لقد أثبتت هذه الأحداث أن الشعب السوداني شعب أصيل، شجاع، كريم .. يجود بالنفس في سبيل العزة، والشرف ولا ينقصه غير القائد الذي يفجر كوامن أصالته، ويحرك حسه الوطني .. فاذا وجد قائدا، في مستواه، فان المعجزات تجري على يديه، والبطولات تسعى اليه خاطبة وده.. حقا كما قال الأستاذ محمود في تحقيق معه في جريدة الأخبار، فيما بعد، ((الشعب السوداني شعب عملاق يتصدره أقزام))

معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية - الكتاب الاول

menu search
تصفية المحاكم الشرعية - المحاضرة السادسة

الخرطوم - داخليات المعهد الفني - ٨ يناير ١٩٦٩

الجزء الرابع

إذا كان سبنا الناحية القضائية جئنا للناحية الدينية، ودي بتهمنا نحن شخصيا - الجمهوريين - هم كبير جدا، بل الحقيقة هي اللي جعلتنا في مواجهة لرجال الدين الرسميين، اللي هم القضاة، ورجال الدين اللي هم الفقهاء المعلمين للدين.. في حاجة واضحة عندنا في الوقت الحاضر بيسموها رجال الدين.. في الدين الإسلامي ما في رجال دين.. في الدين المسيحي فيه.. لنفس الغرض اللي قلناه قبيلك أنه ما بينطلقوا مع الناس، بالصورة دي، الدين ما بيستوعب حياة الإنسان كلها.. لكن في الدين الإسلامي ما في.. عندنا نحن، لأننا انحطينا عن مستوى ديننا، أصبحوا عندنا رجال دين.. المسألة دي بدأت من بدري، وكلما فارقوا الناس الدين هي ظهرت.. هسع نحن مثلا تلقى صحيفة زي "الرأي العام"، في أي مشكلة من المشكلات، تقول: ما رأي رجال الدين في ذلك؟ دي عمّقت في أذهان الناس أنه نحن عندنا رجال دين، وهم مختصين بالدين.. أنت وأنا من الأفندية ده ما شغلنا.. أنا يعرّني جدا أن أُتهم بأني جاهل في الماركسية، أو جاهل في الوجودية، أو جاهل في الديمقراطية أو الاشتراكية، لكن بالدين ما مهم.. كثيرين من المثقفين يظهروا لك تماما أنهم ما بيعرفوا الدين، وما بيهتموا كثير.. يقرأ القرآن مكسّر، أو ما يعرفوا من وين، ويقول الحديث بالصورة ويتكلم زي ما عايز، لأنه في رجال دين هم المسؤولين.. النقطة دي نحن بنعتقد أنها يجب أن تتصحّح.. هي أنه ما في رجال دين.. وأنه الصورة اللي نحن بنراها من الناس اللي بيحترفوا الدين، ويعيشوا عليه وما يخلصوا في أي لحظة من اللحظات له، ولا للبلد، ديل مسخ من الصور اللي صحبت الدين، كلما انحط الدين.
قالوا أن في أول العهد من زمن الأصحاب، يحكى عن السيد عائشة قالوا شافت لها رجال ماشيين مقنعين وماشيين بمسكنه.. بيظهروا الوقار والخشوع.. فقالت: من هؤلاء؟ قالوا لها: هؤلاء هم القُرّاء.. قالت: أخبروهم لا يفسدوا علينا ديننا.. فقد كان عمر أقرأ الناس، وكان إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع وإذا ضرب أوجع.. من الوقت داك الصور دي بادية.. وكلما نحن فارقنا الدين، جو الناس اللي بيعيشوا على الدين، ويجعلوه حرفة.. بعدين ليجعلوه حرفة يعقّدوه.. تلقى أنواع من المسائل في الفقه معقدة بصورة لتتحصن، حتى أنك أنت وأنا ما ندخل عليها إلا عن طريقهم هم.. ودي عند كله ممتهن صاحب مهنة.. كله صاحب مهنة عنده الحكاية دي.. يجعل لمهنته قواعد وأصول وفروع يحيطها بها، حتى لا تلتمس إلا عنده، ليكون رزقه مكفول من جانبها.. ده نحن في الدين ما عندنا.. والنقطة دي نحن عايزين نأكدها ونوضحها زي ما بقول.. دي بتتعلق بأصل الدعوة إلى الدين.
في التاريخ عندنا العبارة الشائعة اللي بيقولوا أنه "الدين أفيون الشعوب".. قالوها الثوار السوفييت في الثورة السوفيتية، في روسيا سنة ١٩١٧.. في الماركسية طبعا في النظرة إلى الدين معروفة، لكن الشعار بتاع "الدين أفيون الشعوب"، ما حقه نحن نخفّف منه ونرفضه بسرعة ونقول ده قول ملحدين.. الحقيقة فيه تجربة مريرة.. التجربة المريرة هي أنه الناس الثوار لمّاً جو في البلد ليغيروا أوضاعه.. لقوا الشعب من عمال الإقطاعيات، المزارعين، والعمال، مستغلّين ومضّطهدين من فئات، منهم رجال الكنيسة.. القيصر وقوّاد الجيش والأمراء والقسس.. وكان القيصر يستعين بالفئات دي، ليمكّن قبضته من الشعب، خصوصا رجال الدين.. فكانت الكنيسة إقطاعية، عندها الأراضي الواسعة، وعندها رقيق الأرض زي ما عند الناس الآخرين.. والقسّيس يرفل في الحرير ويعيش في الترف، ويجي يوم الأحد في الكنيسة ويقول للناس أنه، إذا كان أنتو ما لقيتوا سعة من العيش في الدنيا دي، الله مدخر لكم ما هو خير وأبقى، في الآخرة.. ودي صورة تمشي باستمرار كل أحد تُقال.. هنا جات العبارة أنه "الدين أفيون الشعوب".. أنه القسس بيحاولوا يخدّروا الناس بتغفيلهم بالصورة دي، واحالتهم على موعود الله في الآخرة، وهم ما منتظرين الموعود ده، بياخذوا حقهم هسع في الترف والرخاء، بالصورة دي..
المسألة دي نحن ما نحب أن نرفضها بسرعة، لأنه نحن معرّضين لها.. نحن في البلد ده معرضين لها، بمعنى أنه شباننا المثقفين شافوا نوع سلوك رجال الدين، في مواجهة الاستعمار، في مواجهة العساكر، في مواجهة الحكم الوطني الحاضر وقبل حكم العساكر.. ظنّوا أنه الدين هو ما يمثله رجال الدين.. يئسوا من الدين.. ما شافوا فيه أي هبة لكرامة ولا لحرية ولا لفكر ولا لفهم ولا لإخلاص، إنما هو تكالب على الدنيا وحرص على الوظيفة والمنصب.
هنا أنا بفتكر أنه كثير من الشبان المثقفين الأذكياء اللي انصرفوا عن الدين، في شبه بين فكرتهم وبين فكرة "الدين أفيون الشعوب".. مش هي في المستوى نفسه، لكن من المؤكد أنه رجال الدين صدّوا الناس عن الدين، زي ما صدوهم في الثورة ديك.. بمعنى أن الإنسان بيشوف أنه، إذا كان ده الدين، بيعيشوه ناس وبيعيشوا عليه، وهم البيظهروه في مظهرهم، ودي أخلاقهم، يبقى الدين وقته انتهى.. نحن عايزين نحل مشاكلنا.. أنا بفتكر نمشي للبلاد المتقدمة نأخذ منها الشيوعية مثلا.. النتيجة دي موجودة في الوقت الحاضر وقد تتفاقم، وقد يجي وقت فعلاً، الشعب ده، على الأقل طلائعه الذكية، تنصرف عن الدين.. خصوصا إذا مر دستور إسلامي مكّن الناس ديل من أن يحكموا بجهالاتهم وأحقادهم وتقديسهم وساقوا البلد لهاوية.. من المؤكد أن البلد راح يرفض الدين.. من أجل ده نحن بنقول أنه مواجهة رجال الدين، لعزلهم عن الدين، وتمييزهم عن الدين، وإظهار الحقيقة اللي هي أن رجال الدين غير الدين.. وأنه ما في رجل منهم هو يمكن أن يكون حجة على الدين.. وأنه ما يجب أن يظن الظان أنه الدين ورجال الدين في حالة واحدة.
النقطة دي ما تفتكروها واضحة بالصورة اللي لمّاً تنشرح بتظهر.. يعني السيد إسماعيل الأزهري لمّاً قال أنه هو راح يدّي السلطة العليا في البلد للقضاء الشرعي.. وأنه إن شاء الله عندما يكون كل شي في البلد، كل التنفيذيين يأخذوا أوامرهم من القضاء الشرعي، هذا البلد يكون بخير.. دي آخر خطبته، اللي قالها في العيد.. معناه أنه هو قايم في ذهنه أنّه الناس ديل في المستوى المطلوب تماما.. وأنهم ما بينقصوا حاجة من تمثيل الدين، إلا أن نديهم السلطة.. لذلك نحن مواجهتنا الأساسية قائمة على أساس أنه لابد من أن يستقر في أذهان الناس الفرق الحقيقي بين الدين ورجال الدين.. ودي مواجهة محتّمة المجيء.. نحن نقول لكم هنا أنه محكمة الردة ما زادت على أن جعلت توقيت للمسألة دي.. فيما يخصنا نحن، محكمة الردة ما جابت لنا شي جديد إطلاقا، لكنها وضعتنا في الوقت اللي يجب أن تكون فيه المواجهة.. والوقت ده من وجوه كثيرة وجدناه هو الوقت المضبوط:
١) لخطاب السيد إسماعيل الأزهري، وطبعا نحن موقفنا اتخذ بمناشيرنا وكده قبل خطاب السيد إسماعيل الأزهري اللي في العيد..
٢) العجلة المحمومة لتمرير الدستور الإسلامي.. اللي أنتم شايفينّها هسع..
٣) أنا بفتكر حاجة تتعلق برضه بالموقف الخارجي..
العرب مثلا في مشكلة الشرق الأوسط ماعوا.. ماعوا بصورة ما عارفين يعملوا شنو تماما.. قبيلك كانت في ادعاءات.. كان في آمال يبسطوها.. لكن العرب في الوقت الحاضر في حيرة حقيقية.. يُضربوا في عقر دارهم وما يستطيعوا أن يعملوا شي.. بل الحقيقة يتكلموا عن أنه الإسرائيليين اتدخلوا في الجبهة الداخلية في مصر.. الطلبة المصريين بوعيهم ومستواهم يأخذوا عرايض يودوها للسفارات الأجنبية، يشتكوا من الوضع الداخلي.. جمال عبد الناصر يقول: الحاجة اللي حصلت أنا مش عارف حصلت كيف.. وأنه ما حصل في الإسكندرية هو سبب عار لكل من اشترك فيه.. ويقول أنه الطلبة كانوا قادتهم بعض الجواسيس الإسرائيليين.. أنا بفتكر الوقت ده برضه يدل على أن الحركة من أجل بعث الدين جات.. الناس في الداخل والخارج محتاجهن للمواجهة دي.. المواجهة يمكن يقول الإنسان فيها أنه الحزب الجمهوري وحّده في الميدان هسع.