إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٧)
خالد الحاج عبد المحمود
الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
الأخلاق والطبيعة الإنسانية:-
لقد سبق أن بينا أن الإنسان مفضل على جميع خلق الله، وأنه غاية الوجود، والوجود الحادث كله مسخر له، أى مسخر لأن يعينه على أن يحقق انسانيته.. وأفضلية الإنسان تجيء من طبيعة نشأته، التى تقوم على الحرية، فقد أعطاه الله تعالى حق الخطأ.. حق أن يعمل فيخطيء أو يصيب، فيتعلم من خطأه وصوابه، وبذلك أصبح تطوره مفتوحاً على الإطلاق .. ولقد سبق لنا، قبل قليل أن بينا علاقة الحرية بالأخلاق، فالأخلاق فى سبحاتها العليا ما هى إلا حسن التصرف فى الحرية.. وهذا يجعل إنسانية الإنسان هى القيمة الخلقية التى يتميز بها.. فالإنسان ، هو إنسان ، بالقدر الذى يتسامى به فى سلم تحقيق القيم الأخلاقية ، وهو بعيد عن الإنسانية، وقريب من الحيوانية، بقدر هبوطه فى سلم القيم الأخلاقية.. ولقد سبق لنا أن ميزنا بين الحياة الدنيا - حياة الحيوان فى الإنسان - والحياة العليا - حياة الإنسان - فليراجع فى موضعه.. يقول الأستاذ محمود عن علاقة الإنسانية بالأخلاق: (فأما الإنسانية فهى القيمة الأخلاقية التى تميز بها الإنسان عن الحيوان، وعن الملك.. فهنالك ، مثلاً، فى الحيوات العليا الحيوان، والإنسان ، والملك.. فالإنسانية صفة وسطى بين الحيوان ، والملك.. وهى نقطة إلتقاء الحيوان والملك.. وهى أكمل من كليهما، وذلك لمكان الحرية فيها، وهنا تجئ أهمية الأخلاق.. فان الأخلاق هى حسن التصرف فى الحرية الفردية المطلقة.. والحرية من حيث هى مقيدة، أو مطلقة ، إنما هى نفحة من الله تضوعت على أرض الإنسان . وإنما يجيء القيد، من عجزنا نحن عن التلقي عن المطلق.. فالحرية المقيدة انما هي تلقي نسبي عن الحرية المطلقة.. والحرية المطلقة هى الله .. لأنها صفته ولأنها أخلاقه .. ومن أجل ذلك قال المعصوم "تخلقوا بأخلاق الله، إن ربى على سراط مستقيم" وقال تعالى: "كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب ، وبما كنتم تدرسون" أى كونوا علماء وكونوا أحراراً بغير حدود للحرية .. وهذه هى الأخلاقية التى تسأل عنها أنت ، وهى ، هى التى جعلت الإنسان إنساناً، فوق مرتبة الحيوان ، وفوق مرتبة الملك ..) - أسئلة وأجوبة الكتاب الأول –
وبداية الأخلاق - وهى نفسها بداية إنسانية الإنسان - هي ترويض العقل للشهوة.. وليس دون ذلك أخلاق!!
يقول الأستاذ محمود: (لقد سلفت الإشارة إلى أن الإنسان، فى نشأته ، إنما هو برزخ بين الملائكة الأعليين ، والأبالسة الأسفلين.. هو نقطة إلتقاء النور والظلام - العقل والشهوة - ولقد قررنا أن العقل قد أمر بترويض الشهوة .. وعلى هذا قام التكليف، وبه ظهر الإنسان ، بعد أن لم يكن ..) - تعلموا كيف تصلون - فالتكليف هو الأخلاق ، وهو وسيلة تحقيق إنسانية الإنسان .. "وبدخول هذا القانون - قانون التكليف - إنقسم الإنسان .. وبدأ سيره نحو إنسانيته ، مبتعداً عن الحيوانية .. وكل مشقةٍ تحملها فى هذا الإتجاه ، إنما هى منزلة قرب من إنسانيته، تمثل فى حد ذاتها ، منزلة بعد عن حيوانيته.." وموضوع الإنقسام هذا ، موضوع هام جداً ، وينبنى عليه الكثير، ونحن سنتعرض له لاحقاً بشئٍ من التفصيل، عندما نتحدث عن الحضارة الغربية ..المهم أن نقرر الآن أن الحيوان متوحد بسبب غياب العقل عنده ، فهو تسيره إرادة الحياة وحدها .. أما الإنسان ، فبسبب ظهور العقل، ووظهور إرادة الحرية عنده ، فقد أصبح منقسماَ ، وفى صراع دائم بين الإرادتين، الأولى تشده نحو الحيوانية ، نحو الغرائز، والثانية، تشده، نحو إنسانيته ، نحو العقل والقيم.. ولقد سبق أن ذكرنا أن سبب الإنقسام الخوف، وهو على الرغم من أن به تمت بداية الدخول فى مرحلة البشرية إلا أن الأنسانية لا تتحقق إلا بالتخلص من الخوف ، وتحقيق الوحدة ، ولكنها وحدة تختلف كثيراً عن الوحدة عند الحيوان ، فهى تقوم على الجسد والعقل المتسقين، بدل العقل والجسد المتنازعين، التى تعيش فيها البشرية اليوم.. ولقد سبق لنا ، أن تحدثنا عن الحياة الدنيا والحياة العليا .. حياة الحيوان، وحياة الإنسان، وقلنا أن الفيصل بين الحياتين هو التخلص التام من صفات الحيوان ، فالإنسان ما دامت مسيطرة عليه صفات الحيوان ، خضع لها، أو قاومها ، فهو فى الحياة الدنيا .. والتخلص من صفات الحيوان، هو وظيفة المنهاج - وظيفة التربية .. والأمر فيه يبدأ من بدايات بسيطة ثم يتسامى ، هو يبدأ بالتحول من طاعة قانون النفس ، نحو طاعة قانون الروح .. فالنفس قانونها إبتغاء اللذة بكل سبيل ، وإجتناب الألم بكل سبيل أيضاً والروح قانونها الحلال والحرام، وهى تبتغى من النفس أن تستعصم عن اللذة العاجلة، إذا كانت حراماً، وذلك إبتغاء اللذة الآجلة الحلال، وفراراً من الألم المترتب على تعاطى اللذة الحرام سواء كان هذا الألم معجلاً، أو مؤجلاً.. وبذلك تدخل "القيمة" فى حياة الإنسان.. فالإنسان ، إنسان بقدر دقة، ورفعة، القيم التى يعيش وفقها.. فالتسامى فى الإنسانية إذن هو تسامى فى تحقيق القيم الإنسانية الرفيعة.. وهذا الأمر فى الإسلام ، يتم وفق تصور واضح ، وبصورة منهجية، منظمة ، يقوم عليها المنهاج، فى مراحل تطورية، تبدأ من النفس اللوامة، نحو النفس الكاملة .. وهذا ما سنوضحه فى موضعه عند الحديث عن المنهاج .. ولقد قصدنا فى هذا الجزء، أن نبين فى إيجاز علاقة الأخلاق بالطبيعة الإنسانية.