إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعَلّموا كيف تتعاملون
الكتاب الأول

المرحلة الثانية من مراحل المعاملة
تحمّل الأذى


المرحلة الثانية من مراحل المعاملة الإنسانية الرفيعة، هي مرحلة تحمّل أذى الآخرين.. وفي اتجاه تحمّل الأذى، قبول عذر المعتذر مهما كان، والعفو عن المسيء، ومسامحته.. وهذا المستوى من المعاملة هو خطوة هامة في اتجاه تحقيق السلام بين أفراد المجتمع، وهو لا يتأتَّى إلاّ بعد عمل كبير في تجويد السلوك في العبادة وتحقيق التوحيد في مستوى تجويد وحدة الفاعل، حيث يرى الإنسان في فعل الآخرين، وما يلحقونه به من أذى، فعل الله، ويحاول أن يفهم حكمته تعالى في فعله، فيتأدب معه تعالى، فلا يثور، ولا يغضب، ولا يحاول رد اعتداء المعتدي، وظلم الظالم، وإنما يحاول أن يرضى، ويعمل على أن يجعل من الأذى الذي لحقه وسيلة لتربية نفسه، ولا يقتص من المعتدي فيفوت على نفسه الثواب الذي يمكن أن يناله إذا صبر على الأذى..
وعن موضوع العفو عن المسيء، وعدم رد الظلم قال النبي الكريم: (أوصاني ربّي بتسع أوصيكم بهن، أوصاني بأن أعطي من حرمني، وأن أصل من قطعني، وأن أعفو عمّن ظلمني) إلى آخر الوصايا التسع.. وقال تعالى: (والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين).. وقال تعالى:(وجزاء سيئة سيئة مثلها.. فمن عفا، وأصلح، فأجره على الله..).. فالحد الأدنى في المعاملة في الإسلام إنما هو العدل، وهو هنا رد الاعتداء، دون زيادة، وهو أمر قد نفّر عنه القرآن، وسمّاه (سيئة)، ليمهد للعفو الذي ورد في بقية الآية (فمن عفا، وأصلح، فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين).. وهذا المعنى في العفو قد ورد في قول السيد المسيح: (أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم).. إلاّ أن قول القرآن أكمل من عبارة الإنجيل، وأبلغ.. وهو أيضاً عملي، فإنه هو يقوم على فهم طبيعة النفس البشرية التي لا تستجيب للعفو منذ البداية، وإنما تحتاج إلى منهاج لنقلها لهذا المستوى، وتحتاج إلى تدريج، وقد أعطاها الإسلام المنهاج المتمثل في سنة النبي الكريم، ومهّد لها أن تتدرّج من قاعدة أولية هي العدل إلى قمة رفيعة هي العفو والإصلاح.. فهو كما ورد في الآية، قد نهاها أولاً عن الظلم و(إن الله لا يحب الظالمين)، ثم سمح لها بالقصاص، ونفّرها عنه ليعدها للمرحلة الأكبر، فسمّاه في الآية (سيئة).. ثم طالبها بالعفو، وحبّبها فيه، بأن ذكّرها بالأجر الذي تجده عند الله إن هي عفت، (فمن عفا، وأصلح، فأجره على الله).. ثم دعاها لما هو أكبر من العفو، وهو الإحسان، وتوصيل الخير للمسيء، وهذا ما تفيده كلمة (وأصلح) من الآية.. وفي آية أخرى يقول تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)..
وصور تحمّل الأذى، والعفو عن المسيء، وقبول عذر المعتذر، في الشمائل النبوية عديدة ولا حصر لها.. فهو صلّى الله عليه وسلّم مثلاً عند فتح مكة عفا عن كفّارها، الذين آذوه وقاتلوه.. وهو قد كان يتحمّل أذى جاره اليهودي الذي كان يرمي بالأوساخ إلى دار النبي يومياً، وعندما انقطعت الأوساخ لم يكن هم النبي ما انقطع عنه من أذى، وإنما كان مشغولاً بأمر اليهودي، وماذا عسى أن يكون قد أصابه، ولذلك ذهب يتفقده.. وقد ورد عن شمائله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان لا يواجه أحداً بما يكره، ولا يجفو على أحد مهما كان، ويقبل عذر المعتذر مهما كان فعله. وقال أنس خادمه (خدمت رسول الله عشر سنوات، فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟.. وكان بعض أهله إذا لامني يقول دعوه فلو قضى شيء لكان).. وصور الشمائل في هذا الباب كثيرة يمكن الرجوع إليها في كتب الأحاديث وكتب السيرة..