إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

خَمْرُ المَعَانِي

وقصيدتنا الثالثة والأخيرة في هذا الكتيب، هي للعارف بالله، الشيخ عبد الغني النابلسي.. وهي قصيدة كما هو شأن العارفين بالله فيما يصدر عنهم، عرفانية سلوكية تفيض بالروحانية وتزخر بالمحبة.. وإليكم نصها: -

لمعت أنوار سلمى



كل شيء عقد جوهر حلية الحسن المهيب
دع جمال الوجه يظهر لا تغطي يا حبيب
طول ليلي فيك أسهر زاد شوقي والنحيب

كان قلبي عنه غافل وهو لا يغفل عني
فانثنى يختال رافل بثياب النفس منّي
فأنا للحق مظهر بين أهلي كالغريب

يا مسمى بالأسامي كلها وهو المنزّه
أنت في الكل مرامي فيك عيني تتنزّه
ساطع الطلعة أزهر في شروق ومغيب

هب لراعي الدير يفتح نوره الشعشاع باهي
واسمع النغمات ترتح واغتنم صوت الملاهي
وقتنا نقرات مزهر وغناء العندليب

يا سقاة الراح قوموا طلع الفجر علينا
عن سوى الخمرة صوموا أين من يفهم أين
كأسها أبهى وأبهر عندنا من نفح طيب

خمرنا خمر المعاني عتّقت من قبل آدم
ولها نحن القنان من زمان قد تقادم
من يذق بالسر يجهر بين ناء وقريب

لمعت أنوار سلمى لك من خلف الستائر
لا يكن طرفك أعمى عن تناويع الأشاير
إن أمر الحق أظهر عند غير المستريب

صلِّ يا رب وسلم لي على المختار طه
من له كنت تكلم ليلة الإسراء شفاها
فضله لا زال يشهر بين غر ولبيب

وعلى آل النبي وعلى كل الصحابة
ما أتى عبد الغني بالمعاني المستطابة
ولذات الخدر أمهر ما حواه من نصيب

كل شيء عقد جوهر حلية الحسن المهيب
دع جمال الوجه يظهر لا تغطي يا حبيب
طول ليلي فيك أسهر زاد شوقي والنحيب

كل شيء في الوجود جميل بجمال الله.. فالعارف انكشف له وجه الله في كل شيء، وطالعه معنى الآية ((وان من شيء الاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)) والعارف هنا يتوسل ان لا يحجب الله عنه رؤية وجهه في كل شيء، فانه قد سهر ليله مشتاقا باكيا..

كان قلبي عنه غافل وهو لا يغفل عني
فانثنى يختال رافل بثياب النفس منّي
فأنا للحق مظهر بين أهلي كالغريب

ان الله معنا ((لا تأخذه سنة ولا نوم))، وهو متولي أمرنا كله، في حركاتنا او سكناتنا.. ولكنا نحن عنه غافلون.. والعارف حمد الله وشكره ان أيقظ الله قلبه ونبهه من الغفلة حتى ظهر نور حبيبه "الله" على نفسه "فانثنى يختال رافل" تتلون النفس وتتموّج بهذا الجمال، والنور الإلهي، حتى أصبح العارف مظهرا للحق، تلوح على وجهه الأنوار، وتجري على يده عظائم الأعمال.. فهو بين أهله غريب لا يشبههم.. مستيقظ بالليل، حاضر مع الله، وهم نائمون، غافلون عن الله..

يا مسمى بالأسامي كلها وهو المنزّه
أنت في الكل مرامي فيك عيني تتنزّه
ساطع الطلعة أزهر في شروق ومغيب

ينادي ذات الله فإن كل الأشياء، وكل الأسماء تدل عليها، وتذكّر بها.. فهي أفعالها.. وذات الله منزّهة عن النقص الذي يتصف به الخلق من الناس والأشياء... في كل شيء يطلب الله، وعينه تستمتع برؤية وجهه: ((فأينما تولوا فثمّ وجه الله)).. طلعة وجه الله تلاقيه في كل شيء.. في شروق الشمس، وفي مغيبها.. ((قل أنظروا ماذا في السموات والأرض)) فالعارف يتفكّر.. والعبادة مع التفكر هي نهج العارفين.. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)).. فالفكر هو سنّة النبي الكريم ((كان صمته فكرا ونطقه ذكرا))

هب لراعى الدير يفتح نوره الشعشاع باهي
واسمع النغمات ترتح واغتنم صوت الملاهي
وقتنا نقرات مزهر وغناء العندليب

"الدير" هو "المعبد" وقد استعاره العارف هنا ليرمز به الى القلب.. وراعي القلب هو العقل، فهو حارسه وخادمه.. فبإرادة العقل يلجم الإنسان نفسه عن الحرام، وعن الاسترسال في الشهوات، ويحملها على العبادة، والسلوك الحسن.. وهذه هي وسيلة إزالة الظلام من على القلب، حتى ينفتح بعد انغلاقه، ويظهر منه النور الإلهي.. وتصبح خواطر القلب خيّرة جميلة كالنفحات يرتاح لها السامع "واغتنم صوت الملاهي" دواعي قلبك التي تدعوك لتقبل على الله بكليتك، وتلهيك عمّا سواه.. "المزهر" هو آلة موسيقية والعندليب هو طائر "مغرّد" فالعارف الذي صدقت نفسه وأشرقت بالله صار كل وقته تأمل في الوجود والعلم والحكمة..

خمرنا خمر المعاني عتقت من قبل آدم
ولها نحن القنان من زمان قد تقادم
من يذق بالسر يجهر بين ناء وقريب

"الخمر" هنا ((لا إله الاّ الله)).. "عتقت" صنعت وخمرت من قبل خلق آدم.. فلا إله الا الله هي وسيلتنا الى الله، وهي خير ما جاءنا به الأنبياء.. وقد شهدنا بها من قديم.. فقد قال الله تعالى عنها: ((واذ اخذ ربك من بنى آدم، من ظهورهم، ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا: بلى!! شهدنا)) فهي قديمة، قدم أرواحنا، كامنة في سويداء قلوبنا، غطى عليها الرين الذي كسبناه من خطايانا، ((كلا!! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا!! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)).. وعمل العبادة أن تزيل الصدأ الذي ران على القلوب حتى تنبثق ((لا إله الا الله)) حارة خلاقة في قلب كل رجل، وكل امرأة، فيصير كل واحد داعية الى الله، ومذكّرا به، بلسان حاله، وبلسان مقاله، فإن كل إناء بما فيه ينضح:

من يذق بالسر يجهر بين ناء وقريب

من يذق ((لا إله الا الله)) بقلبه، تنعكس على أخلاقه فيلمسها القريب والبعيد..

يا سقاة الراح قوموا طلع الفجر علينا
عن سوى الخمر صوموا أين من يفهم أينَ
كأسها أبهى وأبهر عندنا من نفح طيب

"يا سقاة الراح" يا خدام ((لا إله الا الله)) الذين يسهرون، يصلون صلاة الليل.. يسقون قلوبهم ((بلا إله الا الله)) قوموا، انتبهوا، وأبشروا، فقد لاح وقت الفتح الذي تشرق فيه عليكم روح الله، الكامنة فيكم..
"عن سوى الخمر صوموا": لا يشغلكم عن ((لا إله الا الله)) شيء.. ((كأسها)): العقل المنور، العامل بالنهج النبوي، في العبادة، والمسلم لله فيما أراد، هذا العقل هو أعظم وأطيب من الطيب.

لمعت أنوار سلمى لك من خلف الستائر
لا يكن طرفك أعمى عن تناويع الأشاير
أن أمر الحق أظهر عند غير المستريب

ان العارف الذي اشرقت نفسه بروح الله، وزال الحجاب من بين قلبه وبين الله.. صار وجه الله يطالعه من وراء الأشياء "الستائر".. وهذا الوجه يتلون باختلاف الأشياء، وتعدد الأفعال، الخير والشر، ولكن طرف العارف لا ينحجب عن الله - عن سلمى.. ((سلمى)) يرمز بها الى الذات الالهية.. فأنوار سلمى أنوار الله، تلوح لعين العارف من كل شيء..

أن أمر الحق أظهر عند غير المستريب

فوجه الله الحق ظاهر، عند من زال الرين عن قلبه، وعلم علوم اليقين..

صلِّ يا رب وسلّم لي على المختار طه
من له كنت تكلّم ليلة الأسراء شفاها
فضله لا زال يشهر بين غر ولبيب
وعلى آل النبي وعلى كل الصحابة

الصلاة على النبي هي صلاة باللسان، كلما ذكر أسمه، صلى الله عليه وسلم، وهي ايضا محبته، وتقليده، ومعرفة قدره.. فإن فضله ظاهر، بين العالم والجاهل، ومحبته، صلى الله عليه وسلم، تستوجب محبة آل بيته، وأصحابه، فانه لا خير، يكسبه العابد، إذا لم تتعطر أنفاسه بمحبة النبي الكريم، وآله وأصحابه الكرام.. ((من له كنت تكلم ليلة الاسراء شفاها)).. شفاها يعني كفاحا، بغير واسطة الملك.. وهذا هو الشهود الذاتي الذي فرضت فيه الصلاة.. صلاة الصلة.. وجاء الملك جبريل في الأرض بهيئة الصلاة الشرعية لتكون معراجا الى صلاة الصلة، كما كانت معراجا للنبي الكريم.. فالصلاة هي أعظم عمل العبد، وهي على النهج النبوي ترتفع بالمصلى في كل حركة من حركاتها درجة نحو الشهود الذاتي..