بسم الله الرحمن الرحيم
((وكذلك يجتبيك ربك، ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك))
صدق الله العظيم
مقدمة
هذا الكتيب الموجز عبارة عن شرح عرفاني للآية الكريمة:
((الله نور السموات والأرض.. مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة مباركة، زيتونة، لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضىء، ولو لم تمسسه نار.. نور على نور.. يهدى الله لنوره من يشاء.. ويضرب الله الأمثال للناس.. والله بكل شيء عليم
))
لقد سبق لنا أن نشرنا هذا الشرح ضمن كتابنا
((رسائل ومقالات
)) الجزء الثاني.. ونحن اليوم نعيد نشره منفردا في هذا الكتيب، لأننا قد وجدنا فيه نموذجا مثاليا أبرز بوضوح ثنائية معاني القرآن، وهذه الثنائية عندنا من الأهمية بمكان كبير، لأنها هي مفتاح فهم الفكرة الجمهورية، والفكرة الجمهورية هي الإسلام..
القرآن بين التفسير والتأويل
للقرآن تفسير، وله تأويل.. وتفسير القرآن هو ما يعطيه ظاهر النص العربى، وهو المعنى القريب الذي تنزل من علياء الرب لأرض العبد، من أجل تفهيمه، والى ذلك الاشارة بقوله تعالى:
((انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون
)).. أما التأويل فانه هو محاولة ابراز طبقات المعاني الصاعدة الى المعنى البعيد عند الرب، والى ذلك الاشارة بالقول الكريم
((وانه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم
)).. والتأويل يعنى تفسير ما يؤول اليه الشىء، أى ما يرجع اليه الشيء، ولما كانت الرجعى هي الى الله:
((وان الى ربك الرجعى
))، أصبح التأويل يعنى معرفة الله في تنزلاته المختلفة، وهذا هو عين ما قصدناه حين قلنا إن التأويل هو المعنى البعيد عند الرب.. ولما كان التأويل بهذه الرفعة، وبهذا السموق، فانه يستحيل أن يحيط به أحد احاطة شاملة.. وفى هذا ورد قوله تعالي:
((وما يعلم تأويله الا الله
)).. وما يهمنا تقريره الآن هو أن هذه الآية لا تعنى أن التأويل، من حيث هو، لا يعلمه أحد غير الله، وانما هي تعنى أن الاحاطة بالتأويل لا تكون الا لله وحده، وللعارفين حظوظ متفاوتة في معرفة التأويل على فحوى الآية
((وفوق كل ذي علم عليم
))، حتى ينتهي العلم الى علام الغيوب.
باختصار، التفسير هو قاعدة هرم المعاني، حيث آيات الآفاق.. والتأويل هو قمة هرم المعاني، حيث آيات النفوس..
((سنريهم آياتنا في الآفاق، وفى أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد
)).. فمن رأى المعنى القريب وغاب عنه المعنى البعيد، كما يفعل الفقهاء اليوم، فما عرف القرآن.. ومن رأى المعنى البعيد وذهل عن المعنى القريب فما عرف القرآن أيضا.. والرشد اذن، في إدراك المعنيين، ثم العبور من المعنى القريب الى المعنى البعيد، وهذا هو التأويل.. فالتأويل هو تفسير الظاهر، وتفسير طبقة، او طبقات، من معاني الباطن، وهذا هو ما يفعله الجمهوريون الآن..
التأويل ليس ترفا ذهنيا
ان الدين لا يمكن أن يعود لتنظيم الحياة في عصرنا الحاضر، الا إذا استطعنا ابرازه في قمة كبيرة تتضاءل أمامها كل انجازات العصر الحديث، في مجال العلم المادي، والا إذا استطعنا ابراز مزيته على جميع الأفكار، وجميع الفلسفات المعاصرة.. وغنى عن البيان أن هذا لا يمكن أن يتم لنا في مستوى تفسير القرآن في القاعدة، وانما يجب أن نخوض في المعاني الدقيقة التي تجاوزت الظاهر المحسوس.. وهذا يعنى التأويل..
بهذا الفهم فان التأويل ليس ترفا ذهنيا، وانما هو ضرورة لبعث الإسلام، اذ بمعرفته نعرف الحكمة من النصوص، ونستطيع أن نميز وهذا هو تطوير التشريع الإسلامي الذي عليه يتوقف تنظيم المجتمع الحديث على أساس الديمقراطية والاشتراكية..
وبالتأويل أيضا ينفتح الباب لمعرفة النفس البشرية التي تعاني الآن من الخوف والقلق فتتم لها، بهذه المعرفة، وحدتها وسلامها..
فى ختام هذه المقدمة نحب أن نؤكد أن التأويل ليس هواجس نفس كثيرة الخطرات، ولا هو بالمعاني الفطيرة، وانما هو واردات نفس تأدبت بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، فأورثها الله من لدنه علما، وفاء بالآية الكريمة
((واتقوا الله ويعلمكم الله
))
نرجو أن يجد القارئ الكريم المتعة والفائدة في متابعة هذه المعاني الكبيرة التي زخر بها هذا الكتيب الصغير..