إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تطوير شريعة الأحوال الشخصية

توطئـة البحـث:-


هذا بحث في آصل أصول الدين.. بحث في كرامة الإنسان.. والإنسان هو قمة هرم المملكة.. فإن المملكة مكونة هكذا:-
في القاعدة الغازات ثم السوائل، والجمادات.. (بما فيها، وفي قمتها الطين والماء)، ثم النباتات، ثم الحيوانات، ثم البشر (بنو آدم)، ثم الإنسـان.. قال تعـالى في كرامـة بني آدم: ((ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر، والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)).. وبنو آدم ليسوا قمة الخليقة، وإنما هم مرحلة من مراحل تطور الخليقة في المملكة نحو مرتبة الإنسان.. بنو آدم بالنسبة للإنسان كالحيوان بالنسبة لبني آدم.. وفي حين أن بني آدم مفضلون على كثير من المخلوقات ((وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)).. فإن الإنسان مفضل على سائر المخلوقات.. وإنما من أجل الإنسان خلقت الأكوان، وما خلق الإنسان إلا من أجل الله.. قال تعالى في معنى خلق الأكوان من أجل الإنسان ((هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب، ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع، والزيتون، والنخيل، والأعناب، ومن كل الثمرات.. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم الليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه، إن في ذلك لآية لقوم يذكرون * وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها، وترى الفلك مواخر فيه، ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون * وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وأنهاراً، وسبلا.. لعلكم تهتـدون * وعلامات، وبالنجم هم يهتـدون))..
وفي معنى خلق الإنسان من أجله قال تعالى: ((وذكر!! فإن الذكرى تنفع المؤمنين * وما خلقت الجن، والإنس، إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق، وما أريد أن يطعموني * إن الله هو الرزاق، ذو القوة المتين)).. وقال تعالى في حق موسى ((واصطنعتك لنفسي)).. وإنما من هذه الآيات ومن تلك، قال العارفون عن لسان الحق: ((جعلت الأكوان مطية للإنسان، وجعلت الإنسان مطية لي)) وهو قول يفرع أيضا على الحديث القدسي: ((ما وسعني أرضي، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن)).. وعلى الآية الكريمة: ((سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟؟)).. ولم يكن الإنسان غائبا عن الأكوان، وإنما كان دائما طليعتها، ورأس سهم تقدمها، من لدن الغازات.. ولا يزال التقدم يطرد به، ولما يبرز لمقام عزه بعد.. قال تعالى عن تقلب الإنسان في الصـور البدائية، في الآماد السحيقة: ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟؟ * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج، نبتليه، فجعلناه سميعاً بصيراً * إنا هديناه السبيل: إما شاكراً، وإما كفوراً)) وقوله (هـل) هنا تعني (قـد).. قد أتى على الإنسان دهر دهير لم يكن فيه مذكوراً في ملكوت الله، لأنه لم يكن، خلال هذا الدهر الدهير، يتمتع بعقل التكليف.. وإنما من ههنا سقط ذكره - ((لم يكن شيئاً مذكوراً)).. وهذا الدهر الدهير يوقت تقلبه في الصور الدنيا، من أسفل سافلين حيث رد، صاعداً إلى أحسن تقويم حيث خلق.. قال تعالى: ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين)) و ((أسفل سافلين)) هذه هي نقطة أدنى صور تجسيد المادة.. وتسخير الأكوان له إنما معناه إعانته في سيره هذا الطويل من منفاه في البعد إلى مقامه في القرب عند الله.. كل شئ سخر لهذه الغاية.. إبليس، وذريته، والملائكة الأطهار، والرسل، والكتب، والشرائع، والقرآن بصورة خاصة.. ذلك بأن طريق الرجعى به قد بين احسن تبيين.. وهو بصورته التي بين دفتي المصحف قد نزل مؤخرا على خاتم النبيين، ولكنه، في حقيقته، ما بدأ نزوله، ولا انقطع نزوله، وإنما هو مستمر النزول، ولن ينفك.. هو في صورته التي بين دفتي المصحف قد نزل ليوجه تطور البشرية نحو الإنسانية - ليستخلص الإنسان من البشر.. وليرسم طريق رجعته إلى وطنه الذي قد طال اغترابه عنه.. انظر كيف تحكي هذه الآيات الكريمات بداية هذا الطريق، ونهايته: ((حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآناً عربياً، لعلكم تعقلون * وإنه، في أم الكتاب لدينا، لعلي حكيم)).. عبارة ((لدينا)) تعني عند الذات، حيث لا عند.. وهذه تمثل خط السير في المطلق.. والآية: ((إنا جعلناه قرآناً عربياً، لعلكم تعقلون))، تحكي طرف هذا الطريق الذي لامس أرض الناس، حيث قامت الشريعة لتنظيم حياة الأفراد، من رجـال، ونسـاء، تنظيماً يوفق توفيقاً دقيقا، ومتساوقا بين حاجة الفرد من رجل، وامرأة، إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة..

هـذا هـو المحـك:-


والمقدرة على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، هي القمة التي تظهر قصور الفلسفات الاجتماعيات المعاصرات.. مع أن هذه الفلسفات هي قمة ما وصل إليه الفكر البشري إلى اليوم.. ويهمنا من هذه الفلسفات الاجتماعيات المعاصرات الماركسية، والديمقراطية الغربية.. وما ذاك إلا لمكان نفوذهما، واستيلائهما على تنظيم المجتمع البشري المعاصر، في الشرق، وفي الغرب.. لقد تفرد الإسلام عن هاتين الفلسفتين بهذه المقدرة الدقيقة الفريدة – المقدرة على التوفيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة – ويرجع الفضل الأساسي في تفرد الإسلام بهذه المقدرة إلى أن شريعته تقع في مستويين: مستوى الفرد، ومستوى الجماعة.. فأما شريعته في مستوى الفرد فتعرف بشريعة العبادات، وتعنى، في المكان الأول، بإنشاء، وتنظيم العلاقة بين الفرد والـرب.. وتتجه إلى إيقاظ الضمير، وتركز فيه الإيمان بأن الله، يلاحظه، ويراقبه، ويعلم ما ينطوي عليه من خفايا الأسرار.. ((وأنذرهم يوم الآزفة، إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين.. ما للظالمين من حميم، ولا شفيع يطـاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور * والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ.. إن الله هو السميع البصير))..
وأما شريعته في مستوى الجماعة فتسمى شريعة المعاملات، وتعنى بإنشاء، وتنظيم، العلاقة بين الفـرد والفـرد.. والشريعتان متكاملتان، ومتداخلتان، ومؤثرتان، ومتأثرتان ببعضهما، على نحو ما تؤثر الجماعة في الفرد، وتتأثر به.. والتعليم المركوز، والثابت، في أصول الديـن، أن الله غني عن عبادة العباد.. فلم يبق إلا أن العباد هم المحتاجون إلى العبادة.. ومعنى هذا أن العبادة التي تتجه إلى إيقاظ الضمير، وبعثه، وتقويمه، إنما مرادها إكساب الفرد المقدرة على حسن التصرف في سلوكه في الجماعة، فإنه، حين يستعين بالعبادة على المقدرة على حسن التصرف في السلوك في الجماعة، ينجو من طائلة قوانين المعاملة، ويستمتع، بفضل هذه المقـدرة، بالحرية من الخوف من وصول عقوبة القوانين إليه، وبذلك يحرز كرامته كإنسان، ليس عليه من رقيب إلا ضميره المنفتح على الله، والمراقب له، فيما يأتي وما يدع..

نشـأة الضـمير:


ولم تكن نشأة الضمير البشري أمرا هينا، ولا ميسورا.. ولقد استغرق حقبة طويلة من الزمن، بدايتها تؤرخ ارتفاع الإنسان المعاصر عن مرتبة الحيوان.. ولقد تولى الإسلام بدء هذه النشأة، وظل يرعاها، وينميها، ويوجه مصيرها إلى يوم الناس هذا.. ولكن الناس لا يعلمون هذا لأنهم إنما يظنون أن الإسلام جاء به محمد، النبي الأمي، في القرن السابع، حين نزل القرآن باللغة العربية، في شعاب مكة.. فإن وجدت منهم عالما فقد يخبرك أن الإسلام قد جاء به الأنبياء، من لدن آدم.. والحق أبعد من ذلك.. فإن الإسلام، في عموم معناه، هو الإرادة الإلهية التي سيرت المملكة، في جميع مستوياتها، تسييرا قاهرا، ومهتديا.. يقول تعالى في ذلك ((أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات، والأرض، طوعا، وكرها، وإليه يرجعون؟؟)) هذا هو دين الإسلام العام.. وعنه لا يخرج خارج، ولا يشذ شاذ.. وفيه لا تقع المعصية.. فمن عصى فيه فقد أطاع، في معنى ما قد عصى.. وهذا الإسلام قد سير المادة الصماء تسييرا قاهرا، فأسلمت وجهها ((كرها)) إلى أن استخرج من المادة الصماء المادة الحية – من المادة غير العضوية إستخرج المادة العضوية، كما يعبر علماء الأحياء عندنا الآن.. ثم إن هذا الإسلام العام قد واصل توجيهه للمادة غير العضوية، وللمادة العضوية، على اختلاف في مستويات هذا التوجيـه، فدخل اعتبار اللذة، ودخل اعتبار الألم، في منطقة المادة العضوية - الحياة - فأصبحت الحياة تطيع توجيه اللذة ((طوعا)) وتطيع توجيه الألم ((كرها)).. وهذا وذاك معنى قوله تعالى، في هذه المرحلة من مراحل المملكة: ((وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها)).. ثم ان هذا الدين الإسلامي العام قد واصل توجيهه بعد بروز الحياة إلى أن برز العقل.. وببروز العقل برز الدين الإسلامي الخاص.. ويؤرخ بروزه بروز شريعة الحلال والحرام.. وهذه شريعة سابقة لعقيدة التوحيد، وهي شريعة لم يفترعها آدم أبو البشرية المعاصرة، وأول الرسل المذكورين عندنا في القرآن، وإنما جاءت بها رسل قبله، ممن لم يرد ذكرهم بصريح العبارة، وإن وردوا في مضمون الإشارة.. قال تعالى في ذلك: ((وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك؟؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون)) والإشارة هنا مضمنة في اعتراض الملائكة حين قالوا: ((أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء؟؟)) فإنما كان اعتراضهم هذا ثمرة ممارستهم لتجارب بشرية فاشلة انقرضت بسبب فشلها.. وكانت هي مقدمة للتجربة البشرية الناجحة، الحاضرة، والتي جاء طليعتها بدين الإسلام الخاص، في مرحلة التوحيد.. وإلى هذا إشارة المعصوم بقوله: ((خير ما جئت به، أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله)).. وإليه أيضا الإشارة بقوله تعالى: ((شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم، وموسى، وعيسى: أن أقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه.. الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب)).. فإن ((شرع لكم من الدين)) ههنا تعني التوحيد، ولا تعني التشريع - تعني ((لا إله إلا الله)).. وإنما من هذه الآية جاء قول المعصوم الذي سلفت إليه الإشارة، قبل قليل..