إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٨)
خالد الحاج عبد المحمود
الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
النار فانية:
إن الحديث عن فناء النار يجد معارضة شديدة، من السلفيين عموما، مع أنه أمر يلحق بالبداهة.. الصادقون منهم يجدون اشكالية في فهم فناء النار، لأن الحديث عنها في القرآن، جاء مرتبطا بالأبد، وهم فهموا الأبد، بمعنى الزمن الذي لا ينتهي، بمعنى السرمد، وهذا فهم غير صحيح، لأن الأبد زمن محدد.. وقد جاء عن النار قوله تعالى: (خالدين فيها أبدا) وجاء عنها قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) .. وديمومة السموات والأرض هذه، زمن محدد، هو الأبد.. فالسموات والأرض كانتا رتقا (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما..) ، فبالفتق ظهرت السموات والأرض، والفتق سيعود للرتق مرة أخرى (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا، إنا كنا فاعلين).. والآيات التي تتحدث عن جمع السموات والأرض عديدة.. فالأبد، أذن، هو الفترة من الفتق الى الرتق، وهو زمن محدد.. وبعده تفنى النار، وكذلك الجنة هي أيضا فانية، ولكن ببطء أكثر من النار، وكلما فنيت جنة تم الانتقال الى جنة أعلى منها، وهكذا سرمدا، وهذا معنى كون الخير مطلقا.. وفناء النار وردت حوله أحاديث نبوية كثيرة خصوصا في البخاري.. ولكنك ربما لا تجدها الآن!؟ لماذا؟! لأن الطبعات الجديدة، تعرضت لتنقيح!! ونستميح القارئ عذرا، فنعلق على هذا الموضوع.. كنت قد اطلعت على أحاديث عديدة، في نسخة قديمة للبخاري خاصة بعمنا المرحوم عبد الله أب سالف برفاعة، ومنها الحديث المشهور "يضع الرحمن رجله على النار فتقول غط غط، وينبت مكانها شجر الجرجير" وهو شجر شديد الخضرة.. وحاولت أن أرجع لهذه الأحاديث في كتب البخاري، فلم أجدها!! خصوصا الكتب المطبوعة في مصر والسعودية.. فاكتشفت أن جميع هذه الكتب منقحة!! وفي واحدة من الطبعات الصادرة من مصر، جاء في المقدمة أن الكتاب نقحه طائفة من العلماء!! وذكر هؤلآء العلماء أنهم أبعدوا من البخاري الأحاديث التي لا تتمشى مع العقل!! وذكروا كمثال انهم أبعدوا حديثا جاء فيه أن رجلا ركب على بقرة، أو حمل عليها، فقالت البقرة: "ليس لهذا خلقنا"!! فاعتبر هؤلآء الفقهاء أن هذا الحديث لا يتمشى مع العقل فأبعدوه!! والسؤال لايتمشى مع عقل من!؟ إذا كان كل انسان يجعل من نفسه حكما على عقل النبي صلى الله عليه وسلم، أوعلى القرآن، فلا شئ يبقى لا من الحديث ولا من القرآن، .. ببساطة لولا أن هؤلآء القوم يعتبرون أنفسهم أوصياء على خلق الله، وعلى دين الله، كان يمكن ترك الأحاديث كما اوردها صاحبها، ثم يعلقوا عليها ما شاؤوا.. وإذا كان ليس من العقل أن تتكلم بقرة، فليس من العقل ايضا أن يتكلم النمل، أو أن يتكلم الطير!! وكلام النمل والطير وارد في القرآن.. وحسب منطق هؤلآء القوم، لو وجدوا الفرصة، لنقحوا القرآن بما يتمشى مع عقولهم هم!! قال تعالى: (قالت نملة: يأيها النمل ادخلوا مساكنكم، لا يحطمنكم سليمان وجنوده، وهم لا يشعرون، فتبسم ضاحكا من قولها) وهذا لايعني فقط أن النمل يتكلم، بل وأن الانسان يمكن أن يفهم كلامه، وجاء عن سيدنا سليمان، من القرآن، قوله تعالى: (علمنا منطق الطير).. أكثر من ذلك كل شئ متكلم!! يقول تعالى: (وقالوا لجلودهم، لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ)!! - نحن سنعود لهذا الأمر عندما نتحدث عن اللغة- المهم أن نقول هنا إن عمل الفقهاء، في تنقيح كتب الأحاديث، عمل غير أخلاقي، ويقوم على وصاية غليظة من جهلاء، في معارف الدين والدنيا.. ومن أسباب التشديد على الناس، ومحاولة إخفاء النصوص التي تتحدث عن سعة الرحمة، أنهم يزعمون أن هذه الأحاديث تجعل الناس يتكاسلون عن العمل!! هل هذا الذي عرفتموه أنتم، يفوت على حكمة النبي الكريم؟! وما الذي يجعلكم أنتم عندما تعرفون هذه النصوص، لا تتقاعسون عن العمل، ويجعل الآخرين يتقاعسون!؟
المهم لكي أتحصل على بخاري غير منقح بحثت كثيرا، ولم أتمكن من الحصول عليه، إلا عن طريق الأخ حسن شرف الدين، وجده بعد جهد مضني بمكتبة واحدة، باستانبول بتركيا، فكانت آخر نسخة بالمكتبة، والنسخة مكتوب في أولها "هذه الطبعة موافقة لطبعة العامرة باستانبول سنة 1315هـ" .. فعلى المثقفين أن يعوا هذا التزييف الموبق الذي يتم لكتب التراث الاسلامي، ويقفوا ضده، ويرفضوا هذه الوصاية الغليظة.
ذكرني هذا بقول أحد الأطفال زجرته أمه في عمل عمله، وقالت له: "الله بوديك النار" فرد الطفل: "إنتو قايلين الله فقري زيكم كده؟!" واهم من يظن أن هذه الأجيال يمكن أن تعود للدين عن طريق الوصاية الجاهلة.
نرجع الى حديثنا عن فناء النار، فالأمر محسوم بالتوحيد.. فالنار لا يمكن أن تكون باقية بقاء الله، تعالى الله عن ذلك تعالى الله علوا كبيرا.. ولذلك نبهنا في الحلقة الأولى إلى التوحيد كإطار توجيه ونموذج ارشاد.. وقد جاء في تلك الحلقة: "والحركة، في الوجود الحادث، تقوم على الفناء والبقاء، أو الموت والحياة، وكلاهما وجهان لشئ واحد.. فدائما، الذي يفنى، أو يموت، الجانب الكثيف الغليظ، أو الجانب الأقل استجابة لدواعي الحياة، بالنسبة للأحياء.. يقول تعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).. أو يقول: (ولا تدعو مع الله، إلها آخر، لا إله إلا هو، كل شئ هالك، إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون) لقد ذكرنا أن لكل شئ في الوجود، قاعدة وقمة، والقاعدة تمثل المادة، والقمة تمثل الروح، والاختلاف بينهما اختلاف مقدار.. فالقاعدة فانية، أي متحركة، متغيرة تطلب القمة، والقمة ليست باقية على صورة واحدة، وإنما هي أيضا متحركة- فانية - تطلب نقطة مركز الوجود.. فكلمة "هالك" أو "فان" في الآيات تعني متغير.. وعبارة "ويبقى وجه ربك" من الآية، تعني يبقى البقاء النسبي، الوجه الذي يلي الله من الأشياء، وهو قمة هرم كل شئ.. ويبقى البقاء المطلق، وجه الله المطلق – الذات-" .. فالنار هي الوجه البعيد عن الله، ولذلك فانية بصورة أسرع، ولاتبقى إلا لفترة الأبد.. هذا، وكل حالة شر أو عذاب هي ملطفة باسم الله (اللطيف).. يقول الأستاذ محمود: "والخطأ ، كل الخطأ ، ظن من ظن أن العقاب في النار لا ينتهي إطلاقا ، فجعل بذلك الشر أصلا من أصول الوجود ، وما هو بذاك . وحين يصبح العقاب سرمديا يصبح انتقام نفس حاقدة ، لا مكان فيها للحكمة ، وعن ذلك تعالى الله علوا كبيرا." - الرسالة الثانية –
وقد حذف بعض المعارضين، من النص عبارة "عن ذلك تعالى الله علوا كبيرا"، ومنهم عبد الحي يوسف، وهو عمل ، بالاضافة على دلالته على رقة الدين، وضعف الخلق، يدل دلالة كبيرة، على شدة الغباء، فما تركوه من النص يتناقض بصورة حادة، مع ما أرادوا أن يصلوا إليه، وهو قولهم: "مخلوق يصف خالقه بالحقد..".. فالنص كله يعبر عن سعة الرحمة الإلهية، وأي جزء تحذفه منه، لا يمكن أن يجعل بقية النص عكس ما وضع له!! ولكنهم لشدة غبائهم، يعتقدون أن كل القراء، في مستوى غبائهم.. ولنفرض جدلا أن هذا التحريف، جاز على القراء، هل هو يجوز على الله!؟ ها هنا تكمن رقة الدين، فهم ينطبق عليهم قول الله تعالى: (ولكن ظننتم، أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون * وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم، أرداكم فأصبحتم من الخاسرين) .. فهم، لولا سوء الظن هذا بالله، لعلموا أن الله مطلع على ما يعملون، فلم يهلكوا أنفسهم بهذه الصورة؟!.. ولعلموا أيضا، أن الباطل مهما فعل، لن يستطيع في النهاية أن ينتصر على الحق.. ولو كانوا يظنون أن الفكرة الجمهورية باطلة، لعرضوا منها، ما يعتبرونه باطلا، دون الحاجة لأن ينسبوا لها، من عندهم، ما ليس منها.
نحن نرى، أن حديثنا عن الخير والشر لا يكتمل إلا بالحديث عن الشيطان، الذي يعتبر رمز الشر وتجسيده، ومصدر الغواية التي توجب العقاب.. والشيطان في وقتنا الحالي يجد من يعبدونه بصورة مباشرة، ويقيمون لعبادته المعابد، والرموز الدينية، مثل النجمة الخماسية، كما يؤدون في عبادتهم طقوسا دينية معينة، مثل كل الأديان الأخرى.. ولكن ليس هذا أخطر ما في الموضوع، فهؤلآء مهما كان شأنهم فهم قلة قليلة.. وأخطر ما في الموضوع، عبادة الشيطان، غير المباشرة، بطاعته فيما يأمر به من شر، ومن مفارقة القيم، بما يحط من إنسانية الإنسان.. وعبدة الشيطان بهذا المعنى الأخير، في وقتنا الحالي، هم الأغلبية الساحقة من أهل الأرض.. وستتضح أبعاد هذا الأمر بصورة جلية عندما نتحدث عن الحضارة الغربية.
حديثنا التالي، عن الشيطان، منقول عن كتاب "العصر الذهبي للإسلام أمامنا".. ورغم ورود اشارات هنا وهناك، لمواضع في الكتاب، إلا أننا نعتقد أن ذلك لا يشكل أي مشكلة بالنسبة للقارئ.. كما سيكون هنالك بعض التكرار، نعتقد أنه يفيد في توكيد المعنى الذي نريده.