بسم الله الرحمن الرحيم..
حديث الليلة عن تصفية المحاكم الشرعية.. وكما قال السيد رئيس الجلسة سنحاول الإجابة على بعض الأسئلة.. هناك سؤال بنفترضه نحن دائما في بداية حديثنا عن تصفية المحاكم، بنواجهه بالإجابة، ونعتقد أن السؤال قد يكون قائم في أذهان بعض الناس، ويحق له أن يكون قائم في أذهانهم.. هذا السؤال هو: لماذا هذه المواجهة من الحزب الجمهوري للقضاء الشرعي.. لماذا لم تكن هذه المواجهة قبل الآن؟ هل لقضية الردة دخل في هذه المواجهة؟
ونحن حرصاً منا على أن لا يستقر في ذهن أي واحد من المستمعين أننا نصدر في هذه المواجهة عن ضغينة أو غضب لمّاً صدر من القضاء الشرعي في مسألة الردة، نحب أن نجيب على التساؤل ده قبل أن يثار.
مسألة القضاء الشرعي، أو قول مسألة وجود قضاء شرعي وقضاء مدني، يرجع إلى وجود تعليم ديني وتعليم مدني.. يرجع إلى وجود تشريع ديني وتشريع مدني.. نحن عندنا الثنائية في المستويات دي كلها.. عندنا الثنائية في مستوى التعليم، عندنا في مستوى التشريع، عندنا في مستوى القضاء.. بل الحقيقة هي في القضاء نتيجة للثنائية في التعليم وفي التشريع.. وما من شك أنه الشعب بينقسم، ما بيستطيع أن يجد فرصة حقيقية للوحدة - الوحدة القومية - وحدة الشعور، وحدة القيمة، وحدة الشخصية، عندما تكون في ثنائية في المستويات دي.. أصله الإدارة والقضاء والتعليم والتشريع كلها وسائل لتربية شخصية الشعب.. زي وسيلة لدمجه لتوحيده لإبراز قومية موحدة فيه.. فإذا كان نحن بنقوم على تعليم ثنائي وتشريع ثنائي وقضاء ثنائي من المؤكد أن دي من مظاهر التخلف التي يجب أن ننتصر عليها.. وما من شك أن هي من بقايا الاستعمار في بلدنا.. الاستعمار عندما جاء في بلدنا بعد حكومة المهدية، بعد ما هزم حكومة المهدية، أقام النظامين.. تعليم مدني وتعليم ديني، وجد طبعا الشريعة الإسلامية قدّامه، وجاء بقضاء شرعي وقضاء مدني.. نحن، فيما يخص التعليم وتوحيده، منذ أن نشأ الحزب الجمهوري كنا بنتكلم عنه.. عندنا "السفر الأول" أنشئ وطبع سنة ٤٥ - في أكتوبر سنة ٤٥ - نفد من الطبع في الوقت الحاضر، لكن فيه الكلام عن العودة إلى الدين.. العودة إلى الدين وراء صور الدين اللي بيمثلوها من يسمون رجال الدين هسع.. حتى في السفر ذاك يقال أن لابد من الرجوع إلى المعين الصافي من الدين الذي شرب منه عمر وأصحاب عمر.. ترد العبارة بالصورة دي.. ثم في سنة ٥٢ صدر لنا كتاب اسمه "قل هذه سبيلي".. برضه نفد من الطبع، فيه توكيد على التعليم.. أنه كل إنسان محتاج إلى التعليم المهني الذي به يستطيع أن يحسن عمل ثم يكون عارف بدينه.. ما في حاجة اسمها رجال دين يتخصصوا ليعيشوا بالدين.. كل إنسان يعرف من الدين ما يحرّر به مواهبه - عقله وقلبه - ويعرف من المهنة ما يحرز به إنجاز عمل بإتقان لخدمة المجتمع.. ثم فيما يخص القضاء صدر سنة ٥٥، قل هذه سبيلي صدر سنة ٥٢، فيما يخص القضاء صدر سنة ٥٥ ما سمي ب"أسس دستور السودان".. دي الطبعة الثانية منه.. الطبعة الثانية من أسس دستور السودان صدرت في نوفمبر سنة ٦٨.. قبل شهرين يعني.. وهو أول مرة صدر سنة ٥٥.. أسس دستور السودان فيه دراسة للدستور الإسلامي.. وفيه في الفصل الثامن، في صفحة ٤٨ يرد الهيئة القضائية.. يقال فيها القضاء هو السلطة الثالثة في الحكومة المركزية وهو قضاء موحد فلا قضاة شرعيين وقضاة مدنيين وإنما هم قضاة محاكم صغرى ومحاكم كبرى أو قضاة المحكمة العليا.. ثم يذهب ليتكلم عن الهيئة القضائية فيما يخص استقلالها وتنظيمها.. ده فيما يخص رأينا في وحدة القضاء.
ولأننا دعاة إسلاميين من غير شك، ما يمكن أن يقوم في ذهن إنسان، أننا بنعني بوحدة القضاء أن يشطب القضاء الشرعي، ليُحال الأمر على القضاء المدني.. ده مش الاتجاه.. الاتجاه أنه إذا كان انبعث الدين الإسلامي صحيحا واعيا، بيستوعب جميع نشاطات المجتمع.. بيشرع لنشاطات المجتمع كلها.. من هنا بيكون التشريع موحّد والتعليم موحّد والقضاء موحد.
الاتجاه ده إذاً كان هو واضح عندنا من بدري، في حيزه ما في غرابة في مواجهتنا الحاضرة.
السؤال راح يظل قائم برضه: ليه المواجهة العنيفة دي؟ في مناشيرنا، وفي تخصيص أسبوع لتصفية المحاكم الشرعية.. نحن ماشيين للإجابة عليه برضه لنقرا لكم بيان صدر من الحزب الجمهوري سنة ٦٥، في حادث طالب معهد المعلمين العالي، لعلكم تذكرونه جيدا، فإن ما سميت نفسها يومئذ بالسلطة الشرعية العليا أصدرت بيان في تكفير الطالب.. وطبعا حادث الطالب استغل لتعديل الدستور، ليُشرّع تشريع في الجمعية التأسيسية الماضية ليحرم نشاط الحزب الشيوعي.. تعديل الدستور انصب على أصل الدستور، وهو المادة ٥/٢.. المادة ٥/٢ اللي بتعتبر هي روح الدستور لأنها بتدي الحق الأساسي للمواطن عُدّلت.. وقام التشريع ليحرم نشاط الحزب الشيوعي.. يومئذ أفتت الهيئة الشرعية العليا فتوى.. نحن تعرضنا لها في بيان نُشر بالسودان الجديد والميدان وصدر في الرونيو.. زي مناشيرنا الحاضرة يوم ١٥ / ١١ [نوفمبر] سنة ٦٥.. الصحف نشرت بالبنط الكبير الكلمات دي: "محمود محمد طه يصف بيان الهيئة الشرعية بالرداءة والجهل بالدين والتحريض على الفتنة وقتل الأبرياء".. وبحروف أصغر شوية "محمود محمد طه يصف بيان الهيئة القضائية بالرداءة والجهل والتحريض على الفتنة وقتل الأبرياء والسير خلف السلطة دائما".. بعدين تورد نص البيان وهو يقول:
"إن الهيئة القضائية الشرعية العليا (وده كانت سميت نفسها بالصورة دي) إن الهيئة القضائية الشرعية العليا كما يطيب لها أن تسمي نفسها، ومن جاراها في إصدار هذا البيان الرديء، لا يعرفون عن السياسة شيئا، ولا يعرفون عن الدين ما يكفي.. ونحن لا نناقشهم في السياسة وإنما نناقشهم فيما يدعون معرفته.. يقول هذا البيان الرديء:"، ده كلامهم هم - ده نص البيان بتاعهم" (إن المرتد يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل ما لم تكن ردته إساءة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن التوبة لا تقبل فيها)".. انتهى بيان العنصر المهم من بياننا، ويمضي بياننا يقول: "ومعنى هذا هو قفل باب التوبة وهو أوسع الأبواب لأنه باب الرحمة التي وسعت كل شيء.. يقول الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).. فهذا باب واسع وأوسع منه قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله، إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما).. وأوسع أبواب التوبة على الإطلاق لأنه يستمد من الإطلاق قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم).." ويمضي البيان يقول: "إن رجلا يقفل باب التوبة باسم الدين، لا يحق له أن يتحدث عن الدين.. وإن جهل رجال الدين بالدين هو الذي جعل شبان هذا الجيل شيويعيين.. فإن أردتم أن تعرفوا من المسئول عن نشر الإلحاد والانحراف عن الدين في هذا البلد، فإنما هم رجال الدين والطائفية".. ويمضي البيان يقول: "أيها القضاة الشرعيون إنكم ببيانكم الرديء، الممعن في الرداءة والجهل، تحرضون على الفتنة وقتل الأبرياء، ولقد عهدناكم دائما تسيرون خلف السلطة مما أفقد الشبان احترامكم، وساقهم ذلك خطأ وجهلا إلى عدم احترام الدين".. ده البيان اللي صدر في سنة ٦٥.
ونحن نحب أن تلاحظوا فيه نفس الروح، ونفس اللهجة، اللي صدرت بها مناشيرنا اللي بلغت لغاية الآن ١٣ منشور، قبل مسألة أسبوع تصفية المحاكم الشرعية.. وبهمنا الأمر ده لئلا يقوم في بال واحد من الإخوان، من الأبناء اللي بيسمعوا، أنه دوافعنا هي دوافع الضغينة والحقد.. ونمشي أكثر من ده، بعد الإجابة على السؤال اللي افترضناه بيكون قائم، نمشي أكثر من ده ونقول أنه أصله ما في صدورنا ما يوجب الضغينة والحقد إطلاقا، بل الحقيقة نحن شاكرون كل الشكر على أن صدر هذا الحكم.. لأنه أعطانا فرصة لحادثة عملية يمكن أن نرفعها أمام أنظار شعبنا.. كنموذج للحكم الذي يمكن أن ينتظروه إذا ما مرّ ما يسمى بالدستور الإسلامي، في الوقت الحاضر.. يمكن أن تشعروا بخطورة الأمر إذا كان استطاع السيد إسماعيل الأزهري كما زعم، أن ينفذ ما قاله في خطبته في العيد، أن تكون السلطة العليا في هذا البلد للقضاء الشرعي.
المسألة دي نحن باستمرار كنا بنحاضر فيها.. أنه في خطر حقيقي ماثل.. والشعب معرض له.. لكننا كأنما كنا بنتكلم في ناحية نظرية.. في الوقت الحاضر في نموذج.. في نموذج يمكن أن نقول للشعب أهو ده.. ده الوضع اللي أنت مهدّد به.. ولذلك ما حاولنا نحن أن نصحح الحكم ده.. الحكم ما هو حكم شرعي ولا له غرض في الشريعة.. الحكم هو دافع سياسي، أُُستغلوا فيه القضاة الشرعيين كما هي العادة دائما.. وكان مكشوف بصورة واضحة، في معنى أن إجراءاته كانت ناقصة بصورة مضحكة.. يعني الحكم صدر غيابي.. والحكم كانت الخطب فيه من المدعيين، خطب واضحة التزييف لأقوالنا، يتركوا طرف من أقوالنا في الأول وطرف في الآخر ويجوا بقول مشوّه وينسبوا لينا الاتهامات بتاعتهم.. المحكمة ما استطاعت أن تصبر على المسألة دي، لتشوف لأي حد المدعيين نفسهم هزئوا بها، وسخروا منّها، وأهانوها.. رفعت جلستها ثلث ساعة، ما تكفي لكتابة الحيثيات، وجاءت لتحكم بالردة.
بعض الإخوان من المحامين قالوا أنه الإجراءات دي ناقصة بصورة لو أديتونا نحن تفويض راح ننقض الحكم.. نحن ما كان غرضنا نقض الحكم، بقدر زي ما قلنا غرضنا أن الحكم يظل يكون نموذج ماثل أمام الناس.. في برضه اتجاه آخر إلى أنه الحكم ما دستوري.. الدستور المؤقت القائم الآن يجعل حكم المحكمة الشرعية ما هو دستوري.. نحن برضه ما اتخذنا للجهة دي لئلا يتغير الحكم زي ما قلنا ليظل قائم.