لقد أثبتت هذه الأحداث أن الشعب السوداني شعب أصيل، شجاع، كريم .. يجود بالنفس في سبيل العزة، والشرف ولا ينقصه غير القائد الذي يفجر كوامن أصالته، ويحرك حسه الوطني .. فاذا وجد قائدا، في مستواه، فان المعجزات تجري على يديه، والبطولات تسعى اليه خاطبة وده.. حقا كما قال الأستاذ محمود في تحقيق معه في جريدة الأخبار، فيما بعد، ((الشعب السوداني شعب عملاق يتصدره أقزام))

معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية - الكتاب الاول

menu search
لقاء الأستاذ محمود محمد طه
بالصحفي حسن ساتي

مدينة المهدية - ١٤ سبتمبر ١٩٧٦

الجزء الثاني

حسن ساتي: عاوزك تواصل شوية عن نقطة الخلاف بينك وبين المفكرين الإسلاميين وليس بينك وبين الماركسية.. السؤال الفرعي الجديد في نفس المسألة هو: تجاه رأيك الجديد، هل نحن بحوجة إلى أن يفسر الدين؟ الآراء نفسها الجديدة اللي أنت بتقول، هل نحن في حاجة إلى أن يفسر الدين تفسيرًا جديدًا يظهره بهذه الصورة نقول فيها صورة الإصلاح أو الصورة إلى استيعاب حتى المذاهب العقلية؟

الأستاذ محمود: آيي.. نحن في الحقيقة في أشد الحاجة لأن نفسر الدين ونفهمه في المستوى ده.. في الحقيقة كأنها حاجة حياة وموت، لأننا نحن مواجهين إمّا بحرب عالمية إذا انحدرنا، حرب ذرية ونووية، بها إن ما انتهت الحياة تنتهي الحضارة، أو نصعد إلى السلام.. نحن مواجهين بتحدي فعلًا من الكوكب اللي توحد جغرافيًا بالصورة التي خلت البشرية كلها كأنهم جيران.. الناس يمكن تقول: من الناحية الحسية - من الناحية الجسدية - بقوا جيران، بقوا قريبين، بقوا موحدين، لكن الناحية الفلسفية والناحية الحضارية - الناحية المدنية - في المجتمع البشري لغاية الآن متخلفة عن أن توجد المواءمة بين حياتنا وبين بيئتنا.. فأصبح أمامنا إمّا أن نصطرع في حرب قد تدعى إلى حرب عالمية مندلعة بالأسلحة الحديثة، أو إلى سلام.
فنحن، لنصل إلى السلام، لابد لنا من أن نفهم ديننا على اعتبار أنه دين السلام.. الإسلام معناها السلام، وأنه شعاره السلام، وأنه السلام يبتدي بأن تسالم أنت من البداية.. المسيح قال: من أخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ.. فناسنا القائمين على الشريعة وحسب، ما بيفتكروا أنه في غيرها، عندهم الجهاد أصل من أصول الدين.. نحن عندنا أن الجهاد مرحلة، في الوقت اللي كانت البشرية فيه غليظة وبليدة ومتخلفة، لابد أن الناس كانوا بيُحملوا بالإكراه على مصلحتهم.. في مجتمعنا الحاضر الكوكبي، في القرن العشرين، البشرية أصبحت هي من الوعي بحيث يمكن أن تُساق لمصلحتها بالإقناع.. ولذلك الإسلام ادّخر لها الآيات اللي سميت آيات الإسماح: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، أو ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾.. فستلقى أن أساليب نشر الدعوة في أصل الدين هي أساليب سلام من الأول.
لكن أساليب السلام في القرن السابع سُحبت من التداول، أُجِّلت، نُسخت، واستُعيض عنها بآيات هي في حكم الوقت أصلح من الآيات الكبيرة دي.. فطُبّق الجهاد وطُبّق الإكراه يمكن أن تقول… ويجي حديث النبي: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني أموالهم ودماءهم إلا بحقها وأمرهم إلى الله".. وشُرّع الجهاد من الوقت ده على نسخ من آيات الإسماح.
فنحن بنرى أن وقت الجهاد فات، لأن العقول استنارت والبشرية بقت رقيقة ولطيفة وذكية، ويمكن أن تُساق إلى المصلحة بالإقناع، فأصبح جاء وقت آيات الإسماح.. نحن في حاجة شديدة جدًا إلى أن نفهم الدين في هذا المستوى، وأن نبشر به في هذا المستوى، وأن نعيشه في هذا المستوى.. وما في أي فرصة للبشرية لتصل للسلام، أو للدين ليعود، إلا إذا أعيد فيه النظر وفُهِم فهم جديد، هو ما نركز عليه نحن في دعوتنا الحاضرة فيما سمي باختصار وفي كتاباتنا بـ"الرسالة الثانية من الإسلام"، الجانب الثاني من الإسلام، المفهوم الثاني من الإسلام، اللي ما وجد فرصة لأن يُطبّق، حسب حكم الوقت من القرن السابع وإلى يومنا ده.. ومن اليوم ده إلى المستقبل، اليوم يومه، وما في أي بديل عنه.
يمكنك أن تقول، ده برضو رجوع للسؤال الأولاني وتركيز له، أن الخلاف بيننا وبين الناس البيعارضونا في الجانب الإسلامي، أو حتى الجانب العقلاني، هو مسألة إعادة نظر في التراث ده كله، وفهم له جديد يتمشى مع حاجة الوقت ومع أصول الدين، اللي ظلت البشرية في رسالاتها المختلفة، سواء كانوا قائمين بها أنبياء أو قائمين بها رسل أو قائمين بها أولياء أو قائمين بها مصلحين.. الرسالات دي كلها بترمي إلى يوم واحد، هو اليوم البيحل فيه السلام في الأرض، ويحل فيه العدل في الأرض.. أها دا بيقتضي أننا نحن نفهم الإسلام فهم جديد، يقوم على الآيات اللي كانت منسوخة في القرن السابع، ويمكنك أن تقول: وينسخ الآيات اللي كانت محكمة في القرن السابع.. الآيات اللي كانت منسوخة نُسخت لأنها أكبر من القرن السابع.. الآيات اللي أحكمت أحكمت لأنها قدر حاجة المجتمع المتخلّف في القرن السابع.. اليوم الآيات اللي كانت بتناسب القرن السابع تصبح منسوخة عندنا، وتُبعث الآيات اللي كانت منسوخة في وقتهم، لأن وقتها ما جاء يومئذ، وإنما جاء اليوم.

حسن ساتي: التخلف، أو الكلمة ذاتها قاسية شوية زي ما وردت، لكن بين التخلف واللطف اللي وصلت لهم البشرية في ماضي وحاضر، الوصول إليهم، في رأيك من زاوية فلسفية، هل هو مجرد الثروة الحضارية اللي نقلت الناس من التخلف إلى اللطف؟ أم هي نظرة أخرى يمكن أن نقول عنها تطورية أو ارتقائية أو أي شيء آخر؟

الأستاذ محمود: هي طبعًا تطورية، تطورية جات بها الحضارة الآلية والحضارة العلمانية.. وتطور الإنسان، كأنما الإنسان في مسيرته كلها خارج من الغابة إلى المدينة.. ونحن كل ما طرأ على حياتنا، في حقيقتها، هي النظر إلى الضعيف ده بأنه صاحب حق.. الصراع الطبقي اللي جاء قبيلك ذكره، إنما هو صراع أوجد حق لمن لم يكن له حق في المجتمع.. نحن مثلًا في مجتمعنا جاء حق يؤخذ من الغني يرد على الفقير، هو ما كل الحق، لكن جعل الغني صاحب حق والفقير صاحب صدقة بتلقاها، مفروضة على الغني أن تخرج من ماله، كأنّه بيسمّوه حق الله في المال ليعطى للفقير، لكن برضو دي ما مساواة.. مجتمعنا بالصورة دي عايش مجتمعات الإقطاعيين، يملكوا فيها الأرض وسكّان الأرض من عمال.. كأنه الفلاحين رقيق لصاحب الإقطاع.. وطبعًا كان في الرقيق بصوره الغليظة الموجودة، أنه الإنسان يملك إنسان.. نحن باستمرار، بوسائلنا في الصراع الطبقي اللي أنت ذكرته، العامل أصبح عنده حق مع صاحب العمل، لغاية ما وصلنا إلى صور من أن العمال شركاء في العمل، في التنظيم الاقتصادي، بصرف النظر عن الدين، بنتائج الصراع ده.. بعدين الصراعات دي حررت الرقيق، حررت رقيق الأرض، وحررت المسترقين في رقابهم من الرق الشرعي المعروف في البلاد كلها.
فنحن الآن بالتطورات دي وصلنا إلى المدينة أكثر من المجتمعات المتخلفة، وخرجنا من الغابة بصورة كبيرة.. وأصبحنا، الحق عندنا مش للقوي، الضعيف عنده حق، ونحن نتكتل لنناصر الضعيف ليأخذ حقه.. أها دي يمكن التطورات اللي خلت المجتمع بتاعنا ألطف من المجتمعات الماضية، اللي كان فيها الحق للقوي، يأخذه بمجرد أنه قوي، ما محتاج لقاضي ليديه إياه، والشعار فيه "من غلب سلب".. كان مجتمعنا الجاهلي قائم على أساس زي ده، من غلب سلب.. ونحن هسع أصبحنا نتعاطف، نعطف على الضعيف، ويكون عندنا شعور بإنسانية ولطف، ونتصور حالة البؤس، وحالة الضنك، وحالة الجوع، وحالة الكرب.. الناس اللي بتحصل لهم نكبة في مشارق الأرض ومغاربها نتجاوب معاها نحن.. تكون في حروب في فيتنام، تكون في حروب في كوريا، تكون في حروب في لبنان، كلنا نعطف ونشعر بالأيتام اللي يفقدوا آباءهم والنساء اللي يفقدن أزواجهن والكرب.. فاصبحنا في لطافة إنسانية جات من التطور في مضمار الحياة والصراع نفسه، بصرف النظر عن الدين.. لما يجي الدين مش راح يكثّف الناس لوراء، راح ينمّي لطافتهم دي، وينمي إنسانيتهم ويخاطبهم بسلام، مش بيخاطبهم بعنف.. والبشرية ولغت في الدماء بالقدر الكافي، وسارت بالعنف مراحل كثيرة جدًا، وآن لها أن تمشي بالسلام لتدخل عهد السلام.

حسن ساتي: أعود لك للسياسة مرة ثانية.. المواقع السياسية اصطلح على تسميتها بيمين ووسط ويسار.. أين يمكن أن نضع الإسلام بمفهومك بينها؟

الأستاذ محمود: هو يمين، زي المعتبر أنه أدخل في التنظيم الرأسمالي، وفي الأفكار السلفية.. ويسار، أدخل في التنظيم الشيوعي والأفكار الثورية.. وسط، لعله نشأ من الاعتدال، اللي هو تطوير بسيط للرأسمالية وما سير لآخر الشوط في جانب الشيوعية، يمكن أن يعتبر اشتراكي.. أنا بفتكر أنه الأفكار دي كلها في حاجة لإعادة النظر فيها.. نحن على أي حال واضح طبعًا أنه الدعوة الإسلامية هي دعوة وسط بين النقيضين دائمًا.. ممكن أن تكون هي وسط بين اليسار وبين اليمين.. الدعوة الإسلامية وسط بين اليسار واليمين.. الدعوة الإسلامية وسط بين اليهود والنصارى.. الدعوة الإسلامية وسط بين كل نقيضين.. ولذلك يجي: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.. كذلك جعلناكم أمة وسطًا، هي وسط بين النقيضين ديل.. الحقيقة هي في أصلها وسط بين المادية الغليظة والروحانية المفرطة.. في الإسلام المادة والروح بتزاوجن.. دي العبارة "الدنيا مطية الآخرة".. العبارة "الدنيا مطية الآخرة"، يعني لابد لك من دنياك، لكن بتجعلها وسيلتك لأُخراك، مش مكان إقامة تقيم فيها، وتتوسع فيها في المباهج، وفي الملاذ، وفي غيرها من الصور.. فهنا دي جات من هنا وسط.
أنا في مفهومي أن الإسلام اشتراكي، بيطور الاشتراكية إلى حدود الشيوعية، في معنى إشاعة المال بين الناس.. النبي كان يعيش كده.. النبي ما كان عنده ملكية وادخار، حتى رزق اليوم ما بيدخره لبكرة.. فكأنه فيما يخصه هو المال مشاع بين الناس، كل واحد يأخذ منه حاجته، وأنت إذا كان أخذت أكثر من حاجتك أنت بقيت مشغول بالغنى عن [الله] ..

حسن ساتي: لو سمحت أقول إنه في غرابة بين النظرة العلمية الأولى التي ابتدأ بها الحديث في مبحث الوجود، وبعدين في دخول العقول، وهو مذهب إن صح التعبير يمكن يكون أفلاطوني بحت، قديم يعني، مذهب تصوف.. والمذهب التصوفي نظرته إلى الوجود لا تصاحبها العلمانية بقدر ما تصاحبها الغيبية.. فمن وين أنت جيت جمعت بين النظرة العلمية للوجود والنظرة الغيبية له، من خلال حديثك السابق؟

الأستاذ محمود: ده كلام طيب [...] برضو.. هنا، النظرة العلمانية والنظرة الغيبية بيثمروا الفكر الموحّد عندما يكون ممارسة الأدب مع الغيب ممارسة تطبيقية.. يعني عندهم أنه علوم الحقائق علوم ذوقية.. الحقائق غيبية، غيبية بمعنى أنه نحن ما بنعرف الله معرفة حس، بنعرفه معرفة طرف منها إيمان، لأنه أخبرونا عنه الصادقين، أخبرنا الرسول عنه مثلًا.. فنحن نؤمن بالله ونعرفه معرفة طرف منها غيب، بعدين طرف منها شهادة، بمعنى أننا بنعرفه بمخلوقاته.. فهو محسوس في خلقه، غائب في كمالاته المطلقة.. كأنما خلقه طرف منه اتجسد.. ونحن إذا مارسنا في الجسد، وعشنا الدين، يجي اليقين بالغيب، وتلقى إذا الصورة العقلانية والإيمانية بالغيب تتجسد، وتبقى كأنها صور علمانية.. وده علم اليقين عند الصوفية كله كده، أنه التقاء بين الغيب والشهادة.. التقاء بين المحسوس والمعنوي.. نحن عملنا عمل ممارسة، ما هو عمل عقلاني.. وعند الصوفية طبعًا أنه العقل حجاب، النفس هي اللي بتعلم، لكن العقل زي عكاز الأعمى بين يدي النفس، يسير لي ليفتح لها الطريق.. إذا كانت النفس بتعتمد على العقل دائمًا ما بتصل للحقائق، إلا إذا تحررت من حجابه هو نفسه، باعتبار أنه هي ممكن تعرف في منطقة الثنائية بالعقل، الخير والشر، والظلام والنور، والحلو والمر، وهكذا.. لكن عندما تجيء الوحدة، اللي مظهرها تعددي في مرتبة الثنائية، إذا العقل ما وقف عن السعي بين يدي النفس، أو قول القلب أو البصيرة، سميها الأسماء المختلفة، ما يجي إدراك.. نحن بنسميه ده: الإدراك الشفعي بالعقل، والإدراك الوتري للقلب.. إذا كان أنت مشيت بالممارسة بالصورة دي بتجد أنه الغيب والشهادة، الغيب والشهادة، كأنه يقربوا لبعض بالصورة أنك تقدر تتكلم عن الدنيا والآخرة، وعن العلمانية والغيبية، بصورة موحدة.

حسن ساتي: لا أدري لماذا استشهدت في حديثك عن الغيبية برجال التصوف، وأنت كمفكر إسلامي بتدعو إلى بعض التجديد في الدين.. ما هو موقفك من التصوف؟ وفي موقف علماء الدين الكلاسيكيين، أنا بصر على التعبير ده، عندهم موقفهم الواضح من التصوف.. فأنت كإسلامي متجدد بتختلف معاهم في نظرتك للتصوف لدرجة ظهر إنك أنت بتستشهد بالمتصوفة في رؤيتم للدين.. فهل أنت نفسك متصوف، أول حاجة؟ وبعدين ثانيًا، من وين بتجمع بين التصوف والإسلام، زي ما جمعت بين العلمانية والغيبية؟

الأستاذ محمود: أنا متصوف نفسي، لكن بفهم التصوف على غير ما عليه الفرق الصوفية.. نحن عندنا أنه الطرق نشأت في وقت غفلة وجهل.. يعني الناس كانوا مثلًا مع النبي ما محتاجين إلا ليعايشوه، ويتلقوا عنه، ويسمعوا الوحي اللي بينزل بالقرآن، ويحفظوا القرآن، ويجتمعوا بالنبي باستمرار، وديل كانوا الأصحاب.. بعدين لما انتقل النبي ولحق بالرفيق الأعلى فضلوا الناس مع الأصحاب، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقوا ينتقلوا الواحد تلو الآخر، لغاية ما انتهوا الأصحاب، أو كادوا، جاء من سُمي بالتابعين.. الصاحب هو اللي صاحب النبي وشاف النبي.. بعدين التابع هو الشاف الأصحاب، لكن ما شاف النبي.. بعد شوية كمان التابعين انتقلوا، جاء تابعو التابعين، وهم الناس شافوا التابعين وما شافوا الأصحاب.. بعدين جو الوعاظ، زي الحسن البصري، وزي أبو يزيد البسطامي، وزي الجنيد.. في الوقت ذاك بقوا الوعاظ البيزهّدوا الناس في الدنيا ويرغبوهم في الآخرة.. وبقى أمر الدنيا راجح، والناس مغرورين بالدنيا، وسائرين في ركابها، من المرحلة اللي نصروا فيها معاوية وهزموا علي.. من الوقت ده أمر الدنيا بقى راجح لغاية ما برزوا الوعاظ اللي بيزهدوا الناس في الدنيا.. الوعاظ ديل مشوا في تزهيدهم ووعظهم إلى أن نشأت الطرق.. التصوف نشأ بصورة زي دي.. بداياته يمكن كان عند الجنيد، وصورته المؤكدة كانت عند الشيخ عبد القادر الجيلاني والسيد أحمد الرفاعي.. منها نشأت الطرق اللي تفرعت فيما بعد لغاية ما وصلتنا.
التصوف بالمعنى ده نحن بنرجعه إلى النهج النبوي.. النبي كان صوفي في معنى ما أنه زاهد، وفي معنى ما أنه صاحب قيمة، بينظر إلى قيم الأشياء، ما بيقدم الفاضل على المفضول.. عنده الدنيا وسيلة الآخرة، لا يمكن أن يضع أي أمر من أمور الدنيا قدام أمر الآخرة.. حتى قال عنه واحد: كان محمد كأنما نصب له علم فشمر يطلبه.. وأي شيء يشغله عن آخرته، أي شيء يشغله عن ربه، يطّرحه عنه.. وبالصورة دي هو في الحقيقة طريقه ونهجه وسنته عمدة الصوفية.. والطرق كلها اتفرقت منه على التسلسل اللي قلت لك ده.. وكل واحد منهم أخذ جانب من عمله، وعمل عليه أوراده، ورتب مراتبه عليها، وصار طريقته معروفة بحدود معينة.. لكن نحن رجعنا من ده كله إلى الطريق اللي منه نشأت الطرق، وسميناه "طريق محمد"، جامع للطرق كلها.. أنا صوفي بالمعنى ده.. ولذلك نحن كلنا الجمهوريين دعاة إلى طريق محمد، وإلى التخلي عن الطرق بالمعنى اللي اشتهرت به الصوفية في الطرق.
في الأصل ده نحن صوفية، وبنعتقد أن الصوفية عندها حظ كبير من الطريق النبوي، لكن من المؤكد أنه دخلتها شطحات، دخلتها تهويمات، ودخلتها اعتبارات قد تكون برضو تسربت من الخارج.. ما هي، زي ما بيقولوا الناس، أن التصوف أجنبي عن الإسلام أو أنه جاي من الهند أو جاي من الفرس، ماهو صحيح.. التصوف في أصل الإسلام، لكن الانحرافات حصلت في الإسلام نفسه، اللي هو إسلام ظاهر، ما بيلتبس على الناس أن [...] فيه، فكيف بالتصوف اللي فيه كثير من الغموض والدقة في معانيه.. تسرب له الفساد من هنا، وتسربت له بعض التقاليد والأوضاع اللي بتجي من ناس، كانوا مثلًا في الفرس يعبدوا النار، وكانوا في الهند يعبدوا صور من الروحانيات المختلفة والتجسيدات المختلفة.. الناس لما يدخلوا في الدين بيؤثروا فيه وبيتأثروا بيه.. فدخلت الإسلام عنصرّيات كثيرة وحضارات كثيرة، وتسرب منها للتصوف شيء، لكن ده ما أصل التصوف، زي ما يظنوه الناس.. التصوف مركوز في الإسلام إذا ما رُفع إلى حياة النبي، اللي هو الزهد والإصرار على القيمة.. ده جوهر التصوف، الزهد والإصرار على القيمة.