّين هذا القرآن، في التشريع، في مستوى حاجة الأمة.. وفي التفسير في مستوى طاقة الأمة.. وهو قد قال: ((نحن، معاشر الأنبياء، أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم)) فالرسالة، إذن، لا تشمل تبيين القرآن كله، كما يظن بعض الناس، لا في التشريع، ولا في التفسير، فإن ذلك أمر ممتنع من جملة وجوه.. والعلم الذي خير في تبليغه يقع بعضه في حيز الولاية، ويقع سائره في حيز النبوة.. ويظن بعض الناس أن النبي مأمور بتبليغ كل ما وعى عن ربه، وذلك ظن شديد الدلالة على قلة بصر هؤلاء بحقائق الدين..
والنبي، في ولايته، أكبر منه في نبوته، ذلك بأنه في النبوة يتلقى عن الله بواسطة جبريل، ولكنه في ولايته يتلقى عن الله كفاحا، وقد رفعت الواسطة من بين الرب والعبد.. وإنّما عن ذلك أخبر ليلة المعراج، حين أخبر أن جبريل، عندما انتهى إلى مقامه عند سـدرة المنتهى، قال له: ها أنت وربك، وتخلف، فقال: أهذا مقام يترك فيه الخليل خليله؟ قال: هذا مقامي، ولو تقدمت خطوة لاحترقت!! ((فزجّ بي في النور))، وهو يعني هنا نور الذات، وليس لجبريل بنور الذات طاقة، لأنه لا ذات له، (لا نفس له)، ومن ههنا بدأت ولاية النبي.. فالرسالة وحي بالقرآن المقروء، ووحي بشرع منه، أمر النبي بتبليغه لسائر الناس.. والنبوَّة وحي بالقرآن المقروء، ووحي بشرع منه، أمر النبي أن يعمل به في خاصة نفسه.. فهو بالرسالة صاحب شريعة، وهو بالنبوَّة صاحب طريقة.. أو قل صاحب ((سنة)).. وبين ((شريعته)) و((سنته)) تداخل، ومنهما أرض مشتركة.. ولكننا نعني هنا بالتكليف الذي بـه زاد النبي عن سائر أمتـه، في العبادة، وفي السلـوك.. ومـن ذاك أن كل شريعته ملـزمة لأمته ولكن بعض سنته غيـر ملزمـة إلا له هـو في خاصة نفسـه، لأنها شريعتـه الخاصة بـه.. وهي لا تلـزم من أمتـه إلا من التـزم بها تطـوعاً، وسلوكاً، واتباعاً، وإتقان تقليـد، على قاعدة: ((قل إن كنتم تحبـون الله فاتبعـوني يحببكـم الله..))
وفيصل القول في أمر المراتب الثلاث هو أن النبوَّة مرتبة شريعة خاصة، تهيأ النبي لها بفضل الله، ثم بطول الممارسة لحياة الخلوة، مما أورثه تيقظ الشعور، وصفاء الفكر.. ثم إن النبي، بمواصلة المجاهدة في شريعته هذه الخاصة، في العلم، والعمل بمُقتضى العلم، في العبادة والمعاملة، يزيد في تيقظ شعوره، وصفاء فكره، كل حين، مما يؤهله للنهوض بوظيفة الرسالة، وتحمل أعباء الإرشاد، والتسليك، والهداية، بصورة تزيد كل يوم جديد.. وفي هذا الطرف من النبوة ـــ طرف الزيادة ـــ تقع الولاية.. لأنها هي الطرف الرفيع، اللطيف، من النبوَّة في حين أن الرسالة هي الطرف الغليظ، الكثيف منها.. وعن استمرار تيقظ حياة فكره، وحياة شعوره، قال: ((إنه ليغان على قلبي، حتى أستغفر الله، في اليوم والليلة، سبعين مرة..)) وهو في كل مرة يستغفر فيها الله تعالى يرقى درجة من درجات القرب من سدة القدس.. والغان ههنا حجاب النور.. وهو يعني حجاب الفكر.. فهو كلما تغشى فكـره في الله كـدر من دواعي الجبلـة، استغفـر الله، فعاود الصفاء فكـره، واتسعـت لهـذا الصفاء حياة الشعور، وذلك لمـا يتلـقى القلب من فيوضات التراويـح.. تراويـح القرب.. وعـن قمـة ترقيـه في مشاهد هـذا القـرب ـــ وهي مشاهـد ولاية ـــ قال: ((لي ساعة مع الله لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل..))..
فكأن المراتب الثلاث، نبوة أهلت، من أسفلها، لرسالة، وأثمرت، من أعلاها، ولاية.. ثم إن هذه النبوة لا تستقر، وإنما هي منطلقة في مراقي الزيادة ــــ علم، وعمل بمقتضى العلم ــــ وفي ذلك قال تعالى لنبيه: ((ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علما)).. وكلما زادت أنوار النبوّة، زاد التأهيل للنهوض بأعباء الرسالة من جانب، وتندحت الولاية بأطايب الثمرات من الجانب الآخر.. وما ثمرات الولاية إلا دقائق المعرفة بالذات العلية.. وإنما بهذه المعرفة لدقائق، ولطائف، أسرار الذات القديمة، تتوحد الذات المحدثة.. وذلك باتساق القوى المودعة في البنية البشرية، اتساقا به يتم السلام الداخلى، وبه يحقق كل فرد فرديته التي بها ينماز عن أفراد القطيع البشري.. فإن تحقيق فردية كل فرد منا بفضل توحيد ذاته البشرية هو غاية المراد من تعبدنا الله بعقيدة التوحيد، ذلك بأن ذات الله في غنى عن التوحيد، وإنما المحتاج للتوحيد هي الذات البشرية التي فرقها الخوف أباديد..

الأحمدية والمُحمّدية


لقد أنى للناس أن يميزوا، بصورة دقيقة، ليس بين النبوَّة والرسالة فحسب، وإنما بين الأحمدية والمُحمّدية أيضا.. فالأحمدية نبوَّة، والمُحمّدية رسالة.. ونبينا مُحمّد بن عبد الله جمع بين الأحمدية والمُحمّدية.. فهو أحمدي النبوَّة مُحمّدي الرسالة.. أو قل هو مما يلي الله أحمدي، ومما يلي الناس مُحمّدي.. هو أحمد في السماء، ومُحمّد في الأرض..
والفرق بين الأحمدية والمُحمّدية كبير.. المسافة بعيدة بين الأحمدية والمُحمّدية.. فإن المُحمّدية تنزل من الأحمدية، اقتضاه حكم الوقت وعين مستواه حاجة الأمة في القرن السابع، وطاقتها.. وهذه المسافة تمثل الفرق بين السنة والشريعة، وهذه تحكي الفرق بين مستوى النبي، ومستوى الأمة، وهو فرق شاسع جدا.. وقد قلنا مرارا كثيرة إن النبي لم يكن من مجتمع القرن السابع الميلادي، وإنما هو قد أتاهم من المستقبل ـــ أتاهم من القرن العشرين ـــ وهو، وإن عاش معهم، فإنما كان يعايشهم، ويعاشرهم، ولكنه لم يكن منهم.. فقد كان هو المسلم الوحيد بينهم، وكانوا هم المؤمنين.. فقد روي عنه أنه قال ذات يوم: ((واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي.. واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي.. واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا من إخوانك يا رسول الله؟ قال: قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعيـن منكم!! قالوا: منا، أم منهم؟ قال: بل منكم!! قالوا: لماذا؟ قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا)).. وروح هذا الحديث في التفريق بين الأصحاب والإخوان.. فقد كان المؤمنون أصحابه، ولم يكونوا إخوانه.. وإنما إخوانه المسلمون، وهم لم يكونوا حاضريه يومئذ وإنما كان هو فرطهم.. وقد عبر عنهم بقوله:((الذين لما يأتوا بعد)): وحديثه عنهم، وتعبيره، مأخوذان من قول الله تعالى في الآيات الكريمات التي صدرنا بها هذه المقدمة، وذلك قوله: ((وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم)) فبعد أن تحدث عن الأميين الذين بعث فيهم نبينا: ((هو الذي بعث في الأمّيين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتاب، والحكمة، وإن كانوا، من قبل، لفي ضلال مبين)) جاء ليقول: ((وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم)).. فالأولون هم الأصحاب، والآخرون هـم الإخوان الذين قال عنهم نبينا في حديثه ((الذين لما يأتوا بعد)) أخذا من عبارة القرآن: ((لما يلحقوا بهم)).. وعبارة النبي: ((للعامل منهم أجر سبعين منكم)) مأخوذة من القول الكريم: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم))..
ويؤخـذ من دقائـق حقائق الدين أن نبينا رسول الأمتين: الأمة المؤمنة ـــ الأصحاب.. والأمة المسلمة ـــ الإخوان.. وإنه بذلك صاحب رسالتين: الرسالة الأولى مُحمّدية، والرسالة الثانية أحمدية.. أو قل الرسالة الأولى الشريعة التي فصلها للأمة، والرسالة الثانية السنة التي أجملها، ولم يفصّلها إلا في معنى ما مارسها، وعاشها دما ولحما..
وهو قد قال: ((بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بـدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء، يا رسول الله؟ قال: الذين يحيـون سنتي بعـد اندثارها..)) وهو حديـث قد أشرنا إليه من قبل في كتابـنا: ((لا إله إلّا الله))، ولفتنا الانتباه إلى أنـه لم يقـل يحـيـون شـريعتي، وإنما قال: ((يحيون سنتي)).. ولا بد لمن يريد أن يعرف دقائق الدين أن يملك المقدرة على التمييز بين الشريعة والسنة، وذلك أمر يقصر فيه كثير من الناس، ممن يتصدون للحديث عن الدين، إن لم نقل كلهم..
وفي قول الله تعالى: ((وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم، مصدقا لما بين يدي من التوراة، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين* ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب، وهو يدعى إلى الإسلام؟ والله لا يهدي القوم الظالمين)) إشارة لطيفة إلى الأحمدية والمُحمّدية.. فإنه قد جاء مُحمّد بنبوة أحمدية، ورسالة مُحمّدية.. فكان أحمد المشار إليه من وجه، ولم يكنه من وجه.. فدعا إلى الإيمان تفصيلا، ولم يدع إلى الإسلام إلا إجمالا، في معنى ما بلغ القرآن، وفي معنى ما سار السيرة.. وقد استجابت له أمة المؤمنين.. وسيجئ مُحمّد بنبوة أحمدية، ورسالة أحمدية، فيدعو أمة المؤمنين، ويدعو غيرها من سائر الأمم إلى الإسلام، ويفصل، في التشريع، وفي التفسير، ما أجمل في القرن السابع.. وسيستجاب له استجابة مستفيضة، ذلك بأن وعيد الله يومئذ سيستعلن.. وذلك حيث يقول جل من قائل: ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين..)) ووعد الله سيتحقـق، وذلك حيث يقول، تبارك من قائل: ((اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا..))
ولما كانت البشرية، على عهد الجاهلية الأولى ـــ جاهلية القرن السابع ـــ متخلفة، وساذجة، وجاهلة، فقد اقتضى حكم الوقت تنزل المُحمّدية عن الأحمدية تنزلا كبيرا، وذلك حتى تخاطب الناس على قدر عقولهم، وحتى تشرّع لهم في مستوى حاجتهم، وهي حاجة بسيطة.. وكان هذا التنزل من مستوى آيات الأصول في القرآن، إلى آيات الفروع.. وأصبحت بذلك آيات الفروع صاحبة الوقت، واعتبرت ناسخة، فيما يخـص التشريـع، لآيات الأصول.. وقـد عالجنا هذا الأمـر بتوسع في كتابنا ((الرسالة الثانية من الإسلام)) وهو كتاب قد خرجت طبعته الثالثة قبل أيام قلائل، فليراجعه من شاء..
والآن، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، والبشرية تعيش الجاهلية الثانية ـــ جاهلية القرن العشرين ـــ وهي جاهلية أرفع، بما لا يقاس، عن مستوى جاهلية القرن السابع، فقد أصبحت الأرض مهيئة لتتلقى عن الأحمدية، وتعي، أكثـر مما تلقى، ووعى، أسلافها، وكذلك جاء وقت الرسالة الأحمدية.. والرسالة الأحمدية تطوير للرسالة المُحمّدية.. وذلك ببعث آيات الأصول التي كانت في عهد المُحمّدية منسوخة لتكون هي صاحبة الوقت في القرن العشرين، وتكون هي عمدة التشريع الجديد، ولا يقتضي كل أولئك إلا فهما للقرآن جديدا، به تحيا السنة بعد اندثارها..

الذات المُحمّدية


الذات المُحمّدية أول قابل لتجليات الذات الإلهية.. وهي المشار إليها في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، قال قلت: ((يا رسول الله بأبي أنت، وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله.. قال: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر..))
والذات المُحمّدية حقيقة أحمدية، قمتها ولاية، وقاعدتها نبوَّة.. ومقامها المقام المحمود الذي قامه النبي ليلة عرج به بعد أن جاوز سدرة المنتهى، وفيه صح له الاتِّصاف بقوله تعالى: ((ما زاغ البصر، وما طغى)).. وذلك في جمعية بلغت فيها وحدة الذات البشرية قمة طوعت لها شهود الذات الإلهية..
ثم إن النبي لم يلبث أن عاد، بعد تلك الإلمامة النورانية، إلى حياته العادية في مكة، وكان الله قد آتاه معراجا يوميا، وأمره بالمداومة عليه، ومناه أن يبلغه به، على مُكث، المقام الذي قامه بين يديه ليلة المعراج.. فقال تعالى: ((ومن اللّيل فتهجّد به نافلة لك، عسى أن يبعثك رّبك مقاما محمودا)).. ذلك المعراج هو الصلاة.. فقد كان مُحمّد بمنهاج الصلاة، في المكتوبة، والنافلة ــــ ليلا ونهارا ــــ يقترب، كل لحظة، ويعـرج، كل حيـن، ويحقـق، في الـدم واللحم، المقام الذي أطلعه الله عليه ليلة المعراج.. وهذا ما من أجله قال: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) وقرة العين تعني طمأنينة القلب، ولا تكون طمأنينة القلب إلا بجمعية النفس بعد التوزع.. ولقد حقّق مُحمّد هذه الجمعية بفضل اطلاعه على وحدة الذات الإلهية.. فاطمأنت نفسه، واحلولت شمائله، واكتملت حريته.. وأكبر دليل عندي على كمال حريته الداخلية عزوفه عن السيطرة على الآخرين.. فالمعروف عنه أنه كان يكره أن يتميز على أصحابه.. وكان يحب أن يكون كأحدهم.. وكان ينهاهم أن يعظموه، ويقول لهم: لا تعظموني كما تعظم الأعاجم ملوكها.. وكان يقول: من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار.. ووفد عليه، ذات مرة، رجل فأخذته هيبته، فلجلج، ولم يستطع أن يبيّن عن حاجته، فقال له: هون عليك!! فإني لست ملكا، وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد.. فسري عـن الرجل، واستعاد رباطة جأشه، وكرامة إنسانيتـه.. ولقد خيـر: أيكـون نبياً ملكا؟ أم يكون نبياً عبدا؟ فاختار أن يكون نبياً عبدا.. والعبودية لله هي غاية الحرية، وكلما زاد العبد في التخضع لله، كلما زادت حريته.. والعكس صحيح.. فالملك تسلّط على الآخرين، وبه تنقص عبودية العبد، وتنقص، تبعا لذلك، حريته، ولذلك فقد آثر الحرية، في معنى ما آثر العبودية لله..
هذه نفس اكتملت لها عناصر الصحة الداخلية، واتَّسقت قواها الباطنية، وتحرّرت من الأوهام، والأباطيل، وسلمت من القلق، والخوف العنصري، البدائي، الساذج..
ما أحوج بشرية اليوم، كلها، إلى تقلّيد هذه النفس التي اكتملت لها أسباب الصحة الداخلية، تقلّيداً متقناً يفضي بكل رجل، وكل امرأة، إلى إحراز وحدة ذاته، ونضج فرديته، وتحرّير شخصيته، من الاضطراب، والقلق الذي استشرى في عصرنا الحاضر بصورة كان من نتائجها فساد حياة الرجال والنساء والشبان.. في جميع أنحاء العالم..

المسلمون ما خطبهم؟؟


والمسلمون، اليوم، ليسوا على شيء، وإنما هم في التيه.. يعيشون الجاهلية الثانية ـــ جاهلية القرن العشرين ـــ والعاملون منهم بالدين لا يتعدى عملهم القشور إلى اللباب.. وليس لهم إلى خروج من هذا الخزي غير طريق مُحمّد.. ونحن إذ نقدّمه لهم في هذا الكتيب، وإذ ندعوهم إليه، ننّذرهم عواقب الإبطاء في الأخذ به.. ثم إنّنا، من وراء المسلمين، وبعد المسلمين، نقدّمه للإنسانية جمعاء، فليس لها من طريق غيره إلى كمال التحرّير، ولا كمال التمدين.. ومن أجل ذلك فقد جاءت عبارة إهدائه هكذا: -
((إلى الرّاغبين في الله، وهم يعلمون، والرّاغبين عن الله، وهم لا يعلمون.. فما من الله بدّ))

العـودة


قال تعالى: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا)).. ولما يظهر الإسلام على الدين كله، وإنما ظهوره أمامنا، ذلك وعد غير مكذوب.. وقال المعصوم: ((بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها))..
فالإسلام عائد، ما في ذلك أدنى ريب.. وستصحب عودته الغرابة، كما صحبت بدءه.. وما ذاك إلا ّلأن عودته ستكون عن طريق بعث ((لا إله إلا الله)) من جديد، قوية، خلاقة، في صدور الرجال، والنساء، كأول العهد بها ـ باختلاف واحد، هو أن عمود التوحيد ستكون له قمة جديدة، أعلى مما كانت عليه في العهد الأول، وذلك أمر يقتضيه حكم الوقت الحاضر، كما يقتضيه محض الفضل الإلهي، المَحْكِي في الآية الكريمة: ((كل يوم هو في شأن))..
وإنما من أجل تمهيد طريق هذه العودة أخرجنا هذا الكتيب: ((طريق مُحمّد))، وقمنا بالدعوة إليه.. وإنّما من أجل هذا التمهّيد كتبنا هذه المقدمة الطويلة، للطبعة الثالثة من هذا الكتيب المهم.. فإن التقلّيـد بغيـر وعي، وتمـام إدراك، قليل الجـدوى، وقـد يكـون عملا آلياً لا روح فيـه قصاراه التعـب.. ولكي يكـون التقلّيـد موصلا للثمـرة المرجـوة منه وجب أن ينبعـث عن ثقـة بالمقلّـد، وطمأنينة إليه، وتوقّيـر، وتقدّيس، ومحبـة له..

التقديس والتوقير
وأيسر ما يقوم عليه التقليد النافع أن يكون صدر المقلّد منطوياً على قدر كبير من التقدّيس، والتوقير للنبي، وهذا ما من أجله أخذ الله الأصحاب بالأدب معه، وأمرهم بالصلاة عليه، فقال، عز من قائل: ((إن الله وملائكته يصلّون على النبّي، يأيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه، وسلّموا تسلّيما)).. ونحن هنا قد قرّرنا أن الأصحاب هم المؤمنون، والإخوان هم المسلمون.. وفي كتابنا ((الرّسالة الثّانية من الإسلام)) قلنا إننا سنفهم القرآن فهما جديدا إذا استطعنا أن نميز بين مرحلة المؤمنين، ومرحلة المسلمين.. وفصّلنا الأمر هناك تفصّيلا يغنينا عن الإعادة هنا.. فليراجع في موضعه.. ونكتفي هنا بأن نقرّر أن المسلمين أقرب إلى الله من المؤمنين.. وصلاتهم لله أتم وأكمل من صلاة المؤمنين له.. وصلاتهم على النبي أتمّ وأوفى من صلاة المؤمنيـن عليـه.. والمسلم، إذا اكتملت حقيقته، انبثقت منها شريعته، فأصبح صاحب شريعة فردية في الصلاة لله، وفي الصلاة على النبي، لا يتقيد فيها بنهج صلاة المؤمنين في كل أولئك.. وهو إنما تكتمل له حقيقته، وتبرز له شريعته الفردية منها، بفضل الله، ثم بفضل حسن تقليده للنبي.. وما من مسلم إلا وقـد مر بمرحلـة المؤمنين.. والأمة المسلمة تبـدأ بمرحلة الأمة المؤمنة.. والفرق بين المسلمين، وهم في مرحلة الإيمان، وبين المؤمنين، هو أن الطريق مفتوح للتطور في السلم السباعي في حق المسلمين، في حين أنه مقفول، عند الدرجة الثالثة، في حق المؤمنين..
ومُحمّد، وهو رسول للأمة المسلمة، صاحب رسالة أكبر منه وهو رسول للأمة المؤمنة.. فهو في رسالته للمسلمين أحمدي، وفي رسالته للأمـة المؤمنـة مُحمـّدي، وسبب الفـرق بين الرسالتين حكم الوقت.. الفرق بين وقت الرّسالة الأولى ــــ القرن السابع.. ووقت الرّسالة الثانية ـــ القرن العشرين.. من أجل الإشارة إلى هذه المسائل صدر هذا الكتاب، من تحت أيدينا، من غير إثبات الصلاة اللفظية على النبي، مع إنه كله صلاة عليه في مستوى أرفع مما يصلي عليه المصلون..
وأصحابنا لا يهملون الصلاة اللفظية وهم يقرأون هذا الكتاب، أو كلما ذكر عندهم النبي الكريم.. وهذا ما يجب أن يكون عليه الشأن أثناء السير، والتطور نحو الإسلام، وعند الإسلام؟؟ ((قل كلّ يعمل على شاكلته..))