لقد أثبتت هذه الأحداث أن الشعب السوداني شعب أصيل، شجاع، كريم .. يجود بالنفس في سبيل العزة، والشرف ولا ينقصه غير القائد الذي يفجر كوامن أصالته، ويحرك حسه الوطني .. فاذا وجد قائدا، في مستواه، فان المعجزات تجري على يديه، والبطولات تسعى اليه خاطبة وده.. حقا كما قال الأستاذ محمود في تحقيق معه في جريدة الأخبار، فيما بعد، ((الشعب السوداني شعب عملاق يتصدره أقزام))

معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية - الكتاب الاول

menu search
لقاء الأستاذ محمود محمد طه
بالصحفي حسن ساتي

مدينة المهدية - ١٤ سبتمبر ١٩٧٦

الجزء الثالث

حسن ساتي: سؤال أخير وده خاص ببعض التلفيق الذي لازم شخصك كمفكر.. وهو خاص بقولك بإسقاط بعض الشرائع والوصول إلى درجة الكمال وإلى آخره من هذه المسميات المحفوظة.. شكرا..

الأستاذ محمود: هو ده زي ما سميته أنت تلفيق.. وتلفيق يعني مزعج.. وفعلا أشاع كثير جدا من سوء السمعة فيما يخص شخصي.. وناس كثيرين ذهبوا مذاهب فيها.. لكن برضه جانب الخير كان فيها، بمعنى أنه أثارت كثير من اهتمام الناس بأمر قد كان يكونوا فيه سلبيين.. ناس انتقلوا من السلبية لجانب الجدية في الموضوع ده، لأنهم سمعوا القولة دي وسمعوا الغرابة دي، وبقوا يحضروا المحاضرات ليسمعوا الحقيقة اللي بتقال شنو؟ والزول ده كيف قال الأمر ده.
الصورة هي دي: أنه العبادات أو أركان الإسلام الخمسة: قولك لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وصوم رمضان، وإيتاء الزكاة، وحج البيت.. دي مش هي نهاية ما يطلب مننا الدين.. هي في الحقيقة بدايته.. يعني دي الحد الأدنى.. ما في دخول في الملة إذا كان أسقطنا أي واحد من ديل.. إذا أنت قلت يعني: الصلاة ما واجبة علي لكن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وبصوم وبزكي وبحج.. ده خروج على الملة.. أي واحد من الأركان الخمسة إذا جحده إنسان خرج من الملة.. المطلوب في الحقيقة هو أنه من النقطة دي نسير لفوق، مش ننزل لتحت.
ده الكلام اللي قبيلك نحن قلناه.. الجماعة لما نحن بنتكلم عن تطوير الزكاة افتكروا أننا نحن بننقض الزكاة.. إنت إذا كان قلت للناس المال ده والله ما لكم ما تدّوا منه، يبقى أنت نقضت الزكاة.. لكن لو قلت للناس: النبي كان بيتزكّى بكل ما زاد عن حاجته الحاضرة.. وربنا قال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، أنت مندوب لأن تتبع النبي.. فإذا أنت في الحقيقة شريعتك يجب أن تكون ما تستطيع أن تعمله نحو التأسّي بالنبي.. وكان أبو بكر ينزل عن ماله كل ما اجتمع له ماله.. لأنه كان عايز يقلد النبي.. هو بيعرف أنه الزكاة بالمقادير بتزكيه.. لكن تَفاوُت الأصحاب كأنما بتنافسوا في اللِّحاق بالنبي.. ده المطلوب اللي نحن بندعو له، أنك أنت ترتفع من آية فرعية إلى آية أصلية.. في كل أمورنا نحن أدخل في الدين من الوضع العليه الحد الأدنى.. الناس لو كان عرفونا نحن بالصورة دي لا يمكن أن توجه لنا تهمة أننا بننقض الدين.
إذا أنت جيت للصلاة ما في كلام بيقول أنه: أنا انتهيت عن الفحشاء والمنكر ولذلك ما بصلّي.. أصله ده كلام ما ورد ولا بيتصوَّر أن يرد.. بل في الحقيقة ما بنعتقد أنه إنسان عاقل ما يمكن يقول عن نفسه تزكية بالصورة دي.. يقيف وسط الناس ويقول أنا انتهيت عن الفحشاء والمنكر.. ثم إن غرض الصلاة مش أن تنتهي عن الفحشاء والمنكر.. أن تنتهي عن الفحشاء والمنكر حد قريّب.. لكن الصلاة هي أن تصلك بالله فلا تنفصل.. لكن طبيعتك أنك بتعيش في الغفلة.. فكأنك أنت بترتفع بالصلاة لتتصل، وبتهبط بالغفلة تنفصل، تحتاج للصلاة لترفعك مرة ثانية.. وتجي العبارة: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ اللي هو (لا إله إلا الله).. ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.. وده سير سرمدي.. فالصلاة غايتها أنك أنت تكون حاضر مع الله زي ما الله حاضر معاك.. ودي بالصورة دي أصلها ما بتنتهي.. بل نحن عندنا أنها بتقوم هي في الدنيا، وبتقوم في المقابر - أهل البرزخ في البرزخ عندهم صلتهم، وأهل الجنة في الجنة عندهم صلتهم، وأهل النار في النار عندهم، والسير لـ الله سرمدي: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.
لكن الكلام اللي بنقوله أنه في شريعة جماعية يسير فيها القطيع كله.. شريعة جماعية بيسير فيها القطيع كله.. في شرائع فردية هي لما أنت تنضج فرديتك بتُعطى صلاتك اللي أنت فيها أصيل من الله بلا واسطة.. النبي بيسيرك من القطيع ليوصل كل واحد لـ الله.. وعند الله، السير لـ الله - بيقولوا الصوفية دائمًا - بعد أنفاس الخلائق.. ما فيش هناك ذرتين، أو عقلين، يمكنك أن تقول، بيعرفوا الله معرفة واحدة.. الله بيتجلّى لكل ذرات الوجود تجلٍّ مختلف.. وده عندهم من سعة الألوهية.. الألوهية لا تكرّر نفسها.. أنا وأنت مش صورة واحدة حتمية من جميع الوجوه.. مهما تشابهنا نختلف.. لأنه ظهور الله لنا يختلف، لأنه عقلنا وإدراكنا يختلف.. فالشرائع الفردية هي الأصل، والشريعة الجماعية هي المرحلة نحو الشرائع الفردية.
فإذاً في طلائع البشرية، في الأنبياء وفي الرسل، الأنبياء أصحاب شرائع فردية.. وعندك أنت في التعريف الظاهر أنه النبي رجل من البشر أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.. بمعنى آخر: النبي رجل من البشر أوحي إليه بشرع وأُمر أن يعمل به في خاصة نفسه.. ونحن عندنا نبينا صاحب شريعة فردية، كنبي.. بعدين عنده شريعته الجماعية على قدر أمته كرسول.. فتنزّل من نبوّته إلى رسالته ليخاطب الناس على قدر عقولهم.. يقول: نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم.. فالنبي صاحب شريعة فردية كنبي، ومعلِّم لشريعة جماعية كرسول هو معلم لأمته.
نحن عندنا تأسّي بالنبي.. النبي إذا سرنا وراه بإتقان يأخذك أنت لمقام شريعتك الفردية.. وتصبح أنت صاحب شريعة فردية، يسقط عنك تقليد النبي ولا تسقط عنك الصلاة.. إنما تُؤتى صلاتك اللي أنت فيها فرد، تأسيا بالنبي اللي هو صاحب صلاة هو فيها فرد.. فالشرائع الفردية إذا هي أساس الدين: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.. ملاقاة الله ما بتكون إلا بالعقول.. يعني نحن في الشريعة بنمشي لـ الله في مكة.. في الشريعة.. لكن هل في الحقيقة الله في مكة؟ هل هو في بيت الحجر اللي هناك؟ لا.. قال: ما وسِعَني أرضي ولا سمائي، وإنما وسِعَني قلب عبدي المؤمن.. فنحن بنمشي لمكة كمرحلة في التمرّس بالعبادة، وفي المناسك اللي بندخل فيها لنتتهيأ لأن نلقى الله فينا بعقولنا.. وملاقات الله بالعقل.. فإذاّ الشرائع الفردية هي أصل، ملاقاة الله، لأنها بتعدّنا لأن نعلم، ويجي: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾.. فإذن العبارة إذاً هي أنه يسقط عنك التقليد ولا تسقط عنك الصلاة، لكن تكون صاحب شريعة فردية حسب حقيقتك الفردية.. ومنها أنت تسير في مسار فوق مستوى شرائع الجماعة.. ودي في الحقيقة قيمة الإسلام.. ودي من دقائق النقط.. قيمة الإسلام اللي استطاع بها أن يوفّق بين الفرد والجماعة.
إذا نحن قارنا الإسلام بالماركسية.. الماركسية لما وجدت الصراع المستمر بين الفرد والجماعة، وأنه الفرد الجاهل لو وجد فرصته في الحرية عمله قد يكون تخريبي للجماعة، وأن الجماعة أهم من الفرد بالاعتبار الزي ده، أهدرت حرية الفرد.. اهتمت بالنظام الاقتصادي اللي بينظّم المجتمع في العدالة الاجتماعية.. والفرد حريته ما ضروري.. حرية الفرد أن يجد حاجة معدته، وحاجة جسده، وحاجة تعليمه، وحاجة فراغه بمسائل زي دي، لكن الفرد مذوَّب في الجماعة.. نحن عندنا هناك في النظام ده - ده بيسوقنا للكلام عن اليسار واليمين اللي قبيل كان فيهن الكلام - في الجانب ده حرية الفرد أُهدرت.. في الجانب ده اعتُبرت حرية الفرد، لكن اعتبار حبر على ورق، لأنه ما دام يُهمَل حقه في الاقتصاد أصبحت حريته في ورقة الانتخابات، حريته ممكن تُزيَّفها.. فالنظام اللي بيوفق بين الفرد والجماعة في جهاز واحد ما جاء.. والإسلام وسط بالمعنى ده.. الإسلام جعل الفرد غاية الجماعة.. الجماعة وسيلة، والفرد غاية.. ويجب أن ننظم مجتمعنا بصورة تجعل الفرد ممكن - الفرد الحر كامل الحرية - ممكن.. بمعنى أنه نديه حريته في الجماعة في النظام الديمقراطي.. نديه حريته في الاقتصاد في النظام الاشتراكي.. نربّي الرأي العام ليكون حر ومتسامح في الأنماط المختلفة.. بعدين نديه المنهاج اللي بممارسته يبرز إلى مقام فرديته.. دي قيمة الإسلام.
نحن لما أصررنا على أنه الشريعة الفردية في الإسلام هي الأصل ومارسناها لنؤكدها عشان نبرز قيمة الإسلام اللي بيه يوفق بين الفرد والجماعة، بدل الماركسية ما ظنّت أن الفرد والجماعة ضد بعض.. نحن عندنا الفرد في امتداد للجماعة.. الجماعة وسيلة، والفرد يمشي بعدها إلى مقام فرديته.. عنده حريته في الجماعة، وعنده حريته في الفردية.. فإذا نحن حققنا له حريته في الجماعة وادّيناه المنهاج أصبح يمكن أن يبرز لمقام حريته الفردية.
وحريته الفردية ضدها مسائل موروثة.. ضدها الخوف مثلا.. الخوف اللي نحن ورثناه مما كنا حياة رخوَة من حيوان الخلية الواحدة - اترسّب في عقولنا الخوف.. الخوف ده ما بنتحرر منه إلا إذا اطلعنا على الغيب: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾.. بالصورة دي نحن لما نحرره من الحاجة للطعام والكساء والسكن، ونحرره من الخوف في المضمار الممكن، نحرره بقوانين الديمقراطية العادلة في حريته، ونرفع ضده التمييز إذا كان امرأة، نديها فرصتها.. بعد دك هو بممارسته للعبادة - فرّغناه ليعبد - بممارسته للعبادة يصل إلى تحرير مواهبه، اللي قسمته بين عقل واعي وعقل باطن، ورُسِّبت في عقله الباطن المخاوف والأوهام الطويلة في مجال الموروث.. فأصبحت المقدرة الإسلامية - اللي امتاز بها عن كل الفلسفات الأخرى - هي مقدرته على التوفيق بين الفرد والجماعة لتركيزه على القيمة الفردية.
فمن هنا نحن ركزنا على أن الإسلام شريعته الفردية قائمة لكل واحد مننا.. نحن بنسير في القطيع لننضج ونتعاون مع القطيع لنوجد الفراغ اللي بيه نستطيع أن نحقق فردياتنا - اللي ما بتشبه الفرديات الأخرى.. نحن نقلد النبي كمرحلة.. لكن كمالك أنت مش أن تكون النبي، أن تكون حسن ساتي.. أن تحقق فرديتك.. أن تحقق الظاهر والباطن فيك.. سيرتك وسريرتك يتحدوا.. توحِّد القوى المودَعة فيك - اللي هي عقلك وقلبك.. بالصورة دي تظهر قيمة الإسلام.. وده المعنى اللي نحن أَصرينا به وتعرّضنا لسوء السمعة الطويل.. لكن كان لابد - ما دام نحن بنعلمه - أن نعيشه.
وفي آخر الأمر - راح يجي يبقى بديهي.. الكلام اللي نحن بنقوله هسع ومستغرب.. كان مستغرب بصورة أوسع، لكن باستمرار بدو الناس يفهموه.. وده أصل الدين.. نحن دعاة لأصل الدين.. اللي هو قيمة الفرد كفرد.. تحقق فرديتك بالمنهاج الديني.. وفي المرحلة دي يسقط عنك التقليد - تقليد النبي - لأنه المقلد كذّاب.. المقلد ناقص.. والتقليد مرحلة لأصالة.. فإذا أنت جيت للأصالة أصبحت تتلقى من الله، ما بتتلقى من النبي.. النبي كأنه بوصِّلك.. يقول لك: ها أنت وربك.. ويجي: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾.. والنبي يقول: «إنما أنا قاسم والله يعطي، ومن يُرِدِ به الله خيرا يُفَقِّهْهُ في الدين».. فدي العبارات اللي واردة في أصل ديننا، وهي اللي وردت في أصل الدعوة الجمهورية.
لكن ما فُهمَت لأنه ما سبق بها عهد بالمرة… وما قيلت.. ونحن بنقولها لأن الوقت وقت تتويج الفكر الديني كله.. دعوتنا نحن دي - اللي قائمة على أصول القرآن - هي ما دعوا لها الأنبياء والرسل والأولياء والمصلحون من لدن آدم.. وهي تتويج الفكر الديني والفكر العلماني البشري - من لدن السعي من حياة الإنسان الأولى - بيتوَّج بتحقيق فردية الإنسان.. تحقيق فردية الإنسان بيجي لما تحقق أنت الوحدة بين الانقسام الظاهري والباطني، لما تحقق السلام الداخلي في نفسك، لما ينتهي الصراع الداخلي بين العقل الواعي والعقل الباطن.. بإحلال السلام في النفس البشرية يحل السلام في الأرض.

حسن ساتي: كان هذا هو سؤالي الأخير.. وختاما لا يسعني إلا أن أشكر الأستاذ محمود محمد طه.. ولو كان لي أن أشيد، فليكن ذلك على سعة صدرك، وليكن ذلك أيضا على غزارة علمك.. وإني لأمل أن أتمكن من عرض هذا الموضوع المتشعب بصورة ترضي الأستاذ محمود أولا، وترضي الإخوان الجمهوريين.. شكرا.