إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
الدين والتنمية الإجتماعية
جامعة امدرمان الإسلامية

٦ اكتوبر ١٩٧٤

الجزء الثالث

لو أخذنا المسائل من أوائل نشأتها يبدو أنه المسألة بتظهر لينا بصورة متساوقة.. في حقيقة الأمر التنمية الإجتماعية ما ها وليدة العصر الحاضر، إلا بمعنى أنه مجهود البشر كله ماشي ليتجمع، ويستقطب، ويظهر بصورة علمية بارزة.. لكن منذ أن نشأ الفرد البشري، فكر، وإتجه، لإنشاء المجتمع معاهو.. ويمكن أن نشوف علم الإجتماع ناشئ في البدايات بصورة كبيرة.. ولعله لو أخذناه من البدايات وجينا بيهو في الوسط، وقفزنا بيهو للمدى اللي هو ماشئ ليهو، تكون الصورة أظهر لينا.. نحن قلنا أنه علم الإجتماع يعني بالإنسان ـ معيشته الحاضرة في الكوكب، ماضيه، من أين جاء؟؟ ومستقبله إلى أين هو ذاهب؟؟ وعند النشأة - نشأة المجتمع، بعد أن ظهر الفرد البشري، المسائل ما كانت بتتوفر كثير ليعرف الانسان الإجابات على جميع الأسئلة المطروحة.. لكنه كان بيهتم باللحظة الحاضرة، لأنه كان مشدود إلى خطر كبير، خطر من العدو، خطر من الجوع، خطر من المرض، خطر من الموت.. خوف يحتوشه من جميع وجوهه، يشده إلى أن يهتم بحاضره.. لكنه، عنده شعور دائماً بيدفعه إلى أنه هو ماشي إلى مستقبل مجهول.. تطالعه منه صور.. الصور، إلى حد كبير، جات بيها الأحلام.. يعني الإنسان يعرف أنه بموت، من الوهلة الأولى.. عرف أنه بموت، وما عنده شك في دا.. شاف أنه الموت ما هو نهاية لحياته في هذا الكوكب.. لأنه رأي في أحلامه أهله البموتو، بيشوفهم بيعملوا في حيز معين، بيعملوا أعمال قريبة مما كانوا بيعملوا فيها عندما كانوا أحياء معاهو.. وشعر بأن هناك حياة أخرى.. الحياة الأخرى دي صحبت المجتمعات المتخلفة، وأثرت في طريقة تفكيرن، وطريق عاداتن، و طريقة أوضاعن.. ودي كانت مؤكدة عندهم بصور لا شعورية، يمكنك أن تقول.. كانوا متأكدين أنه هم، بحياتهم الحاضرة، ماشين ليموتوا، لكن الموت ليس نهاية حياتهم.. ثم أنو الإنسان، ليحتفظ بحياته، إضطر ليخترع مسائل كثيرة، منها الآلة، زي ماهو معروف عندنا، لكن أهم شئ إخترعه الفرد، في بدايات حياته، هو المجتمع..
يمكننا أن نشوف الصور في الأول أنه الفرد كان، والمجتمع لم يكن.. كانت في البداية.. الفرد كان، والمجتمع لم يكن.. فسار الفرد بالصورة المعروفة عندنا من رجل وإمرأة وذرية بينهما.. وساروا، في تكاثر و تطور، متجهين بإستمرار لصورة من التعاون المفروض عليهم بدوافع الرغبة في الأمن -الرغبة في الحياة.. نحن عندنا الصورة برضها تجئ في الدين.. ودي ما أحب أن تكون مؤكدة.. هي أنه الدين ونشأة المجتمع بدوا بداية واحدة.. لأنه نحن موضوعنا: "الدين والتنمية الإجتماعية".. يمكنك أن تقول: الدين والمجتمع.. هنا: (يا أيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة)، دا الإنسان الفرد.. (وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء وإتقوا الله الذي تساءلون به، والأرحام.. إن الله كان عليكم رقيبا).. فنشأة المجتمع جات بعد نشأة الفرد بمدة.. والمسألة دي بتهمنا لأنه في ربكة كبيرة في التفكير الإجتماعي ـ في التفكير السياسي، يمكنك أن تقول، في الوقت الحاضر.. ياتو المهم: الفرد أم الجماعة؟؟ نحب أن يكون مؤكد، أنه الفرد كان، والمجتمع لم يكن.. ثم نشأت الأسرة.. والأسرة برضها لا بد أن تأخذ دور كبير جداً من جلستنا دي، ومن إهتمامنا في هذا الحديث.. الأسرة هي المجتمع الأولاني، أو اللبنة التي نشأ منها المجتمع.. فمن الأسرة جات القبيلة، وإطورت المسائل لغاية الصور الأممية التي نراها في وقتنا الحاضر..
والدين اللي هو موضوعنا: "الدين والتنمية الإجتماعية".. الدين نشأ في نفس الوقت النشأ فيه المجتمع، وفي الحقيقة يمكنك أن تقول، تشاريع الدين، تشاريع الدين، نشأت في نفس الوقت الذي نشأ فيهو المجتمع.. ولا يمكن أن يكون في مجتمع بدون ما تكون في تشاريع دين.. إذا كانت التنمية الإجتماعية هي زيادة المجتمع ـ أفراد المجتمع، في كمه، وفي كيفه، بغرض جعل المجتمع وسيلة صالحة ليوفر للفرد أن يتحسن نوعه، بالحرية وبالثقافة، وبممارسة الفنون المخلتفة، وبسعة أفقه، وببروز شخصيته، وحريته وكرامته.. إذا كان المجتمع هو معد لهذه المسألة، المجتمع، عندما بدأ في البداية كان أهم من الفرد.. والإنسان يلاحظ أنو نشأة العرف الأولانية، أو يمكنك أن تقول الشريعة الأولانية، نشأت وهي في مظهرها ضد الفرد، ومع الجماعة.. نشأت لتطوع الفرد لخدمة الجماعة بصور عنيفة جداً، حتى أنو الفرد كان يضحي بيهو في مذابح الجماعة ليرضى القوى الهائلة البخافها الإنسان كعدو، أو بواددها الإنسان كصديق.. مظهر الجماعة كان طاغي على حياة الأفراد.. الدين نشأ في صدور الأفراد في وقت سابق لنشوء الشريعة، أو القانون، لكن لا يمكن أن ينشأ مجتمع إلا حول هذه القوانين.. والقوانين بتبدو في الأول عنيفة جداً ضد الفرد.. لكن إذا كان الإنسان دقق فيها، ونظر فيها، يجد أنها هي لمصلحة الفرد، وهي لمصلحة الجماعة من الوهلة الأولى.. فيمكن إذن أن نقول الدين نشأ عند الفرد عندما علم أن هناك حياة أخرى، وعندما علم أن هناك، في البيئة البعيش فيها، قوى كبيرة وهائلة، وأن هذه القوى بعضها ضده، وبعضها معاهو.. مثلاً الظلام، والرعد، والحريق، الصواعق، دي حاجات ظهر ليهو أنها ضده، وأنها رهيبة، وأنها ما بهمها مصيره هو.. حرارة الشمس، ودفئها، والمطر البينزل برذاذه، وينساب، ويروي ليهو الأرض، وينبت النبات، النور اللي بشعر بيهو مع دفء الشمس، بضئ ليهو الطريق، ومسالكه.. كل الأشياء الزي دي قدر يبوبها في حاجة معاهو، وحاجة ضده.. لكن على أي حال، ساقته إلى رهبة كبيرة، وإلى خوف كبير، وإلى نوع من ممارسة المصادقة، أو ممارسة المعاداة، والمناجزة، ودي من الأشياء اللي ساقته لأن يعيش في مجتمع يتكاثر مع بعض ليمشي لأمام..
طريقه كله كان مرسوم في أنه الجماعة ضد الفرد.. إذا جينا للدقة نجد أنه ضدية الجماعة للفرد بتخدم الفرد في أنها بتهذبه، وأنها بتربيهو، وأنها بتخرج منو العصارة اللهي في آخر الأمر بقت مقدرته ليسيطر على دوافعه الغريزية بدون ضوابط.. يعني لمن، يمكنك أن تقول أنه أول ما نشأ من العرف ـ أول ما نشأ من الشريعة ـ هي عبارة الحرام والحلال، في ضبط الغريزة الجنسية مثلاً.. لأنه إذا كان المسألة نشأت بين رجل وإمرأة: (إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة، وخلق منها زوجها) هذه الزوجة أصبح في إتجاه ليها، لا بد أن يكون مصان ، من إندفاعات الغريزة الورثناها من الحيوان.. أصبح في ضوابط.. أصبح في أنه الإنسان عليهو ألا يقرب قرابات معينة بالإتصال الجنسي بيها.. حرمت مثلا الأم، حرمت الأخت، حرمت بنت الأخ، حرمت القريبات البصورة دي، ليخلي الإنسان - النسيب (الصهر) – يكون مطمئن أن يقعد مع أصهاره.. إذا كان الولد محرم عليه أخته، يمكن إذن الرجل الأجنبي أن بتزوج وأن يطمئن على زوجته، لأن العرف قائم على أنه الولد لا يمكن أن يقرب أخته، هو إذن مطمئن على زوجته، وغريزته الجنسية الموروثة من الحيوان من قديم يمكن أن تجد تهدئتها، يمكن أن تجد طمأنينتها في أنه هو واثق من أن الأمور بتسير في غيابه على ما يرام.. أصبح الإنسان، بهذا القانون، في وقت واحد، يراعي حق الجماعة في صيانة عرفهم الذي يشيع الطمأنينة بين الناس في أن يتكاثروا، وأن يعيشوا مع بعض، وتبقى الأسرة، الولد البالغ يعيش مع أبوه، والصهر يعيش معاهم، ويتكاثروا بالصورة دي.. في نفس الوقت اللي هو براعي فيه هذه الحقوق يجد أنه عنده ضوابط لنزعاته ولغرايزه ـ عنده سيطرة ـ عنده إرادة تسيطر على شهوته.. من هنا بدأ العقل مسيرته، وبدأ المجتمع البشري يدخل في تطوراته المختلفة.. ومشت المسألة دي حادة، أشد الحدة ضد الفرد.. لكن إذا عاينت بدقة تلقى أنه التشريع، من الوهلة الأولانية، بوفق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة.. الشريعة نشأت بصورة، من البداية، فيها توفيق حكيم بين حاجة الفرد، وحاجة الجماعة.. لكن الأمر ظاهر فيهو الضغط على الفرد، لأنه الفرد حيوان عنيف، غير مروض، ويحتاج إلى شيء كثير من الإرهاب، ومن الخويف من مخالفة هذه القوانين.. بطبيعة الحال، نشأ معاها الرأي الديني في العقيدة في أنه إذا هو أمن عقوبة المجتمع القوى الرهيبة البخافها، والبيحب أنه يكون في سلام معاها، برضها مشرفة عليهو، وتتطلع على ما يكنه .. ودي معاني نشأت برضو في البداية، في صفة القوى، أنها عندها المقدرة الخارقة على أن تعرف ما تعمله أنت ولو في خلوتك..
فبدأ المجتمع مسيرته متدين في الحقيقة.. لكن الدين هنا معناهو شنو؟؟ نحن قبيلك عرفنا التنمية، وعرفنا علم الإجتماع، وأغراضه.. الدين، الدين يمكنك أن تقول، "المعاملة".. الدين الجزاء..يعني: "مالك يوم الدين" يعني يوم الجزاء.. يوم المحاسبة.. يوم معاقبة الإنسان على ما قدم من جرائم، ومكافأته على ما قدم من حسنات.. الدين الجزاء.. الدين المعاملة.. القاعدة فيهو "كما تدين تدان" كما تعامل تعامل.. والعبارة النبوية الشريفة: "الدين المعاملة".. والقاعدة النشأ عليها الدين، في شريعته، في البدايات، في الحقيقة، برضها مضمنة في القرآن بصورة تحتاج لأن يركز عليها الإنسان.. في البدايات بالصورة دي القاعدة التشريعية اللي هي سابقة للعقيدة في الحقيقة، سابقة للعقيدة (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).. القاعدة دي هي بتظهر في الصراع بين الأحياء وبين البيئة.. وعندما سارت المجتمعات في تحديدات معينة لحرمة أشياء وحل أشياء، جات القاعدة التي قامت عليها شريعة العقول وقامت عليها العقيدة، وجات العقيدة كانت بتوكد معاني الحرمة، ومعاني الحل، والعقوبة اللي إذا فلتت من القانون البيطبقوه المشايخ، البيطبقوه الناس، ما بتفلت من الآلهة البتراعي الإنسان ، وبتراقبه.. القاعدة دي كانت العقيدة اللي أعانت على مراقبة الإنسان لأعماله ا : (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).. دا معنى من نشأة قوانين الدين قبل العقيدة.. ترى أنه القاعدة دي تنسحب على الأحياء كلهم.. بعبارة أوضح، أنه الحي ، كائناً ما يكون الحي دا، قبل ما يكون هو بشري، إذا ما استطاع أن يوائم بينه وبين بيئته بينقرض.. دا قانون الحياة..
هذا معنى من معاني الآيتين (فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) ثم إن القاعدة التشريعية القائمة على العقيدة جات موازية لهذه وهي تقول: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، و الأنف بالأنف، و الأذن بالأذن، و السن بالسن، والجروح قصاص.. فمن تصدق به فهو كفارة له.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).. دا هو قانون "المجتمع" ويمكن أن يسمى قانون "العقول" في مقابلة تسمية قانون: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) بقانون "الحياة" (قانون الجسد) وبين قانون الجسد (قانون الحياة) وقانون العقل (قانون المجتمع) علاقة ومناسبة..
ونحن عندما نشأنا ومشينا لي قدام، لغاية ما جينا للتنمية الإجتماعية غرضنا الحقيقي أن يكون في مواءمة بيننا وبين بيئتنا..