إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الغـرابة فى الدعوة الإسلامية الجديدة

الإسلام رسالتان


ومن مظاهر الغرابة، في الدعوة الإسلامية الجديدة، ما يقول به الجمهوريون من ((أن الإسلام رسالتان)).. وهذه أيضا انبثاق من القول بأن القرآن أصول وفروع.. وقد قامت الرسالة الأولى على آيات الفروع، وكانت شريعة لعامة الناس، وعليها جرى العمل.. أما الرسالة الثانية فقد انبنت على آيات الأصول، ولم يقم عليها تشريع لعامة الناس، وإنما عمل بها النبي في خاصة نفسه.. ونبينا محمد هو رسول الرسالة الأولى، وهو، أيضا، رسول الرسالة الثانية.. ولقد بلّغ الرسالتين في معنى ما بلّغ القرآن وسار السيرة.. ولكنه فصّل الرسالة الأولى تفصيلا، وأجمل الرسالة الثانية إجمالا، وترك تفصيلها الى يوم يتأذن الله فيه بذلك.. وانقسام الإسلام الى رسالتين يلفت النظر الى مظهر آخر من مظاهر الغرابة يتمثّل في التمييز بين الشريعة والسنة الذي جاءت به الدعوة الإسلامية الجديدة..

السنة والشريعة


يقول الأستاذ محمود محمد طه في مقدمة الطبعة الثالثة من كتابه ((الرسالة الثانية من الإسلام)): ((إن مما ألف الناس أن سنة النبي هي قوله، وإقراره، وعمله.. والحق أن هذا خطأ، فان قول النبي، وإقراره، ليسا سنة، وإنما هما شريعة.. وأما عمله في خاصة نفسه فهو سنة.. نعم هناك من قوله قول يلحق بالسنة، وذلك هو القول الذي ينم عن حال قلبه من المعرفة بالله.. أما أقواله التي أراد بها إلى تعليم الأمة في أمر دينها فهي شريعة، والفرق بين الشريعة، والسنة، هو الفرق بين الرسالة، والنبوة، أو هو الفرق بين مستوى الأمة، من أعلاها إلى أدناها، ومستوى النبي.. وذلك فرق شاسع وبعيد..
السنة هي عمل النبي في خاصة نفسه، والشريعة هي تنزل النبي، من مستوى عمله في خاصة نفسه إلى مستوى أمته، ليعلمهم فيما يطيقون، وليكلفهم فيما يستطيعون.. فالسنة هي نبوته، والشريعة هي رسالته.. وإنما في مضمار رسالته هذه قال: (( نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم))..

العقيدة والعلم


ومن أكبر مظاهر الغرابة في الدعوة الإسلامية الجديدة علميتها التي تشكل نواة الإعجاز الذي سيصحب ظهور الإسلام على الأديان كلها، وذلك حين يتم، بفضل الله، تحقيق موعود الله: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله.. وكفى بالله شهيدا)).. فالدعوة الإسلامية الجديدة تتجه اتجاها علميا واضحا، لم يسبق له مثيل من تاريخ البشرية الطويل العريض.. وقد زحف هذا الاتجاه بالفكر على كل العادات المهترئة، البالية ليزيحها عن طريق التقدم والتطوّر.. واتجاه الدعوة الإسلامية الجديدة العلمي هو اتجاه جديد في تاريخ الأديان، وهو اتجاه غريب.. فلقد برزت الأديان دائما بوجهها العقيدي.. ولقد كان الدين، من لدن آدم والى محمد، دعوة الى العقيدة.. ولقد دعيت جميع الأمم.. وعبر هذا التاريخ الطويل – الى العقيدة، ولما تدع الى العلم.. وتجيء الدعوة الإسلامية الجديدة، اليوم، لتمثّل المرحلة العلمية من الإسلام، بعد أن مثّلت الرسالة الأولى مرحلة العقيدة في الإسلام..
وجلية الأمر في المسألة هي أن الإسلام، كما هو وارد في القرآن، قد جاء على مرحلتين: مرحلة العقيدة، ومرحلة العلم.. وكل مرحلة من هاتين المرحلتين تقع على ثلاث درجات.. فأما مرحلة العقيدة فدرجاتها الثلاث هي: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وأما مرحلة العلم فدرجاتها الثلاث هي: علم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين.. ثم تجيء، بعد ذلك، الدرجة السابعة من درجات سلّم الترقي السباعي، وتلك هي درجة الإسلام، وبها تتم الدائرة.. وتجيء النهاية تشبه البداية، ولا تشبهها.. فهي في البداية الإسلام، وهي في النهاية الإسلام.. وفرق كبير بين الإسلام الذي هو في البداية، وبين الإسلام الذي هو في النهاية.. فالإسلام في البداية هو انقياد الظاهر فقط، وهو في النهاية انقياد الظاهر والباطن.. (راجع في هذا الباب كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام")..
والدعوة الإسلامية الجديدة هي دعوة لتحقيق المرحلة العلمية من الإسلام وذلك بالانطلاق الواعي من مرحلة العقيدة الى مرحلة العلم وذلك بالاستعانة بالجماعة المنّظمة تنظيما يقوم على آيات الأصول، وبالمنهاج الفردي الذي يتمثّل في العبادات كما كان يؤديها النبي الكريم..